قدم لنا المؤرخ جمال الدين ابو الفتح يوسف بن يعقوب بن محمد المعروف بابن المجاور في كتابه « صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المسماة تاريخ المستبصر « ما كان لعدن في عهود بعيدة من الزمان وما جرى عليها من احداث الدهر وما عبرت به احوالها عبر صروف الايام فالكتاب من حيث المرجعية يذهب بنا الى صور لم تعد ملامحها حاضرة الا ما سطر في هذه المدونات وقد ظل هذا السفر احد الكتب المتصلة بتاريخ عدن في ازمانها الغابرة وبما يعطي لنا من معارف ندرك حال الوضعية لعدن بما رسمت من حدود الجغرافيا والمحيط المتصل معها. وعدن في هذا الكتاب لا تقف عند وصف التاريخ بل يقدم الكاتب من احوال سكانها ونوعية الحياة فيها وطرق القدوم اليها عبر البحر والرحيل منها كذلك يصبح هذا المرجع ممتداً اولاً عبر حقب في قراءة بعض ما كتب عن عدن وهذا الجانب من تاريخ عدن الموغل في القدم هو السرد الذي ما يزال الكثير منه خارج سيطرة الذاكرة وهو ما فقد من حفظ التدوين الذي يعطي لذاكرة المكان صفة الخلود في روح الكلمات. مما ياتي على قوله عن عدن في العهد القديم من الزمان : ( كان من القلزم الى عدن وراء جبل سقطرة كله بر واحد منفصل لا فيه بحر ولا باحة فجاء ذو القرنين في دورانه ووصل الى هذا الموضع ففتح وحفر خليجاً في البحر فجرى البحر فيه الى ان وقف على جبل باب المندب فبقيت عدن في البحر وهو مستدير حولها وما كان بيان من عدن سوى رؤوس الجبال شبه الجزر ولنا على قولنا دليل واضح أن آثار ماء البحر والموج باقٍ بائن في ذرى جبل العر والجبل الذي بني على ذروته حصن التعكر وجبل الاخضر. والدليل الثاني ان شداد بن عاد ما بنى ارم ذات العماد الا ما بين اللجنة ولحج وبين المغاوي التي على طريق المغاليس وهو الرمل الذي الى جبل دار زينة وما بناها الا في اطيب الاراضي والأهوية والجو في صفاء من الارض بعيد عن البحر . والان رجع البحر في اطراف بلاد ارم ذات العماد وتناول البحر شيئاً من اخذه ولم يكن بهذه الارض بحر وانما استجد بفتح ذي القرنين فمد من جزيرة سقطرة فساح الى ان وقف او اخر المندب . والدليل الثالث ان البحر الذي ما بين السرين وجدة يسمى مطارد الخيل ومرابط الخيل والاصل فيه ان العرب كانت تربط الخيل في هذه الارض والاصح انهم كانوا يطاردون به الخيل لما لم يكن بحراً وكان البحر ارضاً يا بسة). في هذا السرد تتجاور حكاية المخيلة الشعبية مع بعض وقائع التاريخ اما بحر القلزم فهو البحر الاحمر وقد ذكر المقريزي في كتابه « المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار « أن هذا البحر انما عرف في ناحية من ديار مصر بالقلزم والسبب في ذلك وجود مدينة تعرف بهذا الاسم في شرقي ارض مصر وقد خربت بتقادم العهود. وتفيد بعض الشواهد بأن اسم القلزم في البدء كان يعني تلك المساحة المائية الواقعة امام تلك المدينة المصرية القديمة وتؤكد عدة مصادر تاريخية أن الاساطيل البحرية المصرية كانت بداية رحلاتها التجارية عبر بحر القلزم في فترة زمنية تعود الى 3000 سنة قبل الميلاد ولكن البعض يشير الى ان عهد الحركة التجارية فيه تعود الى حقب ابعد من ذلك الزمان الذي بدات فيه ملكة مصر حتشبوت تجارتها مع بلاد بونت او كوش وهي الممالك الاثيوبية والسودانية والصومالية ودون شك فإن هذا التواصل لم يغفل عدن كموقع جغرافي وتجاري على هذا الخط البحري الذي جعل لها منزلة التنافس والسيطرة مما يعزز من تصاعد دور عدن في كل فترات التاريخ. وعن تكوين عدن الجغرافي المازج بين المخيلة والواقع يقول : ( ذكر المعجلين : هو بركة في آخر جبل حقات وجبل صيرة الذي بني على ذروته قصر المنظر والبركة خلقها الله تعالى وهي ما بين جبل حقات وجبل صيرة وهي ذات امواج هائلة قاتلة في عمق وغزر. حدثني منصور بن مقرب بن علي الدمشقي قال : اذا برد الماء بها يعني في البركة كان العام عاماً شديداً على كل من يقطع الصبا قلت ولم ؟ قال : لكثرة الامواج وهيجان البحر واذا كان الماء فيه فاتراً يكون العام عاماً سهلاً يسيراً غير عسير على مسافره وهذا مجرب. قلت لريحان مولى على بن مسعود بن علي بن احمد : لم سمي هذا المكان المعجلين ؟ قال : لانه يرجع فيه كل اربعة اثنين . ذكر بحيرة الاعاجم : قيل : لما اطلق ذو القرنين البحر من جبل باب المندب وساح نشف ما حول عدن من المياه وبقيت عدن نصفها التي تلي جبل العر مما يلي صيرة مكشوف ومما يلي المياه والى جبل عمران ناشف فلما استولت ملوك العجم على عدن رأوا ذلك الكشف فخافوا على البلد من يد غالبة تحاصر البلد فحينئذ قاموا فتحوا له فماً مما يلي جبل عمران واطلقوا البحر عليه فاندفق البحر فنزل الى ان غرق جميع ما حول عدن من ارض الكشف فرجعت عدن جزيرة وبقي كل من اراد السفر الى جهة من الجهات ركب متاعه في الصنابيق ويجيء في البحر الاصلي الى ان يعدي البحر وجاءت الجمال فر فعوه عند المكسر وسافروا به فلما رأوا ما راوا من تعب الخلق في ذلك بني المكسر وهو قنطرة بنيت على سبع قواعد فصارت الخلق تسلكة على الدواب وغيرها وسمي البحر المستجد بحيرة الاعاجم وعرف بهم الى قيام الساعة. ذكر الابار العذبة : داخل عدن بئر حلقم عود السلطانية وبئر علي بن ابي البركات ابن الكاتب قديمة وبئر احمد بن المسيب وبئر ابن ابي الغارات قديمة عند باب عدن وبئر المقدم قديمة وثلاثه آبار لداود بن مضمون اليهودي و ثلاثة ابار للشيخ عمر بن الحسين وبئر لعلي بن الحسين الازرق وبئر جعفر قديمة طولها اربعون ذراعاً وبئر زعفران اشتريت بمدته و اوقفت على المسلمين). وعن ذلك ما يروى من الحكايات يحدثنا ابن المجاور في كتابه بأن ماء بئر الزعفران كان ينقل الى كل بلاد اليمن وهذا يدل على صفاء طعمه وخلو مذاقه عند الناس ومن ابار عدن القديمة والتي لم يعد تعرف اماكن تواجدها السابقة جاء ذكر التالي منها والتي تدل على توسع الحياة في هذه المدينة بئر السلامي وقد حفرها الشيخ اسماعيل بن عبد الرحمن السلامي وبئر روح قديمة وبئر عود قديمة وبئر ابن الدويب صهر الشيخ معمر بن جريج وبئر الحمام حفرها محمد بن علي التكريتي وبئر الحمام الثانية قديمة وبئر مور قديمة وبئر جلاد قديمة وبئر الخضامي قديمة وقد قيل ان في عدن 180بئراً عذبة اما عن الآبار المالحة فقد ذكر بئر وضاح وهي قديمة وفي هذه الكلمة اشارة تاريخية الى بعدها الزمني وتعامل الناس معها كما توجد بئر اخرى الى جانبها وبئران عند مرابط الخيل وبئر ام حسن القديمة وبئر قندلة على طريق الباب وبئر سنبل قرب الحمام وبئر سالم وبئر حندود وغيرها من الابار الدالة على تساقط الامطار على عدن ووجود خزان جوفي في عمقها يوصل المياه عبر قنوات الى هذه الابار وعدن من المناطق التي تنقطع عنها الامطار لسنوات غير ان الاحوال المناخية في تلك العصور لا يمكن ان تقاس باحوال اليوم بفعل تغير الاجواء عبر الحقب ولكن وجود الصهاريج والابار وتواصل سحب الماء منها يعطي لنا تصوراً عن خزن جوف هذه المدينة لمياه الامطار التي تساقطت عليها في حقب مختلفة وشكلت بحيرة وربما بحيرات ظهرت بعضها في مساجد عدن في السنوات الماضية. وعن بناء سور عدن يقول ابن المجاور : ( حدثني عبدالله بن محمد بن يحيى قال : ارسى مركب من المغرب الى عدن في الليل فنزل الناخوذة من المركب فدار عدن فاذا هو بدار عالية وبه شمع يقدو عود يبخر فدق الباب فنزل الخادم ففتح له وقال له : هل لك من حاجة؟. قال التاجر : نعم فاستأذن الخادم له فقال له صاحب الدار فصعد فسلم كل على صاحبه من غير معرفة وجرى الحديث فقال الناخوذة : إني قدمت الليلة من المغرب واريد من انعام المولى ان اخفي عنده بعض التحف. قال : ولم؟ قال : خوفاً من الداعي وقال له : اقبل ولا تخف من الظالمين انقل جميع ما معك الى الدار الفلانية ّ فنزل التاجر فصار البحارة ينقلون المتاع من المركب الى الصناديق الى الدار الى ان يخلوا ثلثي ما في المركب. فلما اصبح الناخوذة وجد صاحبه البارحة الداعي بعينه وقال في نفسه : خفت من المطر وقعت تحت الميزاب ! وتشوش خاطره واسود ناظره فانفذ الداعي اليه وقال له : انا صاحبك البارحة وانا الداعي مالك عدن اليوم طيب قلبك واشرح صدرك عشور مركبك هبة منى اليك مع الدار التي نزلت فيها وهذه الف دينار تنفقها ما دمت في بلادنا وحرام علي اخذ شيء منك لا على وجه الهبة ولا على وجه البيع والشراء. فقال له الناخذوة: وعلى ماهذا كله ؟ قال : لدخولك علينا البارحة منزلنا في نصف الليل. وامر أن يمد سور من الحصن الاخضر الى جبل حقات فادير سور ضعيف وارتدم بعضه على بعض واهتدم لدوام الموج عليه فلما خرب ادير عليه سور ثان من القصب شبك وبقي على حاله الى ان بناه ابو عثمان عمر بن عثمان بن علي الزنجبيلي التكريتي دائراً على جبل المنظر الى اخر جبل العر وركب عليه باب حقات وادار سوراً ثانياً على الجبل الاخضر وحده من حصن الاخضر الى التعكر على رؤوس الجبال وادار سوراً على الساحل من الصناعة الى جبل حقات. وركب عليه ستة ابواب : باب الصناعة وباب حومة وباب السكة وهما بابان يخرج منهما السيل اذا نزل الغيث بعدن وباب الفرضة ومنه تدخل البضائع وتخرج وباب مشرف لا يزال مفتوحاً للدخول والخروج وباب حيق لا يزال مغلقاً وباب البر قد تقدم ذكره . وبني سورها بالحجر والجص وبني الفرضة وجعل لها بابين. ما يوصف من حال وصول المراكب الى عدن وما يصحب العمل التجاري اذا دخل المركب الى الحدود البحرية لعدن واقترب منها وابصره الناطور من على الجبل نادى باعلى صوته ( هيريا) ويقف ذلك الشخص عند جبل الاخضر والذي بني عليه الحصن الاخضر ولا يقدر الناطور أن ينظر الاعندما تطلع الشمس وكذلك وقت غروبها لان في هذا الوقت يقع ضوء الشمس على وجه البحر فيظهر عن بعد مسافة ما كان ويكون الناطور قد وضع عوداً امامه فاذا تخايل له شيء في البحر اتخذه مقاساً على وضع العود فان كان طيراً او غيره تحرك الى جهة الشمال او الجنوب او يرتفع او يهبط اما لو كان الخيال في حالة الاستقامة على خط العود ادرك انه مركب ويعطي اشارة لصاحبه منادياً هيريا ويشير صاحبه الى رفيقه والرفيق الى جراب بالاعلام عن وصول المركب ويصل الخبر الى والي البلد. وبعد ما يخرج الجراب ليخبر المشائخ بالفرضة وبعد ذلك ينادي باعلى صوته من على قمة الجبل هيريا. ويسمع الناس يصعد بعضهم الى الجبل فإن كان ما ذكره صحيحاً يعطي له من كل مركب دينار ملكي وذلك من الفرضة فاذا قرب المركب صعد عمال الفرضة الى الصنابيق حتى يصلوا الى المركب ويصعدوا اليه ويسلموا على الناخوذة ويسالونه من اين جاء كما يسألهم عن حال البلد وهي عدن ومن هو الحاكم وكم سعر البضائع وكل من له فيها اهل او معاريف ومن جاءوا في المركب. من الاشياء العجيبة التي يقدمها ابن المجاور في كتابه فصل عنوانه « ذكر خراب عدن» وكأن ما جاء فيه حكاية تعود الى عهود سحيقة ارتبطت بالخرافات والاساطير المتعلقة بتاريخ عدن وربما برؤية يتداخل فيها الزمن القادم مع ما ترسب في الوجدان من قصص شعبية وفي هذا يقول : ( يفيض البحر فيغرق جميع البلد « عدن» وترجع المدينة لجة من لجج البحر . كما ذكر في مبتدأ الخلق انه يجوز عليها المراكب مقلعة خاطفة يقول اهل المراكب فيما بينهم انا سمعنا في قديم الايام انه كان في هذا الغب بلد عظيم عامر لاهله مقيم سهل سليم ومقام كريم . فيقول احدهم : ما تسمى ؟ فيقول له : شذ عني اسمه. تلك هي بعض الصفحات من تاريخ عدن في عهودها البعيدة ازمنة ماضية لم يعد بيننا وبينها سوى مصادر التاريخ وما دون من حكايات عن عدن واخبار اهلها وما مضى من الحقب وما تبقى في هذه الذاكرة الورقية الحافظة لملامح عدن القديمة وكلما حنت العقلية الى ذاك الزمن عدنا الى سجل الماضي ننهل منه ما كتب اما ما غاب فهو ذلك المجهول الساكن في عمق بحار عدن.
|
ثقافة
عدن في تاريخ ابن المجاور
أخبار متعلقة