كلمات
«ذهبت إلى مصر فلم أجد فيها سوى مصريين بعضهم يذهب إلى المساجد وبعضهم يذهب إلى الكنائس.. ولا فرق».. هذه الجملة البليغة قالها اللورد كرومر الذى أرسلته حكومته إلى مصر أيام الاستعمار البريطانى، ليضرب الثورة المصرية ضد المستعمر الغاصب، ببث الفرقة بين عنصري الأمة بأسلوب «فرق تسُد» ففشل فشلا ذريعا وعاد لبلاده حاملا الخيبة والخزي.ولكن يوجد في مصر الآن مليون كرومر مصري من أبنائها، لا يحتاجون إلى مستعمر أجنبى ليمزقوا وطنهم ولا مؤامرات خارجية لضرب وحدتهم الوطنية.. «زيتنا فى دقيقنا» ونقوم بالواجب وزيادة، ونتفنن فى استحضار أرصدة المشاكل والأزمات، وكأننا وطن اُبتلي ببعض أبنائه ليشعلوا النار فيه، ويصعدوا به إلى هاوية الحرب الأهلية والتقسيم. النار المشتعلة الآن فى جسد مصر لن تطفئها بيانات المحبة والأخوة بين شيخ الأزهر والبابا ولا مؤتمرات المودة بين رجال الدين من الجانبين، فقد جربنا هذا الأسلوب عشرات المرات وفي كل الأزمات، وكان مثل الإسبرين الذى يخفف الأعراض ولا يعالج الداء، لأن الاحتقان أعمق جذورا من أحضان عابرة وخطابات مجاملة، والتطرف أصبح نبتة شيطانية تطل من حروف خطاب ديني متشدد فى بعض المساجد والكنائس، وآن الأوان لوضع ميثاق شرف من الأزهر والكنيسة، تلتزم به المساجد والكنائس ووسائل الإعلام، يقرب بين الأديان ولا يركز على الفتن والصراعات، ويوحد عنصري الأمة ولا يفرق بين أبناء الشعب الواحد، فكفى لعبا بالمشاعر الدينية على حساب أمن الوطن واستقراره وطمأنينة الناس.النار المشتعلة لن تطفئها قنابل الغاز بل سيف القانون، والقانون يحتاج يداً قوية ترفعه فى وجه المخطئ، والمخطئ لن يرتدع إلا إذا سقطت عنه الحماية السياسية والدينية، والحماية لن تسقط إلا إذا رفعنا أيدينا عن الشرطة والقضاء، والشرطة والقضاء لن يرفعا راية العدل إلا باحترام الدولة لهما وعدم التدخل فى شؤونهما، لأن الذى يحاصر محكمة ويقتحم قسم شرطة ويتمتع بالحصانة والحماية، سيتولد فى أعماقه أنه أقوى من الشرطة والقضاء والقانون والدولة، ولا يجدى الكيل بمكيالين فنعتبر المجرمين ثواراً وشهداءً تارة، وقتلة وبلطجية تارة أخرى، فمن يعبث بوحدة مصر وأمن شعبها هو مجرم مع سبق الإصرار والترصد.نار الفتنة الطائفية لن يطفئها الاستقواء بالخارج ولا أمريكا، فأمريكا لا يهمها إلا أمريكا وإسرائيل، وإذا فتشنا عن المستفيد من الخراب الذى يحدث فى مصر، فالمؤكد أنها إسرائيل التى تحقق انتصاراً ساحقاً علينا دون حروب أو جيوش، فإضعاف مصر وتشتيت قواها وضرب وحدتها فى صالح إسرائيل، وأمريكا لن تتدخل فى ملف أقباط مصر إلا بالبيانات الإنشائية والعبارات الملتوية أو اللعب بمؤامرات التقسيم وتهديد وحدة وسلامة الأراضى المصرية، وتمتلئ أدراج أجهزة التخابر الأمريكية بمخططات شيطانية لإعادة تقسيم دول المنطقة، بما يجعل إسرائيل القوة الوحيدة المسيطرة والمهيمنة وصاحبة الذراع الطويلة، وليكن لكم فيما يحدث فى السودان والعراق العبرة والعظة. نار الفتنة لن يطفئها احتماء المسيحيين بالكنيسة ولا المسلمين بالمسجد، هذا يرفع شعار «بالروح بالدم نفديك يا صليب»، وذاك يهتف «بالروح بالدم نفديك يا إسلام»، ولا أحد يقول «بالروح بالدم نفديك يا مصر» واختفت الأعلام المصرية من المشهد وحلت محلها الرايات السوداء والعلامات الدينية، واختزل الغاضبون تاريخ بلادهم فى المحبة والتسامح والتلاحم وافتداء الوطن، بالتناحر والتشاجر والمولوتوف والحجارة والزجاج، وكأنهم أعداء يحاربون بعضهم بعضا وليسوا شركاء فى وطن واحد، ويسكنون فى نفس المنازل ويجلسون على نفس المقهى ويركبون وسائل المواصلات كتفا بكتف، فكيف يمكن الفصل بينهما؟نار الفتنة لن تنطفئ بنفس الوسائل القديمة التى ثبت فشلها، فالمصريون البسطاء فى المدن والقرى والكفور والنجوع وهم الغالبية العظمى يعرفون جيداً أنها أزمة مفتعلة، يحركها متشنجون ومتطرفون من الجانبين يلهثون وراء الخراب.