باشر الاستعمار البريطاني منذ أن وطئت أقدامه أراضي الجنوب اليمني حكم المنطقة حكماً استعمارياً مباشراً واستخدم كل ما لديه من خبرات ودهاء في تمزيق المنطقة الواحدة إلى عديد من السلطنات والإمارات والمشيخات واقام بينها الفواصل والحدود وعمق النعرات المحلية والقبلية حتى يسود حاكماً ومسيطراً لمئات السنين. واستمر الاستعمار البريطاني رابضاً في مدينة عدن يحكم كل المنطقة الجنوبية بالحديد والنار، ممتهناً كرامة المواطن وسلب حريته وقيمه الإنسانية.وفي ظل الحكم الاستعماري الجائر على الشعب في الجنوب كانت مدينة عدن تعيش واقعاً يختلف عن بقية أراضي الجنوب الأخرى، باعتبار أنها بوابة النشاط التجاري ومركزاً مهماً من مراكز التجارة العالمية.. وبقي هذا النشاط قائماً على الاستغلال والاحتكار بواسطة الشركات الاحتكارية البريطانية والأجنبية، وفئة من التجار الأجانب والمحليين من السلاطين والعملاء. وما عدا ذلك فقد مارس الاستعمار، ضد السواد الأعظم من الشعب سياسة التجهيل والتجويع والإهمال.. فلا مدارس ولا مستشفيات ولا طرق إلا ما ندر، خدمة للوجود البريطاني والجاليات الأجنبية الأخرى. وعندما بدأ الشعب يطالب ويناضل لاسترداد حريته المسلوبة وحقوقه المهضومة وكرامته المداسة في النصف الثاني من الخمسينات حاول في عام 1963م أن يضم عدن إلى ما يسمى بالاتحاد الفيدرالي بصيغة قسرية ومذلة وباشر بعدها بسن القوانين التعسفية التي حرمت شعبنا من حقه في التعبير عن آرائه ومعتقداته وحقه في الاجتماع والإضراب والتظاهر. وإزاء هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية.. وبعد أن قيمت الجبهة القومية التجارب المتعددة التي مرت بها الحركة الوطنية في الجنوب .. والأحداث النضالية العسكرية المتتالية التي شهدتها المنطقة، قررت فتح الجبهة العسكرية في مدينة عدن في الثاني عشر من يناير عام 1964م.. وشكل هذا التاريخ البداية لسلسلة من الأعمال العسكرية الفدائية التي غطت كل شارع ومساحة وزقاق من المدينة الباسلة. وكانت الجبهة القومية تدرك، وهي تباشر النضال المسلح ضد الاستعمار البريطاني في مدينة عدن، إن هذا النضال يجب أن ينطلق من محيط اجتماعي مسلح بقدرات فكرية ووعي سياسي، يرتبط، بحركة منظمة تخوض المعارك العسكرية بمهارة وإتقان دون توقف أو انقطاع أو تراجع عن تحقيق الأهداف.ومن واقع هذا الإدراك كان لابد أن تعد إعداداً جيداً للعمليات العسكرية داخل المدينة الصغيرة المحاصرة، وذلك لكي تتعزز ثقة الشعب بالنضال المسلح ضد الاستعمار بعد أن فشلت العديد من المحاولات والانتفاضات بسبب عفويتها وانكفائها داخل المناطق الريفية التي كانت قابعة تحت ركام الأمية وتدني الوعي السياسي والثقافي في المنطقة.لذلك كانت الجبهة القومية قد اختطت طريق الإعداد لمشوار نضالي طويل من حيث الاهتمام بجانب التربية الفكرية للأعضاء الذين سينضمون الى القطاع الفدائي وتقوية الانضباط التنظيمي لديهم وتنمية روح العمل الجماعي وشحذ الروح الكفاحية والتفاني في خدمة قضايا الشعب والوطن، وتجسيد سلوك نضالي يتحلى بالأخلاق الحميدة وقيم النزاهة والاستقامة والعفة، وأن يمثل القدوة الحسنة في سلوكه اليومي بين الناس وفي مواقع العمل والنضال.من كل ذلك حددت الجبهة القومية الأهمية الإستراتيجية التي تمثلها مدينة عدن في جانب تصعيد النضال الوطني واستمراره، وفي جانب إبراز الكفاح الوطني على الصعيد الخارجي وطرح القضية بكل وضوح وجلاء أمام الرأي العام العربي والدولي وداخل كل المحافل الدولية والمنظمات والمؤتمرات العالمية المناهضة للاستعمار وقواعده العسكرية، إضافة إلى ما يرتبط بهذا الإدراك من تأكيد على أن العمل النضالي المسلح الذي يخوضه الأبطال في بطون وقمم الجبال بالأرياف لا يمكن أن يكون له وقع الهزيمة على الاستعمار وأعوانه ما لم يرافقه عمل فدائي واسع داخل مدينة عدن وعلى مقربة من دار المندوب السامي ومواقع الإصدار للصحف والمؤسسات الإعلامية وغيرها من الدوائر السياسية الموالية في المدينة.وعزز هذا الإدراك الانتقال السريع لقضية شعبنا في الجنوب إلى المحافل العربية والدولية.. والتحرك السياسي الكبير الذي شهدته مدينة عدن بعد قيام الثورة في الشمال.. هذا التحرك الذي أجبر الاستعمار على إدخال بعض التغييرات على أساليب الحكم في عدن والمحميات، وإضفاء طابع المرونة في التعاطي مع المؤسسات النقابية والمنظمات السياسية الوطنية التي كانت تعاني من التعسف والاضطهاد والملاحقات وجور الأحكام.وتأسيساً على ذلك فكرت الجبهة القومية ببدء العمل العسكري في مدينة عدن، وهي تدرك أن القيام بعمل فدائي عسكري ناجح في هذه المدينة يتطلب بالضرورة ان تتولى مسؤولية التخطيط والتنفيذ لمثل هذا العمل قيادة واعية وعلى قدر كبير من الكفاءة الفكرية والإحاطة بالتجارب المشابهة في العديد من البلدان التي خاضت نضالاً تحررياً ضد الاستعمار وأعوانه.. الى جانب الإلمام التام والدقيق بالتضاريس والتقسيمات الجغرافية المكونة للمدينة.. ورسم خارطة تفصيلية تحدد المواقع السكنية للقوات البريطانية وسكن الموظفين المدنيين من الجنس البريطاني والجنسيات الأجنبية الأخرى، وتحديد حجم المساحات التي تحتلها مواقع سكن القوات البريطانية والجاليات الأجنبية التي تدخل وتتداخل في المساحات السكانية التي قطنها أبناء البلد في طول وعرض مدينة عدن.ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن العمل الفدائي في مدينة عدن قد أتى استكمالاً لشكل النضال المسلح الذي بدأ في ردفان والمناطق الريفية الأخرى، كأسلوب من أساليب النضال ضد الاستعمار البريطاني وعملائه المحليين من حكام ومستوزرين وسلاطين.إذ من المعروف على نطاق جنوب الوطن حينها، أن الاستعمار البريطاني قد حاول أن يثبت وجوده بالاعتماد على مجموعة من المستفيدين من الاحتلال الذين حقق لهم الوجود الاستعماري فرص جمع المال والعيش في دائرة الرخاء المصطنع.. بينما ظل السواد الأعظم من الشعب في الجنوب يعيش تحت وطأة الجهل والفقر والمرض، دون أن تطال حياته أية تغيرات إيجابية تذكر.ولأن الاحتلال قد اصطنع فئة رخيصة من الناس ليحكم بها وعن طريقها البلاد، فقد سمحت سلطات الاحتلال لهؤلاء الناس ان يحتكروا مواقع إدارة المجتمع بفرض الضرائب وجبايتها لحسابهم.. وأن يتملكوا لوحدهم مساحات من الأراضي الزراعية واحتكار التجارة من المدينة إلى الأرياف وفرض الاستغلال على قطاعات واسعة من الشعب.وهكذا فالذي كان عاماً وشاملاً خارج هذه الفئة هو الفقر والشعور بالمهانة والظلم والضياع.. وهذا الواقع القاسي والبائس الذي كانت تعيشه أغلبية الناس من الشعب في جنوب الوطن حينها قد ولد الاحساس بالمحنة التي تعيشها أراضي الجنوب جراء الاحتلال الاستعماري، ولم تستطع القوى السياسية التي كانت موجودة في الساحة قبل ظهور الجبهة القومية أن تتحسس حقيقة المشاعر الثورية التي كانت كامنة في أعماق الجماهير المتحفزة والقابلة للانفجار.. بل كان من الطبيعي ان تتحرك الجبهة للعمل في ميدان الجماهير واستيعاب طموحها المتأجج بالعداء ضد الاستعمار وعملائه.. وضد أشكال التعسف والامتهان التي كانت تمارسها قوى الاستعمار بحق الشعب والوطن.والواقع الذي كرسه الانجليز منذ أن حكموا البلاد يقوم على أساس أن أراضي الجنوب ستظل الى الأبد تحت سيطرتهم.. فوجهوا كل اهتمامهم الى تكوين فئات اجتماعية تكويناً يجعلها دائماً خاضعة وتابعة.. يتملكها القنوط واليأس من تحقيق أي نوع من أنواع الخلاص من الوجود الاستعماري وركائزه من الحكام والسلاطين العملاء.. ولم تسعفهم التخمة في إدراك ان المضطهدين من أبناء الشعب الذين كانوا يفترشون الأرصفة ويلتحقون هجير الشمس قد انطوت نفوسهم على كوامن بركانية تتأجج حقداً ضد الاستعمار وعملائه وتحتاج الى من يقودها من نصر إلى نصر حتى تحقيق الجلاء النهائي للاستعمار وقواه العسكرية الرابضة.كان الشعب قد يئس من أي لون من ألوان العمل عبر المطالبة السياسية بخروج الاستعمار وإزالة الاحتلال.. بل لم تكن هناك وسيلة أمامه للخلاص من الظلم والاضطهاد الاستعماريين سوى القيام بالثورة المسلحة التي نضجت شروط القيام بها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة ووجود القيادة الطليعية المنظمة والمتمثلة بالتنظيم السياسي للجبهة القومية.لم يكن في حساب الانجليز ولا عملائه أن الشعب سوف يفكر في يوم من الأيام بان يخوض نضالاً ثورياً قوامه العقل الفدائي في مدينة عدن الصغيرة الحجم والمساحة والمزروعة بالقواعد العسكرية المتنوعة.. والمحاطة بأضخم البوارج العسكرية البحرية العامرة بأحدث الأسلحة المتطورة والمدمرة.. لاعتقادهم بان مدينة عدن حجمها الجغرافي الضيق والمحكم لا يمكن أن تكون ساحة لمعارك عسكرية فدائية بأية صورة من الصور.فمدينة عدن كانت عبارة عن جزر متناثرة تربطها شرايين من الطرقات التي تخترق مياه البحر لتعمم حركة الناس داخل مساحات هذه الجزر التي تكوّن مدينة عدن إلى جانب ما يحيطها من سياج تكوّنه سلسلة الجبال البركانية التي تحيط بالمدينة وتحاصره من كل ناحية ما عدا الناحية الشمالية التي تشكل منفذاً برياً عبر الطريق البحري الذي يخرج إلى أطراف محافظة لحج حالياً، وشرقاً عبر الطريق الساحلي لساحل أبين الذي يطل على مياه البحر العربي المتصل بالمحيط الهندي الواسع.هذا الوضع الجغرافي لمدينة عدن كان يُطمئن الانجليز إلى حد كبير بعدم قدرة الشعب وقيادته المنظمة اللجوء إلى استخدام المقاومة المسلحة ضد وجوده داخل المدينة التي تعتبر قلعة من القلاع العسكرية للقوات البريطانية التي كانت آنذاك منتشرة ليس في مدينة عدن وحسب، بل وفي مناطق الشرق الأوسط.أما كيف اختمرت ونضجت فكرة العمل الفدائي المسلح داخل مدينة عدن فقد بدأت التشكيلات التنظيمية للعمل في مدينة عدن قبل أوائل عام 1964م.. وتشكلت قيادة للمدينة مكونة من القطاع العسكري والقطاع الشعبي الذي كان يضم قطاعات العمال والمرأة والطلاب والتجار، وتحمل المسؤولية في بداية العمل لعدة أشهر الشهيد نور الدين قاسم ثم تعرض للاعتقال واسندت المسؤولية فيما بعد للشهيد عبدالفتاح إسماعيل الذي استمر يقودها حتى ما قبل الاستقلال بعدة أشهر.كانت الجبهة في عدن قد بدأت بالعمل على تنظيم وتدريب مجاميع كبيرة من الأعضاء الذين يتحلون بالشجاعة وقوة الاحتمال والصبر وضبط الأعصاب والكتمان حتى لا يقعوا في حبائل الاستخبارات التي جندت كل إمكانياتها لمراقبة ومطاردة كل العناصر الوطنية التي تتحرك باتجاه تبني النضال المسلح.. زيادة على أن تكون العناصر الفدائية على قدر كبير من الوعي والثقافة التي تمكنها من الإقناع ورسم الخطط الدقيقة للعمل العسكري ومتابعة التنفيذ بسرية تامة.إضافة إلى ذلك كان اختيار الفدائي يمر بمراحل اختبارية لضمان تحقيق صفات عملية وفكرية تمكنه من اجتياز الصعوبات والمخاطر التي ستواجهه في نشاطه العملي اليومي على كل المستويات.. وسواء أكان الفدائي يعمل منفرداً أم ضمن مجموعة.. فان أول الصفات التي يجب أن يتحلى بها هي الإيمان الأمر بالتضحية من أجل الشعب والوطن.. وثانيهما أن يحرص كل الحرص على أن لا يثير في سلوكه انتباه الآخرين، أو يبلوح بأي سر من أسرار العمل الفدائي، وأن يكون غاية في الهدوء يتصف بالجرأة والإقدام وإعطاء المثل في تنفيذ المهام الموكلة إليه.. لأن مثل هذه الصفات تشكل الضمانة الأساسية لنجاح العمليات الفدائية وتوفر ميزة اليقظة والانتباه في توخي الحرص على سلامة الفدائي نفسه وتمتعه برباطة الجأش أثناء تحركه بعد كل عملية يقوم بها.. ومن ثم استمرار حركته التي تدفعه دائماً إلى التدقيق في اختيار مخابئ الأسلحة والى تحديد أكثر الأماكن سرية للاجتماع برفاقه، وكذا في أن تتم عمليات التدريب في أماكن تكون بعيدة جداً عن أعين المخبرين والفضوليين.. إلى جانب أن يكون الحذر ملازما له في كل خطوة يخطوها أو عمل يقوم به وعدم ترك أدنى أثر في تحركه أو قصاصة ورق بعد كل اجتماع يتم أو مكان يؤويه.إن كل هذه الصفات التي كانت القيادة تحرص على توفرها في الشخص الفدائي المناطة به مهمة القيام بعمل عسكري ناجح في مدينة كمدينة عدن لا يمكن أن يتحلى بها أي شخص يقبل العمل الفدائي إلا بعد تربية فكرية مكثفة تستمر عدة شهور وربما سنة أو سنتين حتى يترسخ الإيمان العميق بالهدف الذي سيضحي من أجله ويغدو بهذا الإيمان مثالاً للتضحية والفداء.. يغادر أمان بيته.. ولهو شبابه إلى ميدان المعركة راضياً مختاراً.وهكذا وبعد أن يكون الفدائي قد اكتملت فيه هذه الشروط المطلوبة لانخراطه في العمل الفدائي، بعد ذلك يتم إخضاعه للتدريب على السلاح من خلال إرساله ضمن مجاميع للتدريب في مدينة تعز لاستخدام الأسلحة الخفيفة، متفجرات، قنابل، مسدسات، رشاشات خفيفة، رشاشات كبيرة، مدافع البازوكا، مدافع الهاون، بنادق.. وغيرها من الوسائل التكتيكية المتصلة بالمتفجرات والتوقيت لها أو صناعتها أو القيام بصيانة هذه الأسلحة وتركيبها.. وعندما لم تتوفر الفرصة أو لا يسمح الوقت بإرسال كل الناس إلى تعز كان يتم التدريب داخل مدينة عدن أو خارجها في مدينة دار سعد التي تقع في ضاحية المدينة من الناحية الشمالية لها. كانت العمليات الفدائية قد بدأت أولاً كمحاولة لجس نبض القوات البريطانية وقياس ردود الفعل عندها، وعند الجماهير التي كانت تتهيأ نفسياً لتقبل صدى المعارك الفدائية وتوفير الحماية لها.بدأت العمليات الفدائية باستخدام القنابل ورميها بداية في أماكن غير آهلة بالجنود البريطانيين، ومن ثم تطور العمل ليأخذ بشكل العمل الجماعي المخطط كقصف مبنى المجلس التشريعي الذي يقع في مدينة كريتر، ثم عملية المطار التي استخدمت فيها قذائف البازوكا ومدافع الهاون.. ترافق مع ذلك عمليات في بعض الأحياء التي يسكنها البريطانيون هذه العمليات بعضها أصابت أهدافاً وبعضها لم تصب.. كان الهدف من هذه البداية بدرجة أساسية أولاً إثبات وجود عمل فدائي عسكري منظم لا يمكن أن يتوقف، وثانياً إزالة التهيب النفسي عند الفدائيين الذي خلقته الدعاية المضادة للكفاح المسلح، حيث صورت هذه الدعاية مدينة عدن أنها أشبه بالزنزانة المغلقة التي تتحكم بها القوات العسكرية المتواجدة فيها والاستخبارات البريطانية التي تحصي أنفاس كل مواطن صغيراً كان أم كبيراً يعيش في هذه المدينة وضواحيها.كانت أحاديث وتصريحات بعض السياسيين والكتاب في الصحف الموالية لا تخلو من التهكم على الجبهة وقياداتها التي كانت تطرح فكرة القيام بعمل فدائي داخل المدينة لمقاومة الوجود الاستعماري .. بل ووصل الأمر الى حد وصم هذا التفكير بالطيش وعدم إدراك العواقب .. كل ذلك قد وضع البدايات للعمل الفدائي تحت المراقبة والإشراف المباشر من قبل القيادة العليا المسؤولة عن تنظيم كل القطاعات في مدينة عدن بما فيها القطاع العسكري .. وأخذت القيادة تعمل على رصد الأصداء وردود الأفعال ومناقشة الخطط للعمليات الفدائية وتنفيذها ومن ثم تقييم نتائجها وتحديد السلبيات ليتم التنفيذ في العمليات التالية لها.هذا الاهتمام والحرص من قبل القيادات العليا لتنظيم الجبهة القومية وقيادة القطاع الفدائي المنفذ للعمليات العسكرية كان قد أثمر في إزالة التهيب النفسي لدى الشعب والفدائيين ووفر مناخ الاستمرار للعمل العسكري الذي تصاعدت وتيرته وتوسع نطاق تأثيره ليشمل كل أحياء المدينة وساحات المعسكرات والأماكن المحصنة في الأحياء السكنية للبريطانيين ومواقع أعمالهم.في العمليات التي شكلت البداية بقصف مبنى المجلس التشريعي في كريتر وضرب برج المطار وغيرهما من الأعمال الفدائية التي استخدم فيها رمي القنابل على بعض الأهداف المتفرقة في المدينة.. في هذه العمليات برزت بعض السلبيات التي عممت فيما بعد للاستفادة منها وعدم تكرارها في العمليات اللاحقة والمماثلة لها مستقبلاً.كان تنظيم العمل الفدائي يقوم على تكوين مراتب تنظيمية داخل الأحياء وتحت هذه المراتب توزعت خلايا فدائية انتشر أفرادها كعمال وموظفين في كل المرافق والمؤسسات بما فيها المعسكرات البريطانية، أو داخل ما يسمى بالجيش الاتحادي ومؤسسات الشرطة والأمن في مدينة عدن.كنا كقيادة للأحياء قد تحملنا مسؤولية تكوين الحلقات والخلايا القيادية على مستوى الأحياء وتأهيل أفرادها فكرياً وتنظيمياً وتوفير الصفات التي تؤهل الفرد للقيام بالعمل الفدائي باقتناع عامر بالإيمان ورباطة الجأش والاستعداد للفداء والتضحية من أجل تحرير الأرض من دنس الغاصب الدخيل.وهكذا سار العمل بشكل تصاعدي، نرسم الخطط العسكرية ونناقشها داخل الإطار القيادي الذي كان يضم عناصر تتحمل مسؤولية قيادة الحلقات والخلايا والخلايا القيادية، والبعض الآخر يتحمل مسؤولية إدخال الأسلحة وخزنها وإعدادها قبل تنفيذ المهمة، والبعض يكون مسؤولاً عن الاتصال بالقيادة العليا وإبلاغها عن طبيعة العمل العسكري الذي سينفذ، وأخذ التوجيهات والملاحظات التي تصل بجوانب الحماية للأفراد والمواقع والساحات التي سينفذ بها العمل الفدائي.. إذ أن القيادة العليا التي تقود كل القطاعات في المدينة كانت تتجمع لديها المعلومات التي تردها من مختلف القطاعات التي يتكون منها تنظيم الجبهة في المدينة ولديها جهاز أمن يتسلم هذه المعلومات ويحللها ومن ثم تعطي التوجيهات التي في ضوئها يتحدد فيما اذا كان الموقع وإجراءات التخطيط والترتيبات للعملية مناسبة أم لا.. وإذا برزت أية شائبة تعرض الأفراد او الجماعة للخطر يتم إعادة النظر بالترتيبات والمواقع وتعديل الخطة لضمان نجاح العملية بإصابة الهدف وتكبيد العدو أكبر الخسائر والأضرار.كانت الجبهة تجند إمكانيات كل القطاعات الشعبية في رصد تحركات العدو ونشاط أجهزته الاستخبارية والعسكرية وفي جمع المعلومات المهمة والضرورية وصبها في بوتقة الجهاز الأمني التابع للجبهة، الذي بدوره يقوم بغربلة هذه المعلومات والتأكد من صحتها وتقديمها للقيادة العليا في المدينة التي تعمل على بثها إلى القيادات الدنيا في القطاعات المختلفة للجبهة وتحويلها إلى توجيهات تؤمن سلامة العمل ونجاحه.. هذه الاحترازات الأمنية كانت تتركز بدرجة أساسية على تأمين الفدائيين وتوفير عناصر السلامة للعمليات الفدائية قبل وأثناء العملية في مواقع وطرق ومساحات التنفيذ لها.بعد كل اجتماع في المرتبة القيادية التي تناقش فيها خطط العمليات.. كان قائد الجبهة في المدينة وهو رئيس شعبة مدينة عدن عبدالفتاح إسماعيل.. يطلع على نتائج الاجتماع وطبيعة الخطط العسكرية المقدمة من الاعضاء، يطلع عليها ولا يناقش او يعدل فيها، وإذا أبدى أي ملاحظة حول العملية الفدائية تنقل الى المسؤول الأول عن هذه العملية الذي يأخذ بها أو لا يأخذ بها بحسب الحالة الميدانية التي يتعامل معها هذا المسؤول عن العملية، لان الأخذ بالملاحظات من هنا وهناك قد يؤدي الى الغاء العملية أو فشلها.لنأخذ أحدى العمليات الفدائية التي نفذت في نادي البحار في مدينة التواهي كانت الخطة قد وضعت من قبل احد القياديين الذي هيأ نفسه لتنفيذ العملية واذا به يتسلم ملاحظة صارمة ملزمة من القيادة بعدم استخدام الحماية في الشوارع التي ستمر بها السيارة بعد الانسحاب من موقع العملية.. كان يقصد بالحماية ان يقف في طرف او وسط كل شارع شخص يحمل قنبلة ومسدس، لاعتراض أية دورية تطارد او تتعقب سيارة الفدائيين والاعتراض يعني ضرب الدورية المتعقبة للحيلولة دون اللحاق بسيارة الفدائيين.. ولما كان هناك اصرار بالغاء الحماية اعتذر هذا القيادي عن تنفيذ العملية وكابر قيادي آخر على تنفيذ العملية دون الاستعانة بالحماية، ورغم المراقبة الدقيقة لموقع العملية والالتزام الصارم باتباع الإجراءات المرسومة في الخطة لتنفيذ هذه العملية وقع جميع المنفذين بالمحذور.. وكانت المفاجأة ان دورية انجليزية ظهرت فجأة من خلف الإذاعة لحظة انسحاب سيارة الفدائيين من موقع العملية.. وكانت المطاردة بين السيارتين من شارع الى شارع دون أن يعترض الدورية الانجليزية أي عمل فدائي في طريقها حتى تمكنت من اللحاق بالسيارة واعتقال احد الفدائيين الذي تسمر بداخلها حتى اقتيد الى مركز الاعتقال في رأس مربط بمدينة التواهي .. وهكذا عند تقييم نتيجة العملية احست القيادة ان الحماية كانت ضرورية لتأمين الانسحاب وتوفير عامل السلامة للسيارة والفدائيين، إلا أن هذه الاخطاء كانت لا تتكرر في العمليات اللاحقة، بل يتم الاستفادة منها وتعميمها على كل المراتب والخلايا والحلقات التنظيمية الأخرى.عندما باشرت قيادة الجبهة في عدن القيام بالعمل العسكري داخل مدينة عدن كانت تشعر ان البداية ستكون صعبة جداً.. ولذلك لجأت إلى الإعداد والتحضير لمثل هذا العمل واستمرت كذلك حتى دخلت في جدل ومناقشات متكررة ومتابعة مع قيادة الجبهة التي كانت متواجدة في مدينة تعز.. كانت القيادة في الخارج تتصل وتضغط من خلال الرسائل والرسل والتعاميم تؤكد ان العمل الفدائي في عدن الذي سيترتب عليه استمرار الثورة المسلحة.. واضطر فيصل عبداللطيف النزول الى عدن.. اذ كان قبل انشغاله بمسؤولية القيادة في تعز يتحمل مسؤولية جبهة عدن.. ثم استلم المسؤولية منه نور الدين قاسم الذي حضر للعمل العسكري بمباشرة التنفيذ للعمليات الفدائية الاختبارية.. وبعد اعتقال نور الدين قاسم تسلم مسؤولية جبهة عدن عبدالفتاح إسماعيل الذي حضر تحضيراً جيداً للعمل العسكري الذي استهله بعملية قصف مبنى المجلس التشريعي في كريتر التي اشترك فيها مجموعة من الفدائيين على راسهم ابوبكر شفيق.. وفاروق مكاوي وخالد هندي وعبدالرحمن فارع وعلي صالح بيضاني وغيرهم من الفدائيين الذين لم نتمكن من التعرف على اسمائهم.. وبرزت في هذه العملية بعض السلبيات التي عملت القيادة على تلافيها وعدم تكرارها .. ثم اقدمت القيادة على تنويع العمليات وفي مواقع أخرى، كضرب برج المطار المدني بالبوازيك والاقدام على اغتيال أبرز عناصر المخابرات البريطانية في وسط مدينة كريتر، وكذا عملية ضرب الإذاعة في شهر مارس من عام 1965م التي اشترك فيها أكثر من ثلاثين شخصاً من الفدائيين ومن مختلف الاحياء تحت قيادة وتخطيط عبدالفتاح اسماعيل نفسه، وكنا في هذه العملية انا والاخ محمد صالح مطيع والاخ عبدالرحمن هزاع واحمد محمد سعيد قد شاركنا في التخطيط لها ومن ثم تابعنا توزيع الفدائيين وتحديد مواقعهم وتوزيع الاسلحة عليهم حسب المهام المنوطة بكل مجموعة أو فرد.. والتأكد من عملية الانضباط والحضور حسب المواقع المحددة في الخطة .. ولما وجدنا أن احد الافراد المكلف بتعمير قذائف البازوكا قد تأخر عن الحضور في الوقت المحدد .. أصدر الأخ عبدالفتاح أمر للاخ محمد صالح مطيع بان يقوم هو بتنفيذ المهمة بدلاً عن الشخص الغائب من مجموعته.. وفعلاً نفذ الأخ مطيع الأوامر فوراً وتحرك الى موقع الهجوم بالقرب من الإذاعة ونفذ المهمة بكل شجاعة واتقان.. وهكذا نفذت العملية بنجاح وكانت من أكبر العمليات التي نفذت حينها في منطقة محاطة بالحراسة والمواقع العسكرية من كل جانب..بعد هذه العملية الفدائية الناجحة.. تم انتشار العمل الفدائي في كل أحياء مدينة عدن وتوسع نطاق هذه العمليات بصورة أذهلت الرأي العام المحلي والخارجي.. ولذلك أخذت القيادة تهتم كثيراً بالقطاع الفدائي فشمل التربية الفكرية والتدريب على السلاح وتوفير المخابئ للأسلحة وغيرها من المستلزمات الضرورية للعمل الفدائي كتوفير المنازل التي يتم التدريب فيها.. والتخلص من الأسلحة القديمة التي كانت تعيق تنفيذ العمليات أو تؤدي إلى فشلها.. لأن أنواع الأسلحة التي كانت تقدم لنا عبارة عن أسلحة انجليزية قديمة من مخلفات العمل الفدائي في حرب السويس وبورسعيد كانت قد استخدمت في العمليات الفدائية ضد التواجد العسكري البريطاني في مصر.كانت الجماهير داخل مدينة عدن قد اعتادت على سماع الانفجارات والاشتباكات الليلية بين الفدائيين والقوات البريطانية وتحولت هذه الجماهير إلى حارس أمين للفدائيين في كل زقاق وبيت وشارع والبيوت والمحلات التجارية والدكاكين كانت مفتوحة لكل فدائي يريد النفاذ من مطاردة الدوريات البريطانية أو الاختفاء عن أعين المخبرين والجواسيس المنتشرين في الأحياء والأزقة الشعبية.كان كل فدائي يشعر أنه تحت الرقابة الدائمة وعليه أن يحصر تحركاته واحتكاكه بالآخرين بقدر الإمكان حتى لا يكون عرضة للسقوط. ولذلك كان الفدائي بعد كل عملية فدائية يتعمد الذوبان بين المواطنين، يستمع إلى تعليقاتهم ويتطلع إلى أمارات النشوة والافتخار في وجوههم وهو يراقب بهدوء كامل مع عدم إظهار ما يثير الشك أو يسترعي انتباه الآخرين نحوه.كانت القوات البريطانية تطور من أساليب عملها في الدوريات وفي مواجهة النشاط العسكري للفدائيين.. مثلاً بعد أن كانت الدوريات العسكرية تتحرك في الشوارع على الطرق المفتوحة من الأمام، والخلف والجوانب وتتعرض للهجمات الفدائية عمدت بعد ذلك إلى تحصين الدوريات بأشباك حديدية من جميع الجوانب ما عدا سطح السيارة الذي بقي مفتوحاً للمراقبة وإطلاق النار.. في مثل هذه الحالة كان على الفدائيين أن يطوروا من أساليب عملهم بحيث يتمكنون من إصابة الهدف داخل السيارة إصابة دقيقة وقاتلة.. كانت التوجيهات للفدائيين أن يتدربوا على رمي القنابل من الأعلى رأسياً بحيث تنزل عبر الفتحة في سطح الدورية لتستقر وتنفجر داخل الهدف المقصود.. ومعنى ذلك أن القنبلة لابد وأن تنزل على مدى محسوب بالثواني من لحظة انطلاقها إلى لحظة انفجارها على الهدف.. وهكذا ظلت القوات البريطانية تبتكر أساليب جديدة في مواجهة الثوار بينما الثوار يجتهدون في تطوير أساليب العمل لمواجهة كافة الاحتمالات والمفاجآت الاستعمارية.كانت القيادات الفدائية تلزم بأن يكون الفدائي القيادي على قدر من المعرفة في النظريات العسكرية في جانب نصب الكمائن والهجوم الخاطف وتوزيع مواقع الأفراد في حال القيام بعمليات كبيرة يشترك فيها أكثر من خمسة أفراد.. إلى جانب عمليات الاستطلاع ووضع الخطة أو الخطط للعمليات الفدائية.كان تحديد الهدف يبدأ على أساس أن يقوم قائد الخلية بتكليف أفرادها بالقيام بالاستطلاع لموقع الهدف وتكوين فكرة شاملة عن تضاريس الموقع وفي الاجتماع الأسبوعي تقدم المقترحات إلى الاجتماع الذي يضم كل أعضاء الخلية وتناقش المقترحات، ومن يقوم المسؤول الأول على الخلية بتحديد الأولويات إذا تقرر القيام بأكثر من عملية بعد أن يقوم المسؤول بنفسه مع مقدم المقترحات بمعاينة الموقع المحدد الذي ستنفذ فيه العملية.وبعد التأكد وإبداء الملاحظات من قبل المسؤول ترسم الخطة وتوزع الأدوار للأفراد بحجم العملية، وذلك بعد أن ينقل المسؤول عن الخلايا المقترحات إلى مرتبة أو رابطة الحي للمصادقة عليها وإبداء الملاحظات وتوفير الإمكانيات المطلوبة لها من سلاح وسيارات وأية طلبات أخرى.. بعد كل ذلك يتم الشروع بتنفيذ العملية ومتابعة احتمالاتها سلباً وإيجاباً.ذلك كان يتم بالنسبة للعمليات الفدائية الجماعية والكبيرة.. أما العمليات التي يقوم بها الأفراد. فيتم التكليف للشخص أو العنصر الممارس أو المبتدئ بالعمل الفدائي وبالذات مثل رمي القنابل على الدوريات والأماكن الصغيرة، أو صنع العبوات الناسفة المحدودة التأثير والإصابة في أماكن ومواقع تجمعات الجنود والضباط الإنجليز.استمر النضال الوطني في مدينة عدن في تصاعد يومي وأتسع نطاقه ليشمل كل القطاعات الشعبية التي ساهمت في الدفع بوتيرة النضال إلى أقصى مدى من التظاهرات والاعتصامات والاضرابات التي شلت الحركة داخل المدينة، وجعلت قوات الاستعمار البريطاني تعيش في حالة من الذعر والفزع والاضطراب.. مما جعلها تقدم على إنزال عشرات الآلاف من الجنود لاحتلال الشوارع، والدوريات المستمرة التي لا تنقطع ليل نهار، ونقاط التفتيش التي لا تعد ولا تحصى، تتمترس في كل الطرقات وأطراف الشوارع والأزقة وسطوح المنازل، وحولت المؤسسات الحكومية والمدارس إلى ثكنات تنطلق منها الدوريات العسكرية لمداهمة المنازل وتفتيشها، إلى جانب المراقبة الجوية الدائمة بواسطة المروحيات لمطاردة الوطنيين وتشديد حملات الاعتقالات لتشمل كل من له نشاط وطني أو يشتبه أن يكون له نشاط مناصر أو متعاطف مع الثورة والثوار.وإزاء هذا المد المتعاظم لنضال الشعب في مدينة عدن وبقية مناطق الجنوب المحتل اضطرت الحكومة البريطانية إلى إتباع أساليب المناورات السياسية على مطالب الشعب في الحرية والاستقلال وعلى قرارات الأمم المتحدة الصادرة في الخامس من نوفمبر عام 1965م، وتمثلت هذه المناورات الاستعمارية بالإيعاز إلى ما يسمى بحكومة الاتحاد في 13 مايو 1966م، بإعلان قبولها بقرارات الأمم المتحدة. فما كان من الشعب إلا أن قام بالتصدي لهذه المناورة وفضحها على المستويين المحلي والدولي الأمر الذي أدى إلى ان تعلن لجنة الاستعمار في الأمم المتحدة رفضها لبيان ما يسمى بحكومة الاتحاد وذلك في 19 مايو 1966م وكررت تأكيدها على أن قرارات الأمم المتحدة الصادرة في 5 نوفمبر 1965م تخص الحكومة البريطانية وحدها وليس الكيانات التي تطال القرارات بإلغائها وإزالتها عن طريق الاستقلال الناجز للشعب والبلد.ولما افتضح أمر الحكومة البريطانية وهشاشة أساليبها اضطرت مرة أخرى إلى بعث مذكرة إلى «يوثانت» الأمين العام للأمم المتحدة توافق فيها على إرسال لجنة الأمم المتحدة إلى المنطقة.. وضمنت المذكرة عدة تحفظات تسلب اللجنة من مهامها.. ما حدا باللجنة الدولية إلى إعلان رفضها للتحفظات البريطانية وطالبت بالسماح لها بزيارة المنطقة دون قيد أو شرط.. ولم تجد الحكومة البريطانية أمامها من خيار سوى القبول بمطالب الشعب في الحرية والاستقلال الوطني الناجز.
دور مدينة عدن في مسيرة الكفاح المسلح وحسم المواجهة مع الاستعمار
أخبار متعلقة