عــبر أول رئيس لحـكومة الكيان الصـهيوني (ديفيد بن غوريون) عن تطلعات إسرائيل إلى السيطرة على البحر الأحمر في عام 1949 إذ قال (إننا محاصرون من البر.. والبحر هو طريق المرور الوحيد إلى العالم والاتصال بالقارات. وإن تطور (ايلات) سيكون هدفا رئيسيا نوجه إليه خطواتنا) وقد شعرت الدول العربية المطلة على البحر الأحمر بالخطر فقامت مصر بالتعاون مع السعودية عام 1950 من أجل منح الأولى عدة جزر ذات أهمية إستراتيجية وتتحكم في مدخل خليج العقبة وهما جزيرتا (تيران وصنافير) تحت السيطرة العسكرية المصرية والهدف من ذلك تقييد الملاحة الإسرائيلية.. وكان هذا الإجراء من ضمن الدوافع التي أدت إلى العدوان الثلاثي 1956، (ينظر في هذا: علي عبود راضي، الإستراتيجية الصهيونية في منطقة القرن الإفريقي، مجلة الأمن القومي، بغداد، أيلول (سبتمبر)، 1991، ص110). وعندما فرضت مصر حصارا على الكيان الصهيوني باحتلال خليج العقبة كان سببا مباشرا للحرب ضد مصر وسورية في (5 حزيران (يونيو) 1967) وقيام الكيان الصهيوني بعمل عسكري واسع النطاق، انتزع فيه أراضي عربية جديدة. وقد أدركت الدول العربية والتي عرفت بدول الطوق والدول المطلة على البحر الأحمر الخطر المحدق بها وأدركت مدى أهمية البحر الأحمر بالنسبة للإستراتيجية العربية ولاسيما مضيق باب المندب الذي شكل أهمية حيوية بوصفه حلقة وصل بين الكيان الصهيوني من ميناء ايلات وخليج العقبة إلى جنوب شرقي آسيا وأفريقيا وفي المدة الممتدة من 70 - 1973 نشط الكيان الصهيوني في البحر الأحمر إذ شكل تهديدا خطيرا على المنطقة وعدت اليمن نفسها في هذه المدة طرفا من أطراف الصراع العربي- الإسرائيلي وتجلى ذلك في موقف السياسة اليمنية في أثناء الحروب التي دارت بين العرب وإسرائيل فقد طرحت اليمن في الجامعة العربية النشاطات الصهيونية على الساحل الاريتري وقرب باب المندب وعلى أثر ذلك تحركت الجامعة العربية وتحققت من الطرح وثبت لها استئجار الكيان الصهيوني من إثيوبيا جزر (ابو الطير) وحالب ودهلك وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية دعت اليمن والدول المطلة على البحر الأحمر لعقد مؤتمر في جدة في 15 /7 /1972 وفي 11 /7 /1973 اكتشفت شبكة تجسسية في جزيرة بريم وسط مضيق باب المندب. وكانت مهمتها جمع المعلومات عن منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومراقبة السفن الإسرائيلية. وحمايتها وتأمين سلامة مرورها من مضيق باب المندب.وفي 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 هاجمت الجيوش المصرية السورية إسرائيل وجرى التنسيق العربي لأول مرة في مجال تأكيد حق العرب في تجسيد سيادتهم على مياههم ولاسيما البحر الأحمر ويتمثل ذلك بإغلاق مضيق باب المندب في وجه الكيان الصهيوني، إذ قام اليمن بإرسال قواته في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 إلى عدد من جزر البحر الأحمر لمنع أي محاولة إسرائيلية تستهدف احتلال الجزر.
وفي المدة الممتدة من 1973 حتى 1979 انعقدت مؤتمرات عدة لحماية امن البحر الأحمر من التغلغل الصهيوني في المنطقة وقد خرجت هذه المؤتمرات بتوصيات عديدة منها: استقلال البحر الأحمر عن الصراعات الدولية وإن يكون بحرا عربيا، وضرورة التعاون بين دول البحر أحمرية واستغلال ثرواته لخير شعوب المنطقة والتعاون العربي ضد سياسة الكيان الصهيوني وكل هذه المؤتمرات التي دعت إلى أمن البحر الأحمر أدى فيها اليمن دورا كبيرا في صياغة رؤية موحدة ضد التغلغل الصهيوني. وكان توجه السياسة الخارجية اليمنية توجها ايجابيا هدفه إثارة قضية لها أهميتها فضلا عن تنبيه الأقطار العربية المطلة على البحر الأحمر .
وقد أدرك اليمن مبكراً الأطماع الإسرائيلية في المنطقة وسعيها إلى توطيد علاقاتها مع البلدان الإفريقية القريبة وفي المدخل الجنوبي للبحر الأحمر في أكتوبر (تشرين الأول) 1977 أرسل اليمن الشمالي (سابقا) مذكرة سرية إلى الجامعة العربية يؤكد فيها تزايد الوجود العسكري الإسرائيلي والإثيوبي في منطقة ساحل اريتريا وباب المندب وإن إثيوبيا باعت الشريط الساحلي الاريتري للمخابرات الصهيونية الأمر الذي يمكّن الكيان الصهيوني من التهديد المباشر للجزر اليمنية والمضيق الجنوبي ولاسيما ان بعض الدول العربية سلكت سلوكا عدائيا تجاه بعض الدول الإفريقية، وعدم بروز سياسة عربية واضحة المعالم تجاه منطقة البحر الأحمر والاهم من ذلك الخلافات العربية- العربية في المنطقة والتردي الذي أصاب العمل العربي المشترك وانعكس ايجابيا لصالح المخطط الصهيوني وحصوله على مكاسب سياسية خطيرة، تمثلت بمعاهدة كامب ديفيد في 16 آذار (مارس) 1979، التي جاءت بدورها للاعتراف بحرية إسرائيل في الملاحة في خليج العقبة ومضيقي تيران وقناة السويس مما أسهم في خلق حالة اختلال في التوازن الاقليمي واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وأصبحت إسرائيل تمارس دورا يفوق حجمها الفعلي ويتجاوز قدرتها المادية والمعنوية ووجدت مناخاً مواتياً لممارسة عدوانها على العرب وترسيخ وجودها في منطقة البحر الأحمر.
وقد صرح رئيس القوات البحرية الإسرائيلية (( ان سيطرة مصر على قناة السويس لا يضع بين يديها سوى مفتاح واحد فقط في البحر الأحمر أما المفتاح الثاني والأكثر أهمية من الناحية الإستراتيجية في باب المندب. فمن المحتمل ان يقع بين يدي إسرائيل ان هي عرفت كيف تطور سلاحها البحري في منطقة البحر الأحمر)) . ويقول الكاتب اليهودي ( (الياهو سالبيتر) عن إستراتيجية إسرائيل في البحر الأحمر ان المتخصصين بشؤون الدفاع الإسرائيلي والمخططين له يدركون جيدا مدى خطورة التهديد العربي المحدق بالبحر الأحمر مما يعطي أهمية خاصة للعلاقات الإسرائيلية مع الدول غير العربية الواقعة شرق إفريقيا .والتغيرات الدولية منذ بداية هذه الدراسة 1990، أن إسرائيل وجدت مناخا أفضل وأكثر ملاءمة أمام الإستراتيجية الإسرائيلية لتحقيق أمن إسرائيل من خلال التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والتفوق العسكري اقليميا، وتعزيز العلاقات مع دول البحر الأحمر والقرن الإفريقي لتأمين ملاءمتها وبناء اقتصادها، ونجد ان معظم التحليلات السياسية العربية أثبتت ان إقدام ارتيريا على احتلال جزر حنيش في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1995 بدعم وقيادة إسرائيلية جرى لصالح الإستراتيجية الإسرائيلية التي تتطلع إلى تحقيق تقدم ملموس للسيطرة على البحر الأحمر حيث نجح الكيان الصهيوني في الالتفاف على استقلال ارتيريا وتوثيق العلاقة مع حكومتها وسارعت إلى تقديم الدعم للجناح الذي تزعمه اسياس افورقي. ففي عام 1990 زار وفد إسرائيلي اسمرة برئاسة (شئول شيه) فاستطلع الوضع في ارتيريا وجنوب البحر الأحمر ومن ثم وضعت إسرائيل خطة عاجلة للتحرك نحو إفريقيا وقد ناقشها الكينست الإسرائيلي بتاريخ 16 /3 /1992 في جلسة سرية لمدة خمـــس ساعات ومن أهم ملامحها الآتي:
1 - التحرك باتجاه إفريقيا عبر ارتيريا مما يعني سرعة تطبيع العلاقات مع الدول الإفريقية مثل إثيوبيا ونيجيريا وزامبيا وتوغو وموزمبيق وكينيا لمواجهة النفوذ العربي في إفريقيا.
2 - تقوية الوجود العسكري الإسرائيلي في البحر الأحمر وفي ارتيريا وإثيوبيا وقد جرى إرسال 1700 خبير عسكري إسرائيلي إلى ارتيريا في عام 1990، لتدريس الجيش الارتيري.
3 - تقوية العلاقات الاقتصادية بين ارتيريا وإسرائيل.
فالسيطرة على النخبة السياسية الثقافية في ارتيريا من خلال بناء القصور الفخمة وتقديم 60 منحة دراسية لطلاب ارتيريا في إسرائيل فضلا عن تبادل الزيارات الإعلامية والثقافية وقام وفد عسكري امني واقتصادي بزيارة سرية إلى ارتيريا في 13/ 2/ 1993 واستمرت الزيارة خمسة أيام اسفرت عن توقيع اتفاق مبدئي وبعدها جرى التوقيع عليه بشكل رسمي في تل أبيب في آذار (مارس) 1993، بين إسحاق رابين واسياس افورقي ويقضي الاتفاق بأن تتولى إسرائيل تزويد أسمرة بالخبراء الزراعيين العسكريين وإقامة البنية الأساسية الكاملة للمجتمع الاريتري مقابل السماح بالوجود العسكري الكامل لإسرائيل في ارتيريا وإعطاء الإسرائيليين وجهاز الموساد حرية الحركة والتنقل داخل الأقاليم الاريترية وعلى ان ترفض أسمرة اية أنشطة تعاون مشترك مع الدول العربية وتأجيل فكرة الانضمام إلى الجامعة العربية إلى أجل غير مسمى، وعلى أثر هذا الاتفاق وصل عدد الجنود الصهاينة إلى ثلاثة آلاف جندي واستغلوا قواعدهم العسكرية في الأقاليم القريبة من السودان واليمن ولاسيما قمة جبل سوركين القريبة من جزيرة ميون القريبة من مضيق باب المندب وكذلك جزيرة مدخل البحر الأحمر التي وضعت عليها رادارات مراقبة السفن المارة عبر باب المندب حيث تمر أكثر من 17 الف سفينة وحوالي 30 ٪ من الانتاج النفطي العالمي وفي منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 حاولت القوات الاريتيرية (دون المساعدة الإسرائيلية) احتلال جزيرة حنيش الكبرى بالقوة. لكنها فشلت إذ تمكنت القوات اليمنية من استعادة الجزيرة فقد كان ميزان القوة لا يتيح لاريتريا النجاح والفاعلية باحتلال جزيرة حنيش بمفردها.واليوم القراصنة اضحت لهم أبعاد إستراتيجية لا يستبعد ان وراءها إسرائيل فهي تنذر بالخطر وتهدد واحدا من أهم الطرق البحرية في العالم .
الإستراتيجية الإسرائيلية لاحتلال مضيق باب المندب
أخبار متعلقة