في مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي.. ذهبت إلى « مناخة « - مركز قضاء حراز- وذلك لأداء خدمة التدريس الإلزامية المفروضة على خريجي الثانوية العامة .كانت المدرسة هي الوحيدة في المنطقة كلها ، وكان أعلى صف دراسي فيها هو صف أول إعدادي الذي كان يضم طلبة كباراً بالقياس إلى الصف الذي هم فيه ، وبعضهم (أعفاط) يكبرونني في السن ، حتى إنني لخشيتي منهم رحت أتعامل معهم كما لو كانوا هم الأساتذة وأنا التلميذ .ومن بين جميع تلاميذ المدرسة لفتَ انتباهي تلميذٌ بدا لي وديعاً كالملاك ،مذعوراً كأنه الحمل وسط قطيعٍ من الذئاب .لكن أكثر ما لفت انتباهي فيه هو انه كان نظيفاً في منتهى النظافة .. نظيفاً إلى درجة أن كل التلاميذ وكل المدرسين في المدرسة بدوا لي مقارنة به في غاية القذارة .وذات صدفة رأيته وهو محاط بطلبة اكبر منه سناً يتحرشون به ، ويكفرونه، ويحاولون الاعتداء عليه .وبمجرد أن أبصرني اندفع نحوي يستغيث بي فكان أن وقفت بينهم وبينه، فأثار ذلك غضبهم ، ومن حنق سألني أحدهم: هل أنت كافر يا أستاذ لوما تدافع عن هذا الكافر؟يومها فقط عرفت بأن ذلك التلميذ المؤدب الوديع النظيف هو التلميذ الوحيد في المدرسة الذي ينتمي إلى الطائفة الإسماعيلية.كان الولد الإسماعيلي - الذي غدا صديقي- يهبط يومياً من قريته - كاهل - المحاذية للسماء - متأبطا حقيبته المليئة بالغيوم.. كان قد أصبح محل اهتمامي ورعايتي وحمايتي .وذات يوم بناءً على دعوة وجهها إليّ صديقي الإسماعيلي الصغير صعدت إلى قريته - كاهل - وهناك كانت المفاجأة .كان الجو يومها غائماً لكن القرية - الناس ، الأطفال ، الصبايا ، النساء، الشيوخ ، البيوت ، الدروب- كانت لشدة نظافتها تضيء بدلاً عن الشمس التي حجبتها الغيوم .. حتى لقد شعرت يومها - وأنا في حضرة تلك الوجوه الملائكية المشرقة - بأنني في واحدة من قرى السماء المأهولة بالملائكة.أتذكر إنني - بعد مغادرة القرية - رحت أسأل نفسي : لماذا كل هذه النظافة؟ أليسوا يمنيين مثلنا؟واليوم بعد مرور أكثر من أربعين عاماً - وبعد أن زرت الكثير من قرى اليمن وقرى العالم- مازلت محتاراً أتساءل : لماذا الإسماعيليون ينحازون للنظافة وينتصرون لها فيما نحن بمختلف أحزابنا ومللنا ومذاهبنا وطوائفنا ننحاز إلى القذارة بكافة أشكالها وننتصر لها؟لماذا هم وديعون ومسالمون ونحن عدوانيون ومؤذون ؟لماذا هم يعبدون الله بصمت وهدوء فيما غيرهم يثيرون كل هذا الضجيج، ويقترفون كل هذه المذابح ليثبتوا بأنهم مسلمون وبأنهم مؤمنون؟لماذا لا يُظهرون تدينهم للناس ولا يعرضون إيمانهم في المحلات وفي الواجهات كما يفعل الآخرون؟ لماذا هم مسكونون بالحب والآخرون يتحولون إلى أحزمة ناسفة وينفجرون من شدة الكراهية؟لماذا لا يكفرون من يخالف مذهبهم ؟ولا يخونون من يخالفهم في الرأي؟ ولماذا لا يزايدون كالآخرين باسم الثورة أو باسم الوطن؟ لماذا كل اليمنيين على اختلاف جرائمهم ومذابحهم وقذارتهم حاضرون في مؤتمر الحوار الوطني فيما الإسماعيليون غائبون؟ لماذا هم ملائكة ونحن شياطين؟
|
آراء
الإسماعيليون
أخبار متعلقة