كتب / د. شاكر باركرتعتبر كسور العظام من أكثر المشكلات التي يواجهها الأطباء المتخصصون في هذا المجال شيوعا ، وبعضها قد يمثل خطورة فائقة على حياة المصاب، أو على مستقبل جهازه الحركي على أقل تقدير. ولمواجهة تلك المشكلة، طور المتخصصون الكثير من الوسائل لعلاج كسور العظام، بدءا من الجبائر التي صنعها القدماء، وحتى جراحات التثبيت الحديثة.[c1] الكسور المفتتة[/c]ولكن بعض أنواع الكسور مثلت تحديا فائقا للعلماء، ومنها الكسور المفتتة، التي ينسحق فيها جزء من النسيج العظمي بشكل يؤدي إلى قصر بالطرف المصاب، جراء قوة جذب العضلات.وفي هذا النوع من الكسور، يصعب تثبيت الطرف عن طريق الجبائر المعتادة، إذ يتطلب الأمر جذب طرفي العظمة المهشمة بمقدار يوازن الجزء المفتت، حتى تعود إلى طولها الطبيعي عقب التئامها مرة أخرى، وبهذا لا يعاني الشخص من قصر دائم بالعظام قد يؤدي إلى حدوث العرج في حالة إصابات عظمة الفخذ، على سبيل المثال.وفي هذا الصدد، برز اسم جهاز “اليزاروف” كحل علاجي سحري للكسور المفتتة. وهو جهاز التثبيت الحلقي الخارجي، الذي أحدث ثورة هائلة في مجال طب وجراحة العظام، إذ تزايد استخدامه على مدى السنوات الماضية لعلاج الكثير من الكسور وأمراض العظام.[c1]جهاز اليزاروف[/c]ولاختراع هذا الجهاز قصة ممتعة، تعود بدايتها إلي منتصف القرن الماضي، وكان بطلها الطبيب الروسي غافرييل إبراهيموفيتش اليزاروف، الذي أرسل آنذاك للعمل في مستشفى ناء بمدينة كروجان بمنطقة سيبيريا الروسية الموحشة.وبدلا من أن يعتبر اليزاروف ذلك نوعا من الإقصاء أو التهميش، ويكتئب أو حتى يعمل بشكل روتيني ممل انتظارا لفرصة العودة لدائرة الضوء، فقد بدأ الطبيب الشاب التفكير في حل مبتكر لمعضلة فنية في عالم جراحة العظام، تكمن في تطوير جهاز المثبت الخارجي التقليدي أحادي الجانب، الذي كان استخدامه ضرورة طبية ملحة في حالات جراحية معينة، مثل الكسور المصاحبة لتهتك شديد بالأنسجة الرخوة المحيطة، كما كانت هناك محاولات لاستخدامه في عمليات إطالة العظام.وكانت المشكلة تكمن في المضاعفات الكثيرة المصاحبة لاستخدام تلك المثبتات التقليدية، خاصة عدم استقرار تثبيت منطقة الكسر، وعدم التئام الكسور وغيرها.[c1]تثبيت حلقي[/c]وكانت الفكرة هي استخدام مثبت خارجي، مكون من مجموعة من الحلقات توضع حول الطرف المصاب، ويتم توصيلها ببعضها باستخدام قضبان تثبت باستخدام براغ قابلة للتعديل على أكثر من مستوى، بينما توصل الحلقات بالعظام عن طريق أسلاك معدنية رفيعة تثبت من إحدى جهات الحلقة، ثم تمرر خلال العظام لتثبت مجددا بالجهة الأخرى من الحلقة. ومن أجل إضافة قوة وصلابة للأسلاك، فإنها توضع تحت قوة شد تصل إلى 100 نيوتن (النيوتن وحدة قياس الضغط) قبل تثبيتها.وكانت تلك هي البذور الأولى لابتكار الطبيب اليزاروف، الذي استلهمه من نوع من ألجمة الخيل المستخدمة حينئذ. والطريف أن الرجل، لضعف الإمكانات، لم يجد وسيلة سوى استخدام أجزاء من عجلات الدراجات لصناعة جهازه المبدئي، قبل أن يقوم لاحقا بإنشاء معمل خاص لتصنيع أجزائه المختلفة.واستمر اليزاروف بعدها في التطوير وإضافة التعديلات، وصاحب ذلك ظهور الكثير من التطبيقات لذلك الجهاز الجديد، وبنجاح باهر، فمن علاج الكسور المعقدة والمصاحبة بتهتك في الأنسجة الرخوة، إلى عمليات إطالة العظام وإصلاح الاعوجاجات والتشوهات الخلقية.كل ذلك والرجل قابع في ذلك الركن البعيد البارد من العالم، بعد أن أنشأ مركزا خاصا بابتكاره هناك، وجذب إليه الكثير من المريدين. لكنه ظل بعيدا عن بؤرة الاهتمام حتى شاءت الأقدار أن يكتشف العالم مصادفة ذلك الكنز المدفون في أصقاع سيبيريا البعيدة، وذلك في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حينما نصح مواطن روسي صديقه السيد كارلو ماوري بالذهاب للعلاج علي يد الدكتور اليزاروف.وكان ماوري، وهو مصور صحافي إيطالي، يعاني من كسر قديم مصاحب بسوء التئام وقصر مع اعوجاج بالساق. وفشل كل أطباء العظام بإيطاليا في علاجه على مدار عقدين من الزمان، وكانت التوصية الطبية الأخيرة هي البتر. ذهب الرجل وهو لا يتوقع الكثير من ذلك الطبيب الروسي غريب الأطوار في أقصى بقاع الأرض، لكنه أراد أن يطرق كل الأبواب قبل أن يرفع الراية البيضاء ويوافق على بتر ساقه. ولكن الرجل تعافى تماما بعد فتره من العلاج باستخدام جهاز اليزاروف، وعاد إلى إيطاليا ليثير جدلا طبيا واسعا.وقدمت الكثير من الدعوات للسيد اليزاروف لزيارة إيطاليا وشرح جهازه الجديد، كما دفع ذلك الكثير من أطباء العظام هناك إلى الاهتمام بهذا الابتكار، بل وتعلمه وتطبيقه وتطويره.وهكذا اشتعلت ثورة “اليزاروف” في العالم أجمع، وكانت القفزة الثانية في طريق نشر هذا الابتكار، التي أعطته الكثير من المصداقية، هي زيارة اليزاروف لأميركا، وانبهار الأطباء هناك بفاعلية الجهاز. وكان ذلك في أوائل التسعينات، قبل وفاة اليزاروف في عام 1992.[c1]مزايا علاجية[/c]وجدير بالذكر أن عبقرية جهاز اليزاروف تكمن في عدة نقاط، أولا: أن استخدام حلقات للتثبيت بدلا من المثبت أحادي الجانب، يعطي للعظام درجة عالية من الثبات والاستقرار، وهو ما من شأنه أن يسمح للمريض (في أغلب الأحوال) بالمشي بعد تركيب الجهاز مباشرة.وثانيا الخاصية الميكانيكية للجهاز، التي تسمح بتحريك الحلقات رأسيا لتحقيق ضغط للمنطقة الخاضعة للعلاج من العظام أو لشد العظام رأسيا (بعد عمل شق عظمي عرضي)، الأمر الذي يستطيع المريض أن يقوم به بنفسه عن طريق تحريك عدد من المفاتيح بالجهاز بشكل منهجي ومحسوب، لتحقيق إطالة قدرها مليمتر واحد يوميا. وهي الخاصية التي سمحت باستخدام الجهاز بنجاح في تطويل العظام لأرقام قياسية تتعدى العشرة سنتيمترات.بالإضافة إلى ذلك فإن استخدام قطع إضافية، مثل استخدام مفاصل على امتداد القوائم الموصلة بين الحلقات، سمح بتحريك الحلقات بينها وبين بعض في أكثر من مستوى بشكل منفصل أو متزامن، مما فتح الباب على مصراعيه لاستخدام الجهاز في علاج اعوجاجات العظام والكثير من التشوهات العظمية.ثالثا، وُجد بالبحث أن الجهاز لا يقوم فقط بإطالة العظام، بل إنه يقوم أيضا بتحفيز نمو الأنسجة الرخوة والأعصاب والأوعية الدموية المحيطة بالعظام، بل إن أحدث الأبحاث أظهرت تحسن تدفق الدم للطرف الخاضع للعلاج بالجهاز، مما يساعد على جبر الكسور.. عوضا عن إمكان علاج حالات أخرى، مثل الالتهاب المزمن للعظام.وأخيرا، فإن انخفاض سعر الجهاز وسهولة تركيبه النسبية، تضيف إلى قيمته العلاجية، خاصة في الدول النامية.[c1]مخاطر ومضاعفات[/c]إلا أن جهاز اليزاروف، على الرغم من مزاياه الكثيرة، لا يخلو من المخاطر واحتمال حدوث المضاعفات. وأبرز تلك المخاطر هو إصابة الأوعية الدموية أو الأعصاب أثناء تركيب الأسلاك عبر العظام، وكذلك حدوث تيبس بالمفاصل المحيطة أو حدوث التهابات حول منطقة دخول الأسلاك، إضافة للتوابع النفسية الناجمة عن وجود الجهاز بشكل ظاهر حول أحد أطراف المريض لفترة طويلة، وغيرها من المخاطر التي تتطلب رعاية طبية مميزة وتعاونا وتفهما من المريض.واستمر التطوير الدائم للجهاز، إذ فتح استخدام حلقات غير مكتملة الأبواب لاستخدامه في أماكن صعبة، مثل منطقة أعلى الفخذ. واستخدام حلقات مصنعة من ألياف كربونية خفيفة، في جعله لا يعوق عملية التصوير بالأشعة السينية.بل وظهر أخيرا تطوير جديد من الجهاز يسمى بإطار تايلور الحيزي، الذي يعد أكثر مرونة وسهولة في الاستخدام، غير أنه مكلف للغاية إذا قورن بجهاز “اليزاروف” الأصلي.ولكن على الرغم من ذلك، سيظل الجميع مدينين بالفضل لثورة الدكتور اليزاروف، تلك الثورة الطبية التي فتحت أبواب الأمل لكثير من الحالات المستعصية.. فتحية لإبداع ذلك الرجل وصبره.
ثورة «اليزاروف».. غيرت مفاهيم طب وجراحة العظام
أخبار متعلقة