المشهد المصري -على قساوته- لا يمثل بالنسبة لي ولكثيرين صدمةً تستحق الاكتراث، إذ لم يكن مفاجئا أيٍ من القرارات والخطوات التي اتخذها الإخوان المسلمون باسم الرئيس مرسي الذي لا أظنه أكثر من كمبارس يؤدي دوراً متفقاً عليه في أروقة دار المرشد العام لتحديد معالم الطريق الى دولة الخلافة الإسلامية التي طالما بشر بها الإخوان منذ باكورة ما سمي بالربيع العربي.
منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة والمتوالية الإخوانية تواصل دورانها على حطام تهاوي مجمل قواعد الدستور والقانون وابسط قواعد الحكم الرشيد
فما إن أدى اليمين الدستورية( على مضض) أمام المحكمة الدستورية حتى عاد وأمر مليشيات حزبه بسد كل منافذ المرور أمام قضاتها الأجلاء لمنعهم من الدخول إليها لأداء واجبهم باعتبارهم رمانة الميزان بين سلطات الدولة والشاهد والمراقب على سلامة أو اختلال التزام مؤسسات الدولة بتطبيق القوانين
وما إن تحرك - مستعرضا- أمام الجماهير في ميدان التحرير مكرراً القسم أمامهم بالالتزام بحماية الدستور والقانون واصفاً جماهير التحرير بأنهم أساس الشرعية ومنبع السلطة وملهم الثورة وصانعها وانه لن يسمع ولن ينصاع لأي صوت يعلو فوق صوتهم، حتى عاد لينقض على شعب التحرير واصفاً إياهم بالبلطجية والمرتزقة وعملاء النضام السابق ، وقلب لهم ظهر المجن وانبرى أمام جحافل الإخوان الذين اصطفوا أمام قصر الاتحادية يصفقون ويهتفون ويهللون ويكبرون ويسمعونه النصائح ويدبجون له المدائح حتى وصل الأمر ببعضهم أن وصفه بخليفة المسلمين الراشد المجاهد، بينما تواضع البعض ليخفض المرتبة الى وصفه بالصحابي الجليل .
ثم ألم يستهل الرئيس مرسي عهده الجديد بالبيان الانقلابي رقم واحد للإطاحة بالسلطة القضائية والدستور حين أمر بعودة مجلس الشعب المنحل بقرار من أعلى هيئة قضائية في مصر باعتباره جاء نتيجة فساد القواعد القانونية التي تم انتخابه بموجبها واعتبار هذا المجلس وما ترتب عليه باطلاً بما فيها الجمعية التأسيسية التي أتت من مجلس لا شرعية له، وبالتالي من أين له أن يأتي بكائنات شرعية مهامها التشريع لدستور لمصر ودولتها المدنية هدف الثورة وعزاء شهدائها، وهي أي الجمعية التأسيسية التي من أجلها وفي سبيلها تجلت عبقرية الإخوان للإيعاز للسيد الرئيس بإصداره إعلاناً دستوريا يحجبها عن أعين الحساد من القضاة والقوى المتطلعة لدستور مدني ويجعلها هي وكل ما يصدر عن مرسي من قرارات فوق الشبهات محصنة منزهة عن الأخطاء لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا تقبل الطعن أو المراجعة أو التوقيف أو التأجيل أو التبديل .
ألم يكَفِّر حزب مرسي الرئيس الراحل أنور السادات، واتهمه بالخيانة العظمى بسبب توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل التي استعاد بموجبها سيناء كاملة بملحقاتها في شرم الشيخ وطابا،مع الإقرار بحق الفلسطينيين بحكم ذاتي لمدة خمس سنوات تقام بعدها دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67 ، فأهدر الإخوان دم السادات وأمروا خالد الأسلمبولي بقتله في ذكرى صناعة المجد في العرض العسكري يوم السادس من أكتوبر عام 1980، عقاباً له على توقيع معاهدة كامب ديفيد . بعد ذلك خاض مرسي وحزبه الانتخابات الرئآسية مقدمين برنامجهم على منهج القائد صلاح الدين الأيوبي قاطعين وعداً إسلاميا للناخبين بتحرير فلسطين، وإسقاط كل المعاهدات الخيانية التي وقعها السادات مع اليهود الكفار .
لكن ما إن وضعت المعركة الانتخابية أوزارها، بل وقبل إعلان فوزه بادر مرسي الى الإعلان الناجز والصريح الالتزام بكامل المعاهدات الدولية بما فيها معاهدة الصلح مع إسرائيل التي قتل الأخوان الرئيس السادات بسبب توقيعها، أكثر من ذلك بادر مرسي الى وصف الرئيس السادات بالقائد التاريخي المنتصر، فقام بتكريمه في شخص أرملته وفي مشهد أقل ما يوصف بأنه كان اعتذارا صريحاً للشعب العربي وللجيش المصري ولأسرة السادات عن جريمة قتله .
أبعد من ذلك ذهب مرسي بعيداً وبمسافات ضوئية عن مبارك والسادات حين خاطب شمعون بيريز في رسالته الشهيرة واصفاً إياه بالصديق المخلص العزيز .
إذاً تلك بعض من تجليات مرسي الثورية تنفيذاً لثلاثة عهودٍ أقسم بموجبها على احترام الدستور والقانون وحماية الشعب والوطن ورعاية مصالحه وصيانة أراضيه.
وماذا بعد :
عاد الى المشهد الثوري السيد حمدين صباحي والبرادعي وعمرو موسى والسيد البدوي وآخرون يعضون أصابعهم حسرةً وندماً ويذرفون الدموع ومن ورائهم الشباب والثوار وحلم الدولة المدنية، وكأنهم يريدون القول أنهم خدعوا أو غرر بهم أو أخذوا على حين غرة، وفي هذا جلد للذات وهروب من الحقيقة المرة التي يعلمها صباحي ورفاقه أنهم وقعوا ضحية أنانيتهم المفرطة، ونهمهم على السلطة كل يريدها لنفسه دون سواه، وبالتالي ذهب كل منهم وراء تقديراته الخاطئة، فعمقوا الخلافات وتفرقوا شيعاً وأحزابا ومن ورائهم تفرق الناخبون وأهدرت القوة الناخبة الضاربة والتي كان بإمكانها أن تظهر الحجم الحقيقي لمرسي وجماعته الذين تسللوا وسط هذا الزحام الذي صنعه صباحي وموسى وأبو الفتوح وشفيق وغيرهم فتركوا الممر آمناً لمرسي وحزبه ليجنوا ثمار السلوك السياسي المراهق لسياسيين كبار بقامة حمدين صباحي الذي يمتلك كارزمية رئيس دولة بحجم جمهورية مصر العربية .
إن القول بأنهم خدعوا فيه قدر كبير من الإساءة للتاريخ السياسي للبرادعي وصباحي وعمرو موسى الذين يمتلكون كل مقومات الزعامة الإنسانية وبالتالي فيه مغالطة للشعب المصري وقواه المدنية الذين يعلمون كما تعلم هذه النخبة طبيعة الطموح الامبراطوري لجماعة الإخوان وحلمهم في قيام دولة الخلافة القائمة على الطاعة والحق في الولاية والحاكمية كيفما اتفق وبأي طريق حتى لو كانت عبر التمسح بحائط الديمقراطية باعتبارها خدعة لا بأس بها للوصول الى دولة الخلافة.
وإذا كان صباحي ورفاقه قد أدركوا مؤخراً أنهم كانوا في غيبوبة الكهنوت أو انه قد أجريت لهم عملية تنويم مغناطيسي، فإن مفعول ذلك المخدر ما كان له ان يفعل فعله لولا استجابتهم لطموحات غير مشروعة عندما فكر كل منهم بمفرده وبمعزلٍ عن المنظومة السياسية المدنية والتي كان بإمكانها أن تصرع الكهنوت وتحقق عليه انتصاراً حاسماً ونهائيا، لذلك فمن غير المقبول أن يكفر صباحي ورفاقه بإظهار وعي لا أظنه كان مفقودا عندما غضوا الطرف عن فصول مسرحية تحديد معالم المشهد من خلال صفقة عقدها الإخوان مع المجلس العسكري الذي استجاب لإجراء انتخابات تشريعية لمجلس لا يعلم وظيفته ثم رئاسية لرئيس دولة قبل إيجاد دستور يحدد اختصاصاته.
هكذا سمح المجلس العسكري والقوى المدنية بوضع العربة قبل الحصان، حين توافقوا على استثمار اندفاع الجماهير الى التغيير لاقتيادهم الى مشهد عبثي تجريبي بانتخاب رئيس ثم بعد ذلك يخرج له دستوراً وفق هواه وهويته وفي أول سلوك ( ديمقراطي) في العالم الذي تعود على أن تصنع المؤسسات والدساتير الرؤساء وليس العكس.
فهل وصلت الرسالة من أرض الكنانة الى اليمن وغيرها من الأقطار التي هتفت للربيع العربي والذي أراد الإخوان تجريده من قيم الجمال والهدوء والاعتدال ليحل مكانه تسونامي التطرف والإقصاء والعودة الى الأوضاع التي ثارت الشعوب من أجل إسقاطها؟!.
مصر.. يوم لا ينفع الندم
أخبار متعلقة