الباحث بلال غلام حسين
نجمي عبدالمجيد يمتلك هذا الكتاب حق الانتماء للدراسات والبحوث والترجمات التي ظهرت عن عدن في السنوات الماضية، والمتصلة موضوعياً بفترة الحكم البريطاني والذي يعد حقبة من التاريخ تميزت عن سابقاتها بدخول عدن إلى العصر الحديث، فهو من حيث المرجعية قد عزز بمصادر بريطانية تعد السند الأهم في معرفة ما كانت عليه عدن وكيف أصبحت في تلك المرحلة مدينة عالمية عبر علاقاتها مع العالم خارجياً وداخلياً وفي قيام مؤسسات المجتمع المدني التي أعطت لها صفة العصرية بين الأمم المتقدمة، تلك هي عدن في عهدها الزاهر مدينة كونية الانتماء وهو ما جعلها موطناً لكل من جاء إليها بحثاً عن روح الإنسانية الجاعلة منها هوية لهذا المكان. يقول الباحث الأستاذ بلال غلام حسين في مقدمة الكتاب بأسلوب جمع بين شاعرية المفردات وخيال العائد إلى أزمنة حملت في عبقها تلك الملامح من الماضي الذي جعل من عدن نجمة منيرة في سماء الحنين إلى عهودها السابقة: (تاريخ عدن يسري بنا من سواحل عدن على هواري الصيادين البسطاء، إنه ذلك التاريخ الذي دونه المؤرخون في كتبهم ليبقى ذكرى للأجيال المتعاقبة. إنه ذلك التاريخ الذي سرده الكتاب على صفحات ناصعة في صحفهم، وهو ذلك العبق السحري الذي تملك وجدان الشعراء وسكن أفئدة قصائدهم، إنه تلك الترانيم التي تغنى بها كل فنان ينتمي إلى عدن في أغانيه، لكن يبقى السؤال: هل عدن وتاريخها هو عبارة عن ميناء ومعالم أثرية وتاريخ تجاري عريق فقط؟؟ وللإجابة على هذا السؤال دعونا نذهب في رحلة جميلة لندخل في عمق هذه المدينة وسحرها لنكتشف كنوزها وأسرارها ولنرى تاريخها الحقيقي.لنعرف تاريخ عدن، يجب علينا أولاً التعرف على تلك النخبة من البشر وتلك النماذج التي حفرت أسماءها في ذاكرتنا كنماذج شعبية بسيطة، عاشت في تلك المدينة لقرون من الزمن أدمنت الطمأنينة ورحلت بهدوء ودون ضجيج، تلك النماذج التي أعطتنا من خلال سلوكها الإنساني الرائع شيئاً نتذكرها به، لنعرف تاريخ عدن علينا أيضاً المرور من خلال حواريها الضيقة، من حواري القطيع، مروراً بحواري الملك سليمان وحسن علي والسبيل، والشيخ عبدالله، لنصل إلى شارع الزعفران مروراً بأسواقها التاريخية، مثل سوق الطويل وسوق البز وسوق الكدر وسوق البهرة وسوق الحراج وغيرها من الأسواق.. لكي تعرف تاريخ عدن وتستمتع بحسن جمالها الموهوب عليك الاستيقاظ مبكراً لترى البحر وهو يتراقص فرحاً لحظة انبلاج أول خيوط الشروق الصباحي بعد الفجر حين يفاجئك صوت الصياد القادم من بحر صيرة، حاملاً معه رزقه الوفير وهو صوت الصياد محسن عشينه الذي عشق البحر ليبيع لك السمك باللغتين العربية والإنجليزية ونوادره الصباحية التي تخرج النقود من جيوبنا بكل رضى.لتعرف تاريخ عدن عليك الذهاب إلى شارع السبيل في أي وقت من الأوقات لشراء شميز ماركة (ريل بروك) و (الدبل تو) من عند الخياط اليهودي شوليم وخذ ما شئت من الماركات العالمية، وفي ساعة المغرب حتى العشاء لا تحرم نفسك من الذهاب إلى عند الحلاق الباكستاني الشهير حكيم، ليسمعك آخر أخبار إذاعة بي بي سي، وآخر الأغاني الهندية القديمة تتقاسم ألحانها مع صوت ماكينات المطبعة الشرقية العتيقة لصاحبها موسى أحمد الطيب وأولاده. لتعرف تاريخ عدن عليك الذهاب إلى حافة بانصير لترى كفاح النجار الماهر صالح عوض المتميز بصناعته للبراميل الخشبية الكبيرة التي تجرها الجمال في عربات الماء لنسمع صوت عبده الوراد وهو يروض الجمال بكل وداعة، مع مرور الحاج قائد وهو يحمل على ظهره لوحة خشبية عريضة تعرض آخر الأفلام الهندية لسينما برافين، ولا ننسى الحارة العريقة والشهيرة حافة القاضي، وتاريخها العريق الذي أخرجت من بطنها فنانين عظاماً ومدارجين بمعنى الكلمة، وفريقهما (النشيونال تيم) والملقب بالشوكي تيم، ولا ننسى حوافي العيدروس العريقة أيضاً).القيمة الهامة لهذا السفر في تاريخ عدن، المعلومات المعتمدة على المصدر الأول في هذا الجانب، فهو يجعل من المعلومة البوصلة التي تحدد اتجاه الموضوع، إلى جانب الصور المرتبطة بالأحداث والمراحل وفي هذا ما يعطي للكتاب أهمية أخرى ليست فقط عند الباحث عن المعارف، ولكن عند من يجد في الصور رسائل تكتبها اللقطات والتي تتحول مع مرور السنوات جزءاً من ذاكرة المكان، وما الأمكنة سوى صدى لروح الإنسان.قسم الباحث كتابه لعدة فصول، وكل فصل جاء بما فيه عند حاجة القارئ لمعرفة ما كانت عليه عدن، وما صاحب أحوالها من تغيرات وفي مجالات الحياة، ومما يطرحه علينا الباحث من حقائق التدرج الذي أدخلته بريطانيا في عدن حتى أخرجتها من عهد قرية على شاطئ البحر، عاصرت أزمات عدة وصراعات أفقدتها منزلتها العالمية، إلى مدينة كونية كانت الرائدة في مختلف المجالات الحاضرة عالمياً بفعل هذا التحول البريطاني.عن دخول التعليم الحديث إلى عدن يقول الباحث بلال غانم حسين: (كان البريطانيون في تلك الفترة مهتمين في تثبيت قبضتهم على عدن وتأمين الممرات البحرية لطرق التجارة العالمية. وفي العام 1854م قام السير تشارلز وود رئيس المجلس الهندي بتقدم وثيقة إلى مجلس الإدارة وعرفت فيما بعد (بحزمة وود التعليمية) واحتوت هذه الحزمة على خطة متكاملة لانطلاق المعرفة العلمية من خلال اللغة الإنجليزية واللغات المختلفة الأخرى لجميع المناهج التعليمية في الهند كان الهدف من هذه الثقافة التعليمية الجديدة هو تحسين وضع الهنود وتسليحهم بالمعرفة الحكومة. صادق مجلس الإدارة على هذه الوثيقة في 19 يوليو 1854م مع توصية تقول، بأنه على كبار الضباط الأساسيين في كل منطقة من مناطق الهند أن يستخدموا نفوذهم في تقدم القضية التعليمية.وفي تعميم للضباط السياسيين العاملين تحت حكومة بومباي قال: اللورد الفنستون، إن الحكومة وبطريقة سرية تثق بأن كل موظفي الولاية أكانوا أوروبيين أو محليين سيقدرون انطلاق التعليم كجزء رئيسي من واجباتهم الرسمية. وعندما زار المقيم السياسي لعدن العميد كوجلان لحج في ديسمبر 1856م قام بتعريف العبادل وأبلغهم عن نيته في إنشاء مدرسة في عدن. رحب أولاد السلطان علي وأبناء أخوته بالفكرة وعبروا عن استعدادهم للحضور إلى المدرسة عند افتتاحها، وفي عام 1858م افتتحت أول مدرسة في عدن وكان موقعها في منطقة الرزميت وسميت بمدرسة الرجيمنت، وبدأ التدريس فيها بهدف إيجاد جيل من الشباب لتوظيفهم في الخدمة المدنية لاستفادة المجتمع منهم والأثر الذي سيخلفه التعليم المنظم في حياة المجتمع، ولكن كل تلك الآمال باءت بالفشل وتم إغلاق المدرسة في نهاية فبراير 1860م.