اتسمت التجربة الإبداعية للفنان و الإعلامي الكبير عبد الرحمن باجنيــد بدرجة عالية من الفرادة والخصوصية والمزايا والأبعاد الجمالية والمهنية بالمعنى القيمي التصنيفي و التوصيفي النـقـدي - وبحضورها المتوهـج البـهـي المتألق- في عـموم المــشـهـد الـفــني/ الثقــافي/ والإعلامي، و أجزم إنني لم أعانِ قط عسراً في الكتابة كما اللحظة، لاســيما أنه لم يتـبـيـن من الجهات الأمـــنية والرسـمية إفـــادة أو تفاصيل حول الحـادث الإجـرامـي الـبـشـع و الـلا إنـسـانــي لواحـدٍ من أهـــم الرمــوز الإبـداعـيـة في (مـدينـة عــدن).. و ما يـزيدنــا مرارة و حسرة تجاهل و تغييب (الفنان والإعلامي البارز والأكثر شهرة و انتشاراً عربياً وعالمياً) من وزارتي الثقافة و الإعلام اليمنيتين، تصوروا حتى كتابة هذه السطور لم تـقـم مراسيم العزاء أو حفل الأربعينية مروراً بذكراه السنوية (الأولى و الثـانيـة) ومنذ رحيله المفجع في تاريخ 18/ مايـو/ 2011م.. يـبدو واضحاً و جلياً عـدم رغـبة الجهات الرسمية في تخليد و إحياء ذكرى فـقـيـد الوطن رحمه الله.ظُـــلـــم (الباجنيد) حياً و ميتاً رغم مشوار و رحلة عطاءاته وإبداعاته الفنية الغنائية الموسيقية و الإعلامــية الحافــلـــة والثرية النوعية و المتألقة في خدمة الوطن من خلال مسيرة عمل و كفاح و تعب و معاناة و تاريخ مهني، متميز، راق، ناصع، و مشرّف. أن ما يحدث من (جحـود و نكــران) عـلى صـعيد الواقع المعـــاش كـــارثة ومــصـيبة كبــــرى (أزمـــــة في السـلـــوك و الأخـلاق)ألا يستحق (فـقـيـدنا المبـدع) صاحب التجربة الإبداعية الشاملة و الاستـثــنائــية و لو وقـفة تقدير و عرفان لما قدّمه في سجــلات و ذاكـــرة الوطـــــن (فارساً) في محراب الفن و الثقافة و الإبداع، (الوفاء والعرفــان) ذلك أقـل و أبسط ما يمكن تقديمه تقديراً وتخليداً و اعتزازاً لدوره الفني والإعلامي الريادي والمعاصر. [c1] الغرق في طوفان الكذب و النفاق[/c]كان مبدعنا يمتلك قـلباً رقـيقاً مرهـفاً متـدفـقاً كنهر جار بالمشاعر و الأحاسيس و بأسمى تجليات القـيم والمعـاني الأخـلاقية و الإنســانية النابضة و الحـية و عُـرف عـن (الباجـنـيـد) التواضع و الخجل و نكران الذات، إضافة لذلك لم يكن ممن يجـيـدون صــنع العلاقات و الوساطات و المجاملات على حساب قيمة المستوى الفني الإبداعي الذي يقدمه للجماهير طيلة حياته، نعم كان ينأى بنفسه بعــيــداً عــن أحزاب المجاملات و الوساطات التي بسبـبهــا (غـــرقـــنـا) مــنــذ زمــن بعــيــد في (طوفـان) الكذب و الزيف و النفاق (مكونات الفساد الإبداعي و الأخلاقي في وقــتـنا الراهن).السؤال المهم اليوم هل يحتاج هذا (الرجل) بعد مـــمــاته (للوساطات و المناشـــدات) مـــن أجـــل قــيامـــنا بواجــــبـنــا وإحـسـاسـنا بآدمـيـتـنا...؟!أننا في زمن انعدام المعايير و المقاييس و الأخلاقيات المهنية والوظيفية و الإنسانية و لا تعليق..؟!! نأمل من الجهات ذات العلاقة المختصة الرســمية (وزارتي الثـقـافـة و الإعلام و المجلس المحلي في مدينة عدن) تحريك مجريات الأمور الراكدة و قيامها بدورها وواجبها الوظيفي والإنساني المناط بها في مثــل هذه الحالات التي يرصدها ويتابعها باهتمام (الـرأي الـعـام) و بشكل عاجل حاسم خلال الفترة القادمة.إننا في انتظار صحوة ضمائرنا من غـفـوة انـشـغـالاتنا بـأمـور الحياة فهل نستطـيع إصـلاح مـا أفـسـده الـدهـر..؟!! [c1] مؤامرة انتقامية كبرى[/c]تــبــاعــاً لمـسلـــسل القهر و الأحزان تستمر معاناة أبناء الشعب اليمني و تزداد قساوةً و مرارةً في كل لحظة بسبب إنقطاعات التيار الكهربائي بصورة متلاحقة و عشوائية (12ساعة يومياً) من العبث و الفوضى و اللامبالاة بآدمية الإنسان .. إنها ساعات طويلة يحرم خلالها المواطن من راحة النوم و عدم توفير أبسط الخدمات و لعل أهمها كما أشرت مشكلة إنقطاع التيار الكهربائي المستفز خاصة في هذه الأيام مع قسوة و معاناة صيف عــدن القــائــظ و ارتـفاع و شــدة درجة الحرارة و الرطوبة القاتلة المميتة.. عشرات ومئات الضحايا من مرضى ضغط الدم و الـقـلب والســكري و الفشل الكلوي و الأطفال الرضع يموتون في كل لحــظــة تــحــت مـظــلـة عناوين بارزة رنانة مركزية مبطنة بالنوايا السيئة الخبيثة الملــعونة الرعناء مـفـادها (العـقوبات الجماعية) وتحويلنا إلى الإقامة الجبرية الـقسـرية في سجــن مركــزي كبيـر في داخــل مــديـنة عـــدن.. والعالم بأسره يشاهد ما يحدث من جرائم ترتكب ضد أبنـــائنا و أمهــاتــــنا و شيــوخــنا و الجميع صامت يقف متفرجاً لم يحرك ساكناً منذ سنوات - غياب الأمن والأمان و السكينة و الاســتقرار و المليارات تُصرف من الدول المانحة لأصحاب العيون الحمراء و المصالح و الكـــــروش الـمنـتـفـخة مــن التخـــمـــة و الـبــذخ - حروب الإبـادة الجـماعـيـة تمـارس ضـد شعـب الجــنوب الأعــزل و المسالم تحت مسـمـيات و شـعـارات الحوار الوطني - العدالة الانتقالية - و دولة المؤسسات و القانون.لـقـد سئــمــنا الحــيـاة في سبيل العيش بعزة و كرامة و حرية غـير مــهــدرة مسلوبة منهوبة تحت وطــأة (المؤامرة الانـتقـامية الكبــرى) على أبناء و أهالي الجنوب العدني المنكوب منذ عام1967 م.تتوالى خيبات الأمل بمستقبل أفضل أرغــد من تبعات ما نقـرأه و نسمعه و نشاهده من أحداث جسام يمر بها معترك المشهد السياسي منذ فـترة، يتساقط الشهداء و الأبرياء و هم يقدمون ثمناً باهظاً لقضايا متشعبة معـقـدة، تُسفك الدماء لتصفية حسابات و سيناريوهات ليست في حقيقة الأمر لصالح هذا الوطن و أبنائه الشرفاء الصامدين بل جاءت ليزداد الواقع المعاش ظلاماً و قتامة، فالجميع يهتف وينادي برفع و تحسين حياة الشعب معيشياً- اقتصادياً- اجتماعياً - ثقافياً و معنوياً نحو مستقبل متطور واعــد و مستقــر، فيحتدم الصراع بين الأطراف صاحبة القرار و تزداد فجوة الـخــلاف اتــسـاعــاً.في هذه الأثناء و منذ زمن يصعب تحديده تجاوز عشرات السنين يُطحن و يُسحق كل من له صلة و عــلاقـــة (بالثقافة و الفن و الفكر والإبداع) ، هذه الشريحة المرهفة شديدة الحساسية (صناع الحياة الثروة الحقيقية) التي ينبغي أن يفاخر بها وطننا اليمني الحبيب (ضمير الأمة و ذاكرتها عبر العصور و الأزمـــنة عــلى الأرض) تُــداس مشــاريــعـهـا وأفكارها وآراؤها بالنعال و الأقدام وتُهمل إنسانياً ووظيفياً في مجاهل النسيان و التهميش والتغييب وتغتال أحلامها و تصطدم بواقع أليم مُــذل لا يقوى على احتماله (الشيطان)، ونحن بدورنا نـؤكـد (عندما تسقط السياسة يسقط النظام.. و عندما تــسقط الثقــافــة يســقط الــوطن).[c1] أهم المحاور الفنية والإعلامية في تجربة الفقيد عبد الرحمن باجنــيـد [/c]يُـعـد الفنان عبد الرحمن باجنيد في طليعة و مقدمة الفنانين اليمنيين الذين تأثروا وتـتـلمذوا بين أحضان الموسيقار الكبير أحمد بن أحمد قاسم من خلال (المدرسة القاسمية التجديدية)، و نستطيع القول أنه واحد من أهم مرتاديها الموهوبين الذين استفادوا كثيراً من (فنونها و ثرائها النغـمي الموسيقي المتطور و الحديث)، و بطبيعة الحال كان للأجواء الفنية في تلك الفترة الزمنية المتوهجة المزدهرة البارزة لعصر (الأغنية العـدنية الذهبي) أثـــــرها الــواضـــح و الجلي على موهبة الفنان الشاب حينها عبد الرحمن باجــنيد، و مما لا شك فيه أن لمــدارس الـغـناء الـعــدني و رواده (الجهابذة) الأثر الفني الإيجابي البالغ والفاعل في صقل مكوناته الغنائية والموسيقية و بلورة موهبته الفنية منذ وقت مبكر من حياته الإبداعية. في حقيقة الأمر أستطاع الفنان (الباجــنيد) رغم (قـصر عمره الفني) أن يــؤسس (قاعــدة غـنائــية مغايــرة) لما كان سائداً في ذلك الزمان، بل أنه أختط لنفسه منهاجاً جديداً، وشكّل من خلال عطائه و نتاجه الفني الإبداعي (بصمة مستقـلة) متفردة في عموم المشهد الغنائي الموسيقي اليمني المعاصر. [c1] أبـرز الملامح والخصائص الغنائية والموسيقية [/c]تتلخص ملامح تجربة الفنان عبد الرحمن باجنيد الغنائية والموسيقية و تتمحور في القدرة الفائقة على مزج حالات شعورية إنسانية متداخلة متوحدة في سياق (ميلودي هارموني موسيقي نغـمي إيــقاعي) يُصوّر و يُعبّر عن مــشــاهــد و مدلولات و رؤية ومعان تحمل مضامين عاطفية رومانسية و روحية بكـثافـة وغزارة و بمنتهى الصدق والشفافية والعذوبة تخاطب القلب والضمير والوجدان (بطريقة و معالجة إبداعية قيمة راقية المضمون والأثــر سيكــولــوجــياً و نفسياً في محاكاة المستمع المتـلقـي لأغـانـيه)، أنه في صوته و غنائه كضياء و نور الصباح المشرق يُشعرني بحالة من الفرح والبهجة والغبطة المتوائمة مع الشجن المحبب الجميل والـدفء و السعادة والأمل.فناننا المبدع من وجهة نظري صاحب الصوت الرخيم المتفائل الحالم الآسر والعميق الواصل إلى أفئدتنا وشغاف قلوبنا - الطائر المــحــلق بأرواحنا إلى عوالم المحبة و التسامح الخير والعطاء - هو (الكروان المغـرد) في ســمــاوات و فضاءات الأغنية اليمنية و في الجزيرة العربية والخليج العربي و عموم الوطن العربي من أدناه إلى أقــصاه.و لعل من أبرز روائعه و أغانيه الشهيرة ذائعة الصيت: أعطني ياطير من ريشك جناح/ غني لنا غني/ طير من وادي تبن/ الفرحة فرحتنا/ أنا خايف من حبك/ أذكريني/ حبيب القلب فيه نفسي/ يا ناسي غرامك/ يا صاحب الخال/ بانجناه/ صباح الخير/ حلاوة و إلاّ نار/ بشرى العيد (كل عام و أنتم بخير ) و دويتو هجرت أوطاني.. وسلام.. سلام والعديد من الأغنيات الحاليات الخالدات.أستخدم الفنان المبدع (الباجــنـيد) مقامات موسيقية متعددة ونجح ببراعة و اقتدار في توظيفها بفطرة ربانية غــير متناهية وبشكل جذاب مبهر حفرت في ذاكرة و ذائقة الجماهير العريضة في الداخل و الخارج - مُتّبعاً أسلوب و منهاج (السهل الممتنع) في التلقائية و البساطة، مثالنا على ذلك تــعاطيه بحــنكة وفــذاذة مع المــقامــات التــالية: البيات/ الراست/ الكـرد/ الهزام/ السيكا/ النـهونـد.. وغيرها من المقامات الشرقية التي أستطاع إعادة تقــديمها و صــياغــتــها و معــالجتها علمياً و موسيقياً باشتغالات معرفية واعية و بحرفية و إتـقـان فأعطاها خصائص إبداعية غير مسبوقة جديدة من نبضه و عوالمه الساحرة الخاصة، إضافة لذلك قدرته الفنية والنغمية والصوتية اللافتة الخلاقة الباذخة على التنويع والتجـدد في ألحانه و في سياق الأغنية التي يقدمـها و نعني بذلك الأمر (هيكل و قوام و بناءات اللحن في شكل و نمط المعـمار الموسيقي الهندسي الذي يقدمه بكفاءة عالية)، ليــرتـقي بالأذن المتلــقــية و بالمــستمــع اليــمــني و العربي في أعماله التي امتازت في (ديناميكية) حــــركة و رشاقة الجـــمل اللحــنية الموســيقـية و الأرتــام و الإيقاعات و انســيابها و تدفقها بحوارات أدبــية شــعـرية نــغمية (دياليكتيكية) بين المذاهب والكوبليهات.[c1] ثــنائــيات فــنية [/c]يمتاز الفنان الراحل (الباجنــيد) بالأداء الهادئ الراكز والرصين و بوضوح و سلامة مخارج نطق الحروف والألــفاظ و تـرجمـة مـعـانيها أثـناء أدائه و غنائه، و تُصـنّـف طبـقـاتـه الصوتية علمياً بمصطلح (طـبـقـة الـتـيـنور).قدم الفنان الكبير عبد الرحمن باجنيد (ثنـائـيات فـنـيـة) مع أهم شعراء الأغنية اليمنية أبرزهم الأساتذة: لطفي جعفر أمان/ عبدالله هادي سبيت/ الأميـــر صالح مهدي العبدلي/ علي أمان/ أحمد شريف الرفـــاعي/ محـــسن علي بــريـــك.. و آخرون، و جدير بالإشارة أنه قـدم للفنان سعـيد أحمد بـن أحـمد رحمه الله الأغنية المعــروفة (في طـرفـك الأحــور.. يا شُـهـد يا سـكـر).. بـالإضـافـة لـتـعـاونـه الفني المشترك (بـدويـتو هجـرت أوطاني) مع الفنانة الروسية زينب خــانــو وأيضاً مع الفنـانـة اليمنية فـايــزة عبـدالله في أغـنـية (سلام.. سلام)، كما شارك أثناء تواجده في المهجر بالعديد من الحفلات الفنية الناجحة في الأعياد و المناسبات الوطنية.برع في توظيف العديد من الإيقاعات اليمنية و الـعربــية وقــدّمــها في أغــانــيه مثال على ذلك: الإيقاع الشرحي العدني الثـقـيل 6/8، و الإيقاع المصمودي 4/4، و الـرومـبا 4/4، و إيقاع الشرح البدوي.. و كان موفقاً للغاية في تقديمها في أعماله الفنية.[c1] الإبداع في المجال الإعلامي [/c]عمل مذيعاً و مخرجاً في تلفزيون عـدن منذ تأسيسه وحقق نجاحاً و شهرة كبيرة، فقد كان يجيد بمهارة العديد من اللغات الحية بطلاقة ، و لعـل (الذاكرة اليمنية في منتصف الستينات) من القرن الماضي مع بداية افتتاح تـلــفزيون عدن لا تخطو تألقه في تقديم الترجمة الفورية لمسلسل (الـهارب) و كان ذلك الأمر إنجازاً عظيماً سابقاً لعصره ليس على المستوى اليمني المحلي وحسب, بل في إطار المنطقة العربية بشكل عام (في تـقـديم الترجمة الفورية للمشاهد عبر الأثــير على الهواء مباشــرة)، ولا يفوتني الإشارة أيضاً (لدوره الهام و إبداعــاتــه المــتـفــردة في إذاعــة عــدن).غادر فناننا الراحل الوطن لأسباب متداخلة لسنا بصددها في هذا المــقام بـعـد (الاستقـلال الوطني) حاملاً حضوره الفنـــي المدوي و الإعلامي البارز متوجهاً إلى هــولندا وظل مذيعاً متألقاً في إذاعة هولندا إلى أن تولى (رئاسة القسم العربي)، ثم عاد إلى أرض الوطن في (عام 1990م مع قيام الوحدة اليمنية المباركة) ليـجـد بعد سنوات طويلة من الاغتراب القهري معشوقته ومعبودته الأبـديــة (عــدن) التي أحبها حتى الثمالة وعاش بين أزقــــتها وشـــوارعـــها وحـاراتـها الــعتــيــقةالتــاريــخية..الــعــيدروس/القطـيع/حافــةحســيـن/حافــة القاضي/حافة العجائز/أبــان/الزعــفران/ســوق الطويل/صيرة/حقات/ الطويلة/وأبو الــوادي.. عــاد إلـى (مســقــط رأســه) ومــرتـــع صـــــبــاه وشــبــابــه (ليـــمـــوت ويُــدفــن في تــراب مـديـنـة عــدن) الطاهرة الحبيبة التي ستحتضنه ولن تــفارقــه في رحــلـتــه الأبــديــة إلى خــالــقـه الــباري سبحانه وتعالى.
|
ثقافة
الفنان والإعلامي ( الباجنيد ) الفارس الذي ظلموه حياً وميتاً !
أخبار متعلقة