كمال محمود علي اليمانيفي عددها لشهر يناير من هذا العام ، أصدرت مجلة الرافد الصادرة في الشارقة ، كعادتها كل شهر ، كتابا ملحقاً بها، وكان كتاب الشهر ديوان شعر للشاعر الجميل د. شهاب غانم ، ولقد شرفني بأن أرسل لي نسخة الكترونية منه ، سعدت بقراءتها ، وعشت معها أوقاتاً حلوة ، فأحببت أن أشرككم في تذوق بعض من متعة تذوقتها .الديوان واسمه (( انعتاق )) يقع في مئة صفحة، وضم بين دفتيه خمسا وعشرين قصيدة تنقل الشاعر فيها بين مواضيع متعددة، وطاف بالقارئ بين أجواء مختلفة، فمن قصيدة الرثاء إلى القصيدة الإخوانية، إلى العائلية، و يعرج به إلى القصيدة الوطنية حينا ًوالقومية والأممية حينا آخر، ويحلق، بين الفينة والأخرى، في سماء الشعر الروحاني، وتسمو روحه عالية في حضرة الله جل في علاه .وأحسب أن كثيراً من آراء الشاعر في الحياة وفي الناس، ونظرته للكون وما يعتمل فيه، وللعالم، ومايشهده من تحولات وتغيرات ؛يتجلى واضحا في ثنايا قصائده ، إذ حملت القصائد خلاصة تجربة الشاعر الثقافية والفلسفية والروحانية ، ولعل جولة ، وإن كانت سريعة ، نتمشى فيها خلال جماليات شعره ، ستظهر لنا ، دون شك ، كثيرا مما أرمي إليه . فلنبدأ الجولة بقصيدة (( أكياس )) وهي أولى قصائد الديوان ، ومن عنوانها تبدأ الدهشة، غير أن الدهشة تنجلي حين تفصح أبيات القصيدة عن مدلولها، فالشاعر يرى الناس في نظرته الفلسفية أشبه مايكونون بالأكياس، فهم وإن اختلفت أحجامهم وألوانهم إلا أنهم لايختلفون عن بعضهم البعض في مادتهم الأصلية ، وإذا كان هناك من فرق بين الناس فإنما هو في الروح ، فبها يسمون ويرتقون، وبغيرها يضحون أكياسا لاقيمة لها تتقاذفها الرياح وتمتلئ بها المزابل . واستمع إليه إذ يقول :الناسمثل الأكياسلكن بيدين ورجلين وراسوالناس مثل الأكياسلكنبعيون، وبآذان، وبإحساسما الفرق إذاً بين الناسأو قل بين الأكياسالفرق الفارق في الروح وفي العقلوفي الإحساسوالديوان يعج بالشعر الحكمي المتأتي من خبرة حياتية عاشها الشاعر متأثرا بموروثه الديني والثقافي، نجده متناثرا هنا وهناك، يعطر هذه القصيدة وتلك، فهاك قوله مثلاً، في قصيدته ((تفكّر كل صباح )):نحن نسعى إلى سراب ٍ ووهم..... وهباء في سعينا للبريقكل مالٍ وكل جاهٍ سيفنى .... وسيمضي الرفيق بعد الرفيق وأقرأ معي قوله في قصيدة رثى فيها شقيقه الراحل د/ عصام غانم ، فقال:فاعمل لدنياك إن أحببت في هوسٍ ....ستنتهي فجأة في عالم الروح واعمل لأخراك إن أحببت متعظاً .... بمن تولوا وكانوا زينة السوح كل ابن أنثى له عمر وليس سوى....مشروع موتٍ مدى الأيام مفتوح ولابد أن عين القارئ ستلحظ، بل إن روحه ستلحظ قبل عينه، هذا الجمال المتبدي في المقارنة بين حالتي الحب الدنيوي والأخروي، فالأولى ارتسمت ( في هوسٍ ) والأخرى ارتسمت ( متعظاً )، والبون بينهما بعيد بعيد .ونجد الشعر الحكمي يتغلغل في ثنايا الشعر الروحاني الذي ازدهى به الديوان، وإني لأزعم أن النفس الروحاني في ثنايا القصائد، قد منح الديوان زخما عاليا ورائعا ، وسما بروح قارئه إلى عليين ، وازعم أيضاً، أن الروحانية والنورانية التي يزخر بها الديوان، لتشير إلى إيمانية الشاعر ومحاولته التقرب إلى ربه وميله إلى تغليب الروح على الجسد، ذلك أنه يرى أن الروح خالدة والجسد فانٍ وآيل للتراب، فتنبري كلماته دفاقة ترسم لنا ذلكم المعتقد المترسخ في ذاته كأجمل ماتكون الصورة ،وأروع مايكون البيان، فيقول قي قصيدة ((تحدث إلى روحي )) :وما أنت صوفي ولكن مهجة....بجنبيك روحانية الشوق والهم تحدث .. فإن الروح تبقى مقيمة ... ويمضي سريعا هيكل اللحم والعظم .وستترك قصيدة ( من وراء الستار الحديدي) في أنفسنا أثرا لاينمحي بعد قراءتها ،فهي وإن كانت تحمل هما يثقل كاهل كل أنسان عاش في بلد طوّقت بستار حديدي يفصلها عن سواها ، ويمنع عنها تنسم هواء الحرية ، وهي وإن كانت تعمم ولاتخصص، وتغدو قابلة للتطابق مع كثير من بلدان المعمورة، إلا أن تاريخ كتابتها واسم المدينة ( عدن) يزيل كل وهم، ويضع القارئ أمام حقيقة مؤداها ، أن الشاعر إنما يتحدث عن معاناته هو وأمثاله الذين عاشوا في زمن الحكم الشمولي في عدن في سنوات الستار الحديدي والقبضة الحديدية ،تلك التي منعت بصيص النور من الإنبثاق لجلاء ظلام ظل جاثما على عقول ونفوس العباد ؛ فنأسى على الحبيبة عدن ، وعلى أهلها .وإذا كان الشاعر د.عبدالعزيزالمقالح قد أكد على حقيقة طلب النور بقوله : سنظل نحفر في الجدار .. إما فتحنا ثغرة للنور أو متنا على وجه الجدار في قول ثوري تحريضي ، فإن شاعرنا قد تناول الأمر ذاته بقوله في القصيدة سالف الذكر :أريد لو لحظة من سلام وأحلم بالنور يولد بين الركام بصيصاًففيضا يمزق حولي ستور الظلام فأحظى بقهقهة في القتامغير أن تلكم القهقهة الساخرة لاتثنيه عن حلمه النور ، فتراه يردد في ختام القصيدة ..أريد ..ولكن.. ولكن .. ولكن أريد الخلاصولو دكني وابل من رصاص وهاهو ذا القول الثوري التحريضي يتجدد هنا كما كان هناك .وما أجملها من صورة متحركة بأنوار باهرة رسمتها كلمتان اثنتان ( بصيصاً ففيضا ً) جاءت الأولى متسللة منسلة، فغدت الثانية سيلا عارما من نور .والشاعر ، يتنقل بين الشعر البيتي وشعر التفعيلة، وإن كان ميله للشعر البيتي طاغيا، بل ويتبدى حتى في ثنايا شعره التفعيلي، إذ تظل القافية والروي الواحد تطالع القارئ من أول القصيدة حتى خاتمتها؛في إشارة واضحة لدعواي ميله ذاك.وهو مسكون بالشعر ويدافع وينافح عنه بقوة وإصرار، ويضع الشعر في الصدارة إذا ماحاول النثر مزاحمته، فترى الشاعر في المعركة القائمة بين فريقي أنصار الإبداع الشعري ، وأنصار الإبداع النثري ، ينحاز ودون مواربة للاصطفاف ضمن فريق المنتصر للإبداع الشعري، ويعلنها في صراحة لاغبش فيها ،أفضلية الشعر دون منازع ،وإن كان لم يغمط النثر حقه، وأبان حاجتنا إليه ، فيقول:ياشعر إنك أنت الشهد والعسلُ... والنثر ماء به نروى ونغتسلالماء ليس لنا عنه غنى أبداً.... والشعر متعتنا الكبرى،هو القبلودفاع شاعرنا عن الشعر ليس وليد عاطفة جياشة وروح مرهفة فحسب ، بل هو فعل واع انبنى على أساس من ثقافة عربية وإنسانية ،ذلك أن للشعر رسالة عنده، لخصها بقوله مخاطبا إياه:تعشق العدل والكرامة والصدقَ وتأبى الفساد .. تأبى الغبناوتسن الخلال والمثل العليا ومازلت للبراءة حصنا مواضيع الديوان متعددة، كما أسلفت، ولو وقفنا عند كل موضوع لطال بنا المقام، لذا لانجد مندوحة من أن نرتشف من هنا رشفة، ومن هناك أخرى، وإن كانت الرشفات لاتغني عن العب الجميل . حتى أنني أزعم أن الشاعر شهاب غانم قد طرق موضوعات غير مطروقة ، أو قل إنها نادرة الطرق ، وقلما يلتفت إليها الشعراء، كالبيئة مثلا والدعوة للحفاظ على الأرض وماتحويه من أشجار وأحجار وأنهار وأزهار، وتجنيبها الحروب والدمار .حتى العولمة تجد لها مكانا في شعره ،ترى الشاعر يقف منها موقف المستريب، فهو وإن كان لايرفضها إلا أنه لايانس لها، ويتوجس منها خيفة، أليس هو القائل في قصيدة (العولمة ):أهي خير وشر؟خلطة مبهمةليس منه مفرفاقترب، إنما في حذر هاهنا لوحة للخطرعظمتان مع جمجمةماهي العولمة؟ماهي العولمة؟ويطالعنا الهم الإنساني جلياً في قصيدة (انعتاق) التي حمل الديوان اسمها، وهي قصيدة الإدانة بكل ماتحمله الكلمة من معنى، لما زخر به القرن المنصرم من حروب أتت على أرواح ملايين من البشر، وفيها إدانة عامة ، وأخرى خاصة، لضحايا كوسوفو من إخوة الإسلام والإنسانية ، الذين ضجت بأجسادهم المقابر الجماعية جراء همجية الصرب التي اقتاتت أجسادهم دون رحمة ، يرفع الشاعر عقيرته فيها بالصوت المجلجل :لا .. يقولها قوية في وجه حضارة لم تستطع رغم ماوصلت إليه من تقدم ورقي علمي من أن تسمو بأرواح البشر وتنقذهم من حربين كونيتين وبضع حروب متفرقة .ويبلغ إحساسه بالقهر أوجه متلبسا بتهكم استنكاري، متسائلا، في قوله في قصيدة (الموت والحضارات ):هو قرن الحواسيب والطاقة النوويةوالنعجة دوليوقرن اقتحام القمريالجهل البشركيف حربان كونيتانبذاكرة الناس لم تترك أثريالجهل البشربل لشر البشروها نحن نصل إلى قصيدة (بخبوخ) تلكم القصيدة التي يعتز بها الشاعر أيما اعتزاز، حتى أنها تكاد تكون القصيدة المقدمة له في كثير من اللقاءت الشعرية ،وهي قصيدة مهداة إلى حفيدته هنوف. وبخبوخ-كما جاء في الحاشية - كلمة يقولها الحاوي في بعض البلدان العربية في لعبة إخفاء الأشياء، وهي قصيدة جد جميلة، غير أنها لاتقرأ إلا متكاملة فلا ينفع التجزيء فيها، وأحسب أن وجود هذه القصيدة في مجموع قصائد الديوان ليؤكد تأكيدا قاطعاً على صحة فرضيتي من أن الشاعر قد أحب أن يجمع بين دفتي هذا الديوان قصائد متعددة الأغراض والموضوعات تشي بمايمكن أن يجده القارئ في جنبات دواوينه الأخرى ، أو قل إنه أراد أن يجعل من هذا الديوان مرآة تعكس صورة مصغرة لمجمل ماطرقه الشاعر في دواوينه السابقة .ويأبى الشاعر الجميل د. شهاب غانم إلا أن تكون خاتمة الديوان مسكاً ، فيضع قصيدة ( ألا بذكرك قلبي يطمئن ) في أجمل موضع ، وكيف لاتكون الخاتمة المسك وهو يقول فيها :وأول أنت قبل القبل من أزل ...... بالكاف والنون يارباه فتاح ونور وجهك بعد البعد في ابد ...... يبقى كريما جليلا وهو وضاح ..........ألا بذكرك يارباه طمأنة ........ والغم عن جنبات الصدر ينداحفأنت وحدك جبار ومقتدر ..... وأنت وحدك غفار وصفاح الديوان كان صورة لفكر وثقافة ورؤية صاحبه للحياة وتصاريفها، وكان خير رسول، ينقل الصورة بأمانة متناهية، وحمل أريجا عاطراً، وروحانية سامقة، وحلق بنا في فضاءات متناهية من جماليات الشعر والصور والمحسنات البديعية، وكان بحق متعة الفكر والأدب .
|
ثقافة
الشاعر الجميل د. شهاب غانم في أجمل انعتاقاته
أخبار متعلقة