نجمي عبدالمجيد لهذه الدراسة مكانتها الهامة في البحوث المتصلة بتاريخ عدن عبر العصور الماضية وقد رفد الباحث عمله بمرجعيات ورؤية تحليلية تكشف عن ما كانت عليه الأحوال في ذلك العهد والذي يعد من الفترة التي عاصرت فيها هذه المدينة مراحل من الصراعات والاستقرار ومنزلة موقعها في رفد خزائن الدولة بالأموال كذلك يرصد الكتاب جوانب من حياة عدن الاجتماعية وهو الشق المهم في تكوين خصائص المجتمع العدني فعدن مدينة لا تقف حدود قوتها عند مصالح الاقتصاد بل لها في بناء شخصية الفرد وترتيب الأوضاع العامة ما يجعلها المقصد الأكثر من طائفة ومعتقد وشعوب جاءت إليها من مختلف الأصقاع واسست نواة هذا النسيج العدني. يقول الباحث محمد منصور علي صالح بلعيد عن فترة من تاريخ الصراع على عدن في ذلك العهد: ( بعد استيلاء المؤيد على أبين برزت بوادر طمعه في الملك ووصلت الكتب إليه من أخيه المنصور والقاضي محمد بن عمر تطلب منه الطاعة لأخيه الاشرف وتحذره من التقدم إلى تعز ، وتخبره بإعداد أخيه الأشرف الجيوش لمواجهته ويبدو أن المؤيد أراد السيطرة على عدن حتى لا تكون شوكة في ظهره عند مواجهة أخيه الاشرف وكذا الاستعانة بخزانتها لحرب أخيه وعند وصول جيوشه إلى ساحل عدن اخذ ينظر إلى أسوار عدن ويتفقدها وتورد المصادر خوف المؤيد وهو يتهيأ لغزو عدن على سكان المدينة من جيشه « الجحافل والعربان وكل طماع » وهم من الأعراب الذين يسعون إلى السلب والنهب انه متى دخل المدينة عنوة دخلت الجحافل والطماعة فأهلكت المسلمين لذا رأى المؤيد أن عدن لا تؤخذ إلا بالخدعة وبالسرية التامة فأخذ ينظر إلى دروب عدن وحصونها فرأى درباً ضعيفاً متشعتاً، وطلب من قادته إحضار احد الصيادين ممن بالساحل واخذ يسأله عن الجبل وطرقه ومسالكه وأفضل الطرق للوصول إلى باب عدن فأخبره الصياد أن هناك طريقاً يوصل الإنسان إلى الباب وعندما استوثق المؤيد من صدق كلامه وانه لانجاح لمسعاه إلا بكتم السر اخذ الصياد معه وعاد إلى الاخبه ويورد ابن عبد المجيد « أن المؤيد أرسل مع الصياد عند مغرب ذلك اليوم 300 من الجواد المفردين وقال له اطلع بهم و أوصاهم أنهم أن أمكنوا الجبل وصل منهم رجل يعلم السلطان بذلك وأوصى المفردين أن لا يظهروا أنفسهم حتى يرون السلطان بالقرب من باب عدن وعندما علم الوالي بقدوم المؤيد جمع عسكره لحفظ المدينة ولما قرب السلطان من الباب خرج المفردون وصاحوا من رأس الجبل ونزلوا فملكوا الباب وهرب الوالي والتجار إلى البلد وصاحوا : الأمان الأمان فاذم السلطان عليهم وخرج الوالي والناظر واعيان البلد والتجار وصدور الناس رغبة ورهبة واستولى الملك المؤيد على عدن ولم ينلها من المتحفظة والمتحرسة شيء وساسها سياسة مثلى وفتح الباب ورجع إلى الاخبه. أثار استيلاء المؤيد على أبين ولحج وعدن في سنة 695هـ / 1296م غضب اخيه الاشرف فجرد إليه ولده الناصر في 300 فارس ولما وصل إلى الراحة وصل إلى الشريف جمال الدين علي بن عبدالله كما عزز بابني الامير إزدمر نجم الدين وبدر الدين فكثرت الجموع و تالبت الخيل ولم يكن مع المؤيد إلا عسكره الذين وصل بهم من الشحر وجماعة من الجحافل بقيادة عمرو بن سهيل ومن انضم اليه من عسكر الاشراف بأبين ، ثم انتقلت جيوش الناصر من الراحة إلى كثير الغثيب حيث دارت الواقعة بين المؤيد وابن اخيه الناصر في 14 محرم 695هـ / نوفمبر 1295م فانهزم المؤيد إلى درب الدعيس واحاطت به العسكر وطلب الذمة من الناصر بواسطة قتادة بن ابراهيم فأعطاه الناصر الأمان وسارث به الى الاشراف فأمر باكرامه واسكانه حصن تعز في محرم العام نفسه. ما لبث السلطان الملك أن توفي 23 محرم سنة 696هـ - اكتوبر 1296م وقبر بمدرسته التي أنشأها بمغربة تعز).مما يقدمه الباحث في هذا الجانب من تاريخ عدن عملية غزوها في عام 1362م من قبل المظفر يحيى بن المجاهد حيث يذكر يحيى بن الحسين بأن أولاد الملك المجاهد المظفر والصالح والعادل اختلفوا مع أبيهم عام 1362م فكان خروج المظفر من تعز في أكتوبر من نفس العام بعد أن اخذ من تعز ما يلزمه من العدة لغزو عدن.وتذكر المصادر التاريخية مثل كتاب الخزرجي «العقود اللؤلؤية» بان المظفر قد استعان بجماعة من العقارب وهي قبيلة تسكن محافظة لحج ويمتد خط ديارها من بير احمد غربي عدن حتى رأس عمران ومن مناطقها المعروفة الاخبة والحسوة وباك وبئر احمد . وقد امرهم بالتقدم نحو باب عدن المعروف باسم باب البر وعند وصلوهم تبعهم بعض المماليك وعندما وصل العقارب الى باب عدن وقفوا عند البوابين في حالة انتظار لوصول المظفر ومن معه غير انه لم يصل في الوقت المطلوب غير أن حرس الباب أغلقوه وبعد ذلك اقبل المظفر فخرج إليها أمير عدن ومعه سكان المدينة وجرى بينهم قتال لمدة ساعة من ذلك النهار فهزموهم وعاد المظفر إلى لحج وأبين وقد علم المجاهد بأمر ابنه وجرد إليه بهاء الدين السنبلي غير أن المظفر هزمه في موقع يقال له الشراجي فنزل المجاهد إلى عدن وكانت شوكة بدأت تقوى على تلك الأصقاع. وقد اقام المجاهد في عدن مدة من الوقت يرسل منها الجيوش إلى ابنه المظفر حتى مات في عدن بدار الكوكب وكذلك قيل في دار السعادة يوم السبت 25 جمادي الأولى 764هـ / 25 ابريل 1363م وقد ذكر أن المجاهد بنى هذا الصرح على جبل المنظر عندما قيل له ( انك تموت على البحر ) وبعد رحيله عقد أهل دولته مجلساً وقرروا فيه تنصيب ابنه عباس وقد كانت عدن هي الغنيمة الكبرى لهم ففي أواخر حكم الإشراف في عام 1398م سعى الأمير بدر الدين محمد بن زياد الكاملي إلى نهب خزانة عدن والتي كما قيل بأنها عظيمة المال بها من الذهب والفضة والملابس وحاجات أخرى تجعل كل طامع في عدن يضع هذه المغانم في أوليات فكره وعمله أن سعى إلى حكم عدن. لم تكن عدن مدينة الصراعات السلطوية وغنائم المال، بقدر ماكان للعلم حضوره في هويتها التاريخية والحضارية، ومما يستشهد به الباحث الأستاذ محمد منصور علي صالح بلعيد في سفره هذا، يدل على المنزلة الكبرى التي بلغتها عدن في تلك الحقب وعن هذا الجانب من صفات هذه المدينة يقول الكاتب: (أتسمت عدن بحكم موقعها المتميز على البحر بين الشرق والغرب بالسمة التجارية البحتة، حتى أن الحديثي تساءل عما إذا كان العلم يدخل ضمن اهتمام مدينة عدن ذات الوظيفة التجارية الصرفة، وهذا التساؤل يجيب عنه نفسه إذ أن النشاط التجاري والحركة التجارية النشيطة في عدن في هذه الفترة ارتبط بها كذلك الأزدهار العلمي والفكري في هذه المدينة فالحركة العلمية رديفة للنشاط التجاري للمدينة، الميناء، وبتعبير أوضح فالنشاط التجاري مرتبط بعلوم رياضية كالحساب والجبر والمقايلة التي يجب تعلمها من قبل والتجار والمشتغلين بالتجارة لتنمية تجارتهم، وكذا علوم الفلك والبحر هي من العلوم المنتشرة والتي مهر بها أهل عدن فازدهرت تجارتهم ووصلت سفنهم ببضائعها إلى الهند كما ذكر ابن بطوطة، كما أن تجار عدن والوافدين إليها كانوا تجاراً او يتعاطون التجارة ومنهم بن سعيد كبن، كان تاجراً وهو من أشهر علماء عدن في أواخر القرن الثامن الهجري / الثالث عشر الميلادي، وكذا ابن حجر كان تاجراً يشتغل بالعطارة، وابو شعبة والشيخ جوهر العدني كانا بزازين، وأوردت المصادر عدداً من العلماء التجار الذين دخلوا عدن للتجارة وأفادوا علمياً واستفادوا تجارياً، منهم خضر بن إبراهيم يحيى خير الدين بن برهان الرومي التاجر الكارمي قدم إلى عدن مع أبيه سنة 811هـ ـ 1409م، وكذا صقر التكريتي قرأ عليه محمد بن علي بن جبير صحيح مسلم لعلو سنده فيه، وغيرهم كثير، لذا فقد كانت الحركة العلمية في عدن رديفاً للنشاط التجاري الجاري فيها وهو ماادى إلى الازدهار العلمي لهذه المدينة خلال فترة الدراسة، كما أورد ألحديثي أنه عن طريق البحر انتقل علم مصر القديمة إلى الإغريق وهو مانجده في مدرسة العلم في عدن، فعن طريق البحر ازدهرت هذه المدينة تجارياً وعلمياً فأتصلت بمدرسة مكة ومصر والهند، وكان للمكانة التجارية لعدن دور اساسي في ذلك وكان لعدن دوراً تجاري وعلميً منذ فترة ماقبل الإسلام نجهل منه الدور العلمي وإن كان لدورها التجاري جذور قديمة استمرت ظاهرة فيما اكتسبت الحركة العلمية لهذه المدينة الصفة الإسلامية بفعل دخول الإسلام إليها منذ العقد الاول من القرن الأول الهجري / السابع الميلادي وتعود أهمية مدرسة عدن الى نشأتها المبكرة ومصادر أهل العلم فيها عموماً والجيل الأول خصوصاً فنجد ان علماء هذه المدرسة كانوا قبلة لأبرز علماء المسلمين، فالحكم بن أبان، وصل سفيان بن عيينة (ت: 198هـ 813م) وقال فيه اتيت عدن فنم ارى مثل الحكم بن ابان» ، وهذا يدل على مكانة اهل العلم في عدن والمدرسة التي اسسوها في عدن كما ذكرت رحيل احمد بن حنبل الى عدن من أجل ابراهيم بن الحكم بن ابان بعد سنة. 170هـ ـ 786م ولم يجده، كما اتصفت مدرسة العلم في عدن بإنفتاحها على المدارس اليمنية الاخرى وكذا المدارس الخارجية كمكة ومصر والبصرة ودمشق ونيسابور والهند واهم ميزة لهذه المدرسة كما سلف ذكره ارتباط نشاطها العلمي بالتجاري وقدوم العلماء والتجار في المواسم التجاري لاهل الأمصار بالإضافة إلى استفادتها من وقوعها على طريق الحج للأمصار الواقعة شرق عدن، فكان الحجاج يصلون اليها ذهاباً واياباً).ومن الجوانب الاخرى التي عرفت بها عدن عبر ازمنتها الماضية، تداخل الحياة الإجتماعية بين الناس، فهي مدينة التسامح والتصالح بين المذاهب والأديان والأجناس، مما اكسبها طابع الهوية عبر الإنتماء، فكانت مدينة لا تعرف مبدأ نفي الغير بل تمزج كل ماهو قادم إليها ليكون النسيج العدني.شكل تعدد الاعراق في عدن صفة مهمة فقد استوطنها كل من هاجر اليها مثل الفرس والهنود والاحباش والعرب وغيرهم من الذين كانواعلى اتصال بها، واشار الرحالة ابن بطوطه الى هذا التنوع عندما زار عدن، وهذه الجاليات عملت في التجارة، ومنهم اليهود الدين كانوا جزءاً من الوضع الاجتماعي ووجودهم في عدن يعود الى حقب بعيدة في الزمان، وقد هاجرت اسر منهم الى عدن من حوض البحر الابيض المتوسط والعراق وايران والمغرب العربي، ولكن نشاطهم في مجال التجارة ظهر في القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي، وكانت لهم صلات اجتماعية وعقائدية وتجارية مع يهود مصر وكذلك في مجال الزعامات الدينية.وكما كانت لهم محكمتهم العبرية ومعابدهم ومدارسهم وحواريهم الخاصة في عدن، كما ارتبط زعيمهم في عدن والهند في القرن الثاني عشر ـ السادس بعلاقات مهمة مع كبار قادة الدولة الاسلامية، كذلك عملوا على وضع قوانين الضرائب في عدن لدولة بني زريع ويرجع ذلك الى خلف اليهودي.شكل يهود عدن جزءاً مهماً من سكانها وعملوا بالتجارة فيها وبالذات صياغة الذهب والفضة والحلي في سوق الصاغة، كما توسعوا في هذه الأعمال التجارية وقاموا بدور الوكلاء التجاريين لتجار الهند ومصر، ومن أهم الأسر اليهودية في عدن خلال القرن السادس الهجري ـ الثاني عشر الميلادي اسرة مضمون اليهودي، ومضمون بن داوود، وابراهيم بن بيجو (باجو) وخلفون بن ناثينان الدمياطي (أبو ايوب سعيد الدمياطي) و أبو زكري كوهين السجلماسي.يذكر الباحث في كتابه هذا عدة معلومات مهمة عن الاحياء السكنية في عدن والتي تعود الى قرون خلت من التاريخ، وحول هذا الجانب يقول:(قسمت عدن الى أحياء وحواري ذات قوانين ادارية منفصلة، وقد وصفت حواريها إنها متفرقة وبعيدة بعض الشيء عن بعضها، فكان التمركز السكاني يمتد من سفح جبل الخضراء طولاً وعرضاً حتى باب عدن، وتميزت المناطق المتاخمة للميناء بازدحامها الشديد اكثر من غيرها خصوصاً في كافة القطيع، وقد تحكم في تخطيط المدينة وتوزيع احيائها وحواريها مجاري السيول، فتركز استيطان عدن في طرفها ممايلي الساحل وقريب منه.ويظهر من اشارات المصادر الى عدد من حواري عدن انها قسمت بحسب الحرف او الاجناس والاعراق القاطنة في عدن، إذ اتخذت كل اقلية قسماً خاصاً بها وعرف هذا الحي او الحارة باسمها، ويبدو ان التقسيم الحالي للمدينة لا يختلف كثيراً عن حارات عدن في العهد الرسولي، إذ احتفظت كثير من الحارات بأسمائها القديمة كحارة الهنود وحارة اليهود والقطيع وحسين (الأهدل) والطويلة والزعفران والخساف، وسكن اهل عدن واليمنيون من مختلف المناطق في حارات عديدة وامتزجوا ببعضهم وتعايشوا مع الأقليات العرقية الأخرى، ولم تشهد المدينة اية صراعات او اختلافات بين هذا المجتمع المتعدد الاعراق، ووجد بكل حارة آبار ومساجد ومعابد .. وأهم حارات عدن ...)السرديات التاريخية في هذا السفر لا تعطي فقط النظرة عن عدن في تلك العهود الماضية، بل تخلق جسور امتداد مابين السابق والراهن من سيرة هذه المدينة.فالبحث في تاريخ عدن الغابر يكشف لنا عن أهمية هذه المدينة في الرهان السياسي ومركزيتها الكبرى في حركة الإقتصاد، وبين المال والسلطة يكون الإتجاه نحو شكل القيادة التي تحكم عدن.وتظل الدراسات في تاريخ عدن عمليات إعادة لقراءات ما غاب عن الذاكرة والوجدان من حياة الناس وهويتهم نحو هذه المدينة.
|
ثقافة
عدن في عصر الدولة الرسولية
أخبار متعلقة