2-2
ترجمة: أحمد صالح الفقيهفي السلفادور كان يبذل جهد قوي للحفاظ على الوضع القائم. تحدثت في البداية عن نسيج منمق من الأكاذيب التي تحيط بنا، فالرئيس الأمريكي وصف نيكاراغوا دائماً بأنها قبو مظلم من الديكتاتورية ، وقد تعامل الإعلام، وبالتأكيد الإعلام البريطاني، مع هذا الوصف على اعتبار انه دقيق ووصف مقبول. ولكن، وفي الحقيقة، لم يكن هناك سجل لفرق موت في فترة حكم الساندينستا، ولم يكن هناك سجل عن التعذيب، لا يوجد سجل للقسوة الرسمية او العسكرية، ولم يتم قتل القسس في نيكاراغوا. بل كان هناك ثلاثة قسس في الحكومة، اثنان من الجزويت وواحد من تبشيرية مارينول. الأقبية والسجون القمعية كانت في الجانب الآخر، في السلفادور وغواتيمالا. فقد أطاحت الولايات المتحدة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا في غواتيمالا عام 1954 وقدرت الإحصائيات وقوع 200 ألف شخص ضحية للأنظمة الديكتاتورية العسكرية المتعاقبة. وتم اغتيال ستة من المبشرين الجزويت من ذوي السمعة العالمية في الجامعة الأمريكية المركزية في سان سلفادور في عام 1989، من قبل فرقة من الكاتال التي تدربت في فورت بينينغ في جورجيا، بالولايات المتحدة. الأب روميرو، ذلك الرجل الشجاع، اغتيل عندما كان يقود صلاة عامة. وقد قدر أن 75 ألف شخص ماتوا، لماذا قتلوا؟ قتلوا لأنهم كانوا يعتقدون أن حياة افضل ممكنة ويجب الحصول عليها. هذا الإيمان تم اعتباره مباشرة، شيوعية. ماتوا لأنهم تجرأوا على تحدي الوضع القائم، وتحدوا الجبل العالي من الفقر والمرض والتخلف والاضطهاد، التي أصبحت وكأنها حقوقهم بالولادة. أخيرا أطاحت الولايات المتحدة بنظام الساندينستا، واحتاج الأمر لسنوات طويلة من المقاومة إلا أن العقوبات الاقتصادية المتواصلة ووفاة 30 ألف شخص أثرت على روح الشعب النيكاراغوي، كانوا منهكين وفقراء مرة أخرى عادت الكازينوهات مرة أخرى إلى البلاد، لم يعد هناك تعليم مجاني ولا خدمات صحية. وعاد رجال الأعمال الكبار بالانتقام، لقد انتصرت الديمقراطية.لم تكن هذه السياسة مقتصرة على أمريكا الوسطى ولكنها كانت تمارس في أنحاء العالم، كانت سياسة بلا نهاية ومع ذلك تبدو كما لو أنها لم تحدث على الإطلاق. لقد جلبت الولايات المتحدة ودعمت كل دكتاتورية عسكرية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأنا أشير هنا إلى اندونيسيا واليونان والاروغواي والبرازيل والبارغواي وهايتي وتركيا والفليبين وجواتيمالا والسلفادور وبطبيعة الحال تشيلي . إن الرعب الذي أنزلته الولايات المتحدة على تشيلي في العام 1973 لا يمكن إصلاحه ولا يمكن نسيانه. جرائم القتل التي أودت بحيات مئات الآلاف من البشر حدثت في هذه البلدان، فهل حدثت حقاً وهل كلها نتيجة للسياسة الخارجية الأمريكية؟ الإجابة هي نعم، لقد حدثت وكلها كانت نتيجة للسياسة الخارجية الأمريكية، ولكنكم ربما لا تعلمون. أنها لم تحدث، لاشيء من هذا حدث، حتى أثناء حدوثها لم تكن تحدث. انها لا تهم. إنها مسألة تافهة.لقد كانت جرائم الولايات المتحدة الأمريكية جرائم منظمة ومستمرة ووحشية ولا رحمة فيها، والواقع أن قليلاً من الناس فقط تحدثوا عنها. ويجب ان تسلموا بان أمريكا مارست سياسة صمت من الاستحواذ الإكلينيكي للقوة حول العالم، في الوقت الذي كانت تثرثر فيه قائلة عن نفسها أنها قوة تهدف إلى خير العالم. لقد كانت عملية تنويم مغناطيسي ذكية وخبيثة وناجحة، انها لم تحدث، لا شيء من هذا حدث، حتى أثناء حدوثها لم تكن تحدث، إنها لا تهم، إنها مسألة تافهة.أؤكد لكم أن الولايات المتحدة هي بدون شك أعظم عرض مسرحي يتم على قارعة الطريق، دموية ولا مبالية، مليئة بالقسوة ولكنها مع ذلك غاية في الذكاء، وكأي بائع فإنها تخرج متوحدة على الناس وبيدها أكثر سلعها رواجا، حب الذات، إنها بضاعة رائجة، استمعوا إلى كل الرؤساء الأمريكيين وهم يقولون العبارات ذاتها على شاشة التلفزيون من مثل “أقول للشعب الأمريكي هذا هو وقت الصلاة والدفاع عن حقوق الشعب الأمريكي، وإنني اطلب من الشعب أن يثق برئيسه وان يدعمه في القرار الذي سيتخذه نيابة عن الشعب. إنها وسيلة ناجحة ولامعة، في الواقع يتم توظيف اللغة لمنع العقل من التفكير. فعبارة الشعب الأمريكي توفر وسادة مريحة مطمئنه، فأنت لا تحتاج إلى أن تفكر. كل ما عليك أن تستلقي بظهرك على الوسادة، قد تخنق الوسادة ذكاءك ومهاراتك النقدية ولكنها مع ذلك مريحة جدا. وهذا بطبيعة الحال لا ينطبق على الأربعين مليونا الذين يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة، ولا على المليونين من الرجال والنساء المسجونين في الغولاغ الضخم من السجون المنتشرة على الأرض الأمريكية. ولكن الولايات المتحدة لم تعد تحفل اليوم بالصراعات المنخفضة الحدة، أنها لم تعد ترى فائدة في التحفظ أو الخداع، إنها اليوم تضع أوراقها على الطاولة دون خوف أو تردد، إنها بكل بساطة لا تأبه بالأمم المتحدة ولا بالقانون الدولي ولا بالشقاق المحرج الذي غدت تنظر إليه على أنه تافه وغير ذي صلة، وهي لديها أيضاً حملها التابع الذي يسير في مقدمة التابعين خلفها، بريطانيا العظمى السطحية والمثيرة للشفقة . ماذا حدث لحساسيتنا الأخلاقية؟ هل كانت لدينا واحدة ؟ بل ماذا تعني هذه الكلمات؟ هل يشير تعبير الحساسية الأخلاقية إلى ألفاظ نادرة الاستعمال هذه الأيام مثل الضمير؟ الضمير الذي لا يتعلق بأعمالنا فحسب ولكن أيضا بمسؤوليتنا المشتركة عن أفعال الآخرين؟ هل مات كل هذا؟ انظروا إلى خليج غوانتانامو مئات من الأشخاص محتجزون بدون اتهام محدد لأكثر من ثلاث سنوات، دون تمثيل قانوني او إجراءات قانونية مرعية، أنهم من الناحية التقنية محتجزون إلى الأبد. ان غزو العراق كان عملاً من أعمال قطاع الطرق، عملا فاقعا من أعمال الإرهاب الدولي، ويمثل احتقارا مطلقا لفكرة القانون الدولي، لقد كان الغزو عملاً عسكرياً عشوائياً تم حفزه بسلسلة من الأكاذيب المتراكمة بعضها فوق بعض، وعملية استغلال بشعة لوسائل الإعلام ومن ثم للجماهير؛ انه عمل قصد منه فرض السيطرة العسكرية والاقتصادية الأمريكية على ثروات الشرق الأوسط- كملجأ أخير- بعد أن فشلت كل بقية التبريرات- مثل التحرير. انه تجميع هائل للقوة العسكرية المسؤولة عن قتل وتشويه الآلاف والآلاف من الأشخاص الأبرياء. لقد جلبنا التعذيب والقنابل العنقودية واليورانيوم المنضب، وأعمال القتل العشوائية التي لا حصر لها، والبؤس والإهانة والموت إلى الشعب العراقي، بينما نسمي ذلك كله جلباً للحرية والديمقراطية إلى الشرق الأوسط. كم ينبغي لك أن تقتل من البشر قبل أن تتأهل لصفة القاتل الجماعي ومجرم الحرب؟ مائة ألف ؟ أكثر من كاف على ما أظن، ولذلك فانه يجب تقديم بوش وبلير لمحكمة الجزاء على الجرائم الدولية، ولكن بوش كان ذكياً ولم يصادق على اتفاقية إنشاء المحكمة، ولذلك فانه إذا ادخل أي جندي أمريكي أو سياسي أمريكي إلى قفص الاتهام فان بوش سيرسل المارينز كما قال، ولكن طوني بلير قد صادق على الاتفاقية ولذلك فانه متاح للمحكمة، نستطيع أن نعطي المحكمة عنوانه إذا كانت مهتمة بذلك، انه 10 داونينج ستريت لندن. إن الموت في هذا السياق لا صلة له، ان بوش وبلير يبعدان الموت في المحرقة إلى الخلفية. لقد قتل مائة ألف عراقي على الأقل بقنابل الأمريكيين وصواريخهم قبل أن يبدأ التمرد العراقي . لا أهمية لهؤلاء الناس. موتهم لا وجود له. انهم مجرد فراغ . أنهم حتى لم يسجلوا باعتبارهم موتى. ( نحن لا نعد الجثث) قال الجنرال تومي فرانكس. في بداية الغزو نشرت صورة على الصفحات الأولى للصحف البريطانية يظهر فيها طوني بلير وهو يقبل خد طفل عراقي صغير، (طفل ممتن ) قال التعليق أسفل الصورة، وبعد أيام قلائل كانت هناك قصة وصورة، ولكن في الصفحات الداخلية هذه المرة ، وهي لطفل في الرابعة بلا ذراعين، وكانت أسرته قد أبيدت بصاروخ. لقد كان الناجي الوحيد، وقد سأل قائلاً (متى سأستعيد ذراعي). حسنا إن طوني بلير لم يكن ممسكا به في مكان ذراعيه، ولا بجسد طفل عراقي مشوه ولا بجسد أي جثة ملطخة بالدم. الدم قذر انه يلطخ قميصك وربطة عنقك في الوقت الذي تظهر فيه على الشاشة لتلقي إحدى خطبك المخلصة . القتلى الأمريكيون الألفان هم مصدر للحرج، لقد نقلوا إلى قبورهم تحت جنح الظلام، مراسيم الجنائز تخفى بعيدا عن الأنظار المتلصصة المؤذية، أما الجرحى فهم يتعفنون في أسرتهم، و بعضهم لما تبقى من حياتهم إذن فان القتلى والجرحى المشوهين يتعفنون على السواء، ولكن في قبور غير متشابهة .هذه مقتطفات من قصيدة لبابلو نيرودا بعنوان ( أشياء أشرحها )وذات صباح كل ما كان... كان يحترقذات صباح، نيران الجحيم تنبعث من الأرض لتلتهم البشرومنذ ذلك الحين كانت النار والبارود منذ ذلك الحينومنذ ذلك الحين كانت الدماء لصو ص بالطائرات والمدافعلصوص بالخواتم والهوانملصوص بالمسوح يبصقون الصلواتجاؤوا طائرين ليقتلوا الأطفالترقرق الدم في الشوارع في هدوء ووداعة دماء الأطفال* * *بنات آوى التي تبرأت منها بنات آوىالحجارة التي مجها الشوكالثعابين التي كرهتها الثعابينواجهت دم أسبانيا وجهاً لوجه كالمد العملاق يغرقك في موجة واحدة من الإباء والسكاكين. خيانة أيها الجنرالات انظروا إلى بيتي وقد مات وهذه أسبانيا محطمةبدلاً من الورود الحديد المصهور ينساب من كل بيت يحترق من كل مفصل تخرج أسبانيا من جسد الولد المسجى، بندقية بعينين ومن كل جريمة، يولد رصاص سيعثر يوماً على عيون الثور في قلوبكم وستتساءلون لماذا أشعاره...؟لا تصف الأحلام وأوراق الشجر وطنه يتلظى بالبراكين تعال وشاهد الدم في الشوارع تعال وشاهد الدم في الشوارع تعال وشاهد الدم في الشوارعوليكن واضحاً هنا ، بأني حين استشهد بقصيدة نيرودا لا اقصد أبدا مقارنة أسبانيا الجمهورية بعراق صدام حسين، ولكن استشهد بنيرودا لأني لم أقرأ أبداً وصفاً أدبياً في الشعر المعاصر لقصف المدنيين أقوى من وصفه.لقد قلت آنفا إن الولايات المتحدة أصبحت في غاية الصراحة، وألقت أوراقها على الطاولة. تلك هي القضية . أن سياستها المعلنة محددة بكونها (السيطرة الشاملة) والعبارة ليست لي ولكنها لهم..إن السيطرة الشاملة تعني السيطرة على الأرض والبحر والجو والفضاء وجميع المصادر المتوفرة .وان الولايات المتحدة تحتل الآن (702) قاعدة عسكرية حول العالم في132 دولة، باستثناء السويد بطبيعة الحال. ولا ندري كيف وصلوا إلى تلك الأماكن كلها، ولكنهم هناك على كل حال. وتمتلك الولايات المتحدة اليوم 8000 رأس نووي نشط وعملياتي، 2000 منها تطلق بإنذار أرهف من الشعرة وعلى أهبة الاستعداد لإطلاقها خلال 15 دقيقة. وهي تطور نظاماً جديداً من الأسلحة النووية يعرف باسم مدمر الملاجئ. والبريطانيون المتعاونون دوماً يعملون على استبدال صواريخهم النووية من طراز ترايدنت. وإني لأعجب، إلى من يوجهون صواريخهم ؟ الى أسامة بن لادن؟ إليك ؟ إلي ؟إلى الصين أم إلى باريس ؟ من يعرف؟ ما نعرفه هو أن هذا الجنون المطبق والتهديد القائم باستعمال الأسلحة النووية هو في قلب الفلسفة السياسية الحالية للولايات المتحدة، والتي هي في حالة استنفار عسكري دائم لا تبدو علامة على أنها تود التخفيف منه.أن هناك الآلاف أن لم يكن الملايين من سكان الولايات المتحدة نفسها الذين يظهرون قرفهم وخجلهم وغضبهم من تصرفات حكومتهم، ولكنهم كما يظهر ليسوا قوة سياسية موحدة بعد، ولكن القلق والخوف وعدم اليقين الذي نراه ينمو يوما بعد يوم في الولايات المتحدة لن يتلاشى على الأرجح. إنني اعلم أن الرئيس بوش لديه عدد كبير من كتبة الخطابات الأكفاء، ولكني أود التطوع للوظيفة، واقترح عليه هذا الخطاب القصير الذي يمكنه إلقاؤه على الأمة من التلفزيون، أراه متجهماً مسرح الشعر بعناية وجاد المظهر تبدو عليه علائم النجاح والإخلاص ويستخدم ابتسامة ودودة ذات جاذبية انه يبدو رجل الرجال. “الله طيب، الله عظيم، الله طيب، إلهي طيب، إله ابن لادن شرير. لقد كان بربرياً، نحن لسنا برابرة، لانقطع رؤوس الناس، نحن نؤمن بالحرية وكذلك الله، أنا لست بربرياً، أنا قائد منتخب ديمقراطيا من قبل دولة ديمقراطية تحب الحرية. نحن مجتمع محب وعاطفي نعطي كراسي كهربائية عاطفية وحقناً قاتلة محبة، نحن أمة عظيمة. أنا لست دكتاتورا مثله ولست بربرياً مثله. انه كذلك، كلهم كذلك. إنني امتلك سلطة أخلاقية، أترون هذه القبضة؟ إنها سلطتي الأخلاقية، فإياكم ان تنسوا ذلك” . ان حياة الكاتب هشة، انه نشاط عار تقريباً، ولا يمكننا أن نبكي من جراء ذلك، إن الكاتب يتخذ خياره ويعلق فيه. ولكنه من الصحيح القول إنك عرضة لكل الرياح وبعضها ثلجية بالتأكيد، تقف وحدك في العراء. ليس لك من واق ولا سقف يحميك- إلا إذا كذبت- وهي حالة تكون قد جهزت لها حججا لحمايتك، حجج يمكنك الجدال بشأنها، أي أن تصبح سياسياً. لقد أشرت إلى الموت مراراً خلال هذه الأمسية . وسأنشد الآن قصيدة لي اسمها ً«الموت ». أين وجدت الجثة ؟من وجدها؟هل كانت ميتة حين وجدت؟وكيف وجدت؟لمن الجثة؟من أبو أو ابنة أو اخو أو عم أو أخت أو أم أو ابن الجسد الميت المهجور؟هل كانت الجثة الميتة كاسية ام عارية؟ هل كانت مهجورة؟هل كان الجسد ميتاً حين هجر؟هل كان الجسد مهجورا؟ومن الذي هجره؟هل كان الجسد الميت عريانا أم كاسيا كمن سيذهب في رحلة؟ما الذي جعلك تعلن ان الجثة ميتة؟هل أعلنت موتها ؟.إلى أي حد تعرف الجسد الميت ؟كيف عرفت ان الجسد الميت ميت؟هل غسلت الجسد الميت؟هل أغلقت كلتا العينين؟هل قبرت الجثة ؟هل تركتها مهجورة ؟هل قبلت الجسد الميت؟عندما ننظر في المرآة نظن أن الصورة التي تواجهنا مضبوطة. ولكن تحرك ملليمترا واحدا وستتغير الصورة، والواقع أننا ننظر إلى انعكاسات دائمة التغير. ولكن على الكاتب ان يكسر المرآة أحيانا ذلك ان الحقيقة تحدق بنا من الوجه الآخر للمرآة .إني أؤمن بأنه مهما تكن المفارقات الحاصلة راسخة فإنها تتطلب إرادة واعية عارمة، وكمواطنين فإن تحديد حقيقة الصدق في حياتنا ومجتمعاتنا واجب أساسي يقع على عاتقنا جميعا وهو في الحقيقة إجباري. وإذا لم يكن مثل هذا التحديد متضمنا في رؤانا السياسية فلا أمل لنا في استعادة ما يكاد ان يكون قد فقد منا وهو كرامة الإنسان.