نجمي عبد المجيد:من حقب التاريخ الماضية تطل علينا صور من أحداث عدن وما كان من شأنها في تلك الأزمنة الغابرة والتي لم يبق منها غير ما دون في اسفار من سطروا تلك الملامح العدنية، وما العودة إلى حكايات عدن مع الذاكرة سوى استعادة لهوية وانتماء وحدث، وكل هذا يصنع قوة التوحد مع المدينة واهلها ومن عاصر فترات من تاريخها، حتى أصبحت عدن كياناً له خصوصية وحقائق لا يمكن أن تسقط من الحق التاريخي الذي أوجد لها هذه المساحات من الذات المتميزة.وهذه عودة إلى بعض الفترات السابقة من تاريخ عدن نسترجع من خلالها الملامح الغائبة عن ذاكرة اليوم حتى تظل حلقات المراحل متواصلة عندما نسعى لاستعادة الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي لمكانة عدن، وهي مدينة البحر وهذا يعني الاتصال مع العالم عبر الميناء، تلك البوابة الكبرى المفتوحة ليست على حركة الاقتصاد، بل على عادات وعقائد وتقاليد الشعوب.فلم تكن عدن خزينة للمال فقط بقدر ما كانت مساحة ممتدة من التنوع الإنساني الذي قدمها كمدينة كونية تمتلك القدرة على خلق علاقات بشرية تتجاور فيها علاقة الحياة المتعددة.العلاقات التجارية بين عدن والهند خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، فترة من تاريخ عدن، نعود إلى بعض المصادر التي تذكر ما كانت عليه تلك العلاقات، وما شهدته تلك العصور من مركزية لعدن في تعزيز العمل الاقتصادي الذي جعل لها منزلة لم يخلقها رأس المال المتحرك منها إلى الاقطار الواسعة في العالم، ويأتي التركيز على الطرق التجارية البحرية في عمق هذه النظرة لهذا الجانب من سيرة عدن.يذكر الدكتور محمد كريم ابراهيم الشمري في كتابه «زهر السوسن في تاريخ عدن ـ اليمن.» الصادر عن جامعة عدن عام 2004م حول العلاقة التجارية بين عدن والهند قائلاً: (شهدت العلاقات التجارية بين عدن والهند تطوراً ونشاطاً متميزين خلال القرنين السادس والسابع الهجريين ـ الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ابان حكم بني زريع 532 ـ 569هـ 1137 ـ 1173م، وبني ايوب 569 ـ 626هـ 1173 ـ 1228م، لليمن وقد وصف لنا القلقشندي الطريق التجارية التي تصل إلى مملكتي السند والهند، وهي طريق البحر، فمن عدن يمكن السفر في بحر الهند» «والصواب هو البحر العربي» ثم إلى المحيط الهندي، الذي يتصل بالبحر الأحمر، وبواسطة المحيط الهندي يتم الوصول إلى سواحل السند والهند.أفاض المؤرخون والرحالة العرب والمسلمون في ايضاح أهمية ميناء عدن وموقعها على طرق المواصلات العالمية وعلاقاتها بالبحار والجزر والاقاليم المجاورة لها، وما نتج عن ذلك الموقع من أهمية كبرى، فوصفوا عدن بأنها فرضة الهند والزنج والحبشة وعمان وكرمان وكيش وفارس، وكانت مراكب الهند ومصر والحجاز والحبشة تمر بها قديماً للحط والاقلاع، كما كان ميناء عدن مركزاً لتبادل السلع الافريقية والهندية والمصرية ومكاناً تبحر منه السفن إلى الهند، ولموقع عدن على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وعلى تقاطع طرق التجارة تأثير في الروابط التاريخية والثقافية والترتيب العرقي للسكان، ويرجع ذلك إلى الاتصال بأرض مجاورة للمحيط الهندي وأقاليم العرب وكذلك بلدان افريقيا الشرقية والشمالية الشرقية.وصفت عدن بأنها مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، ونعتقد أن المقصود ببحر الهند هو ساحل البحر العربي الذي يحيط بشبه الجزيرة العربية جنوباً ويتصل بالمحيط الهندي، وكان لموقع عدن المهم أثره في جعلها ميناء تجارياً مهما منذ أقدم العصور، فأصبحت مرفأ مراكب التجار من مختلف الارجاء، ووصفت بأنها: بلد التجارة وفرضة اليمن المشهورة.ويعد ميناء عدن ـ وهو الميناء الطبيعي ـ المنفذ الوحيد على المحيط الهندي لكامل المنطقة العدنية من اليمن، أغنى مقاطعات جنوب بلاد العرب.كانت للمراكب التجارية التي تقلع من عدن أو تنزل فيها مواسم مشهورة، توضح مكانة عدن وطبيعة الحركة التجارية فيها، وقد وصف صلاح الدين الحكيم مكانة عدن التجارية بقوله: «ولا يخلو اسبوع من عدة سفن وتجار واردين عليها، وبضائع شتى ومتاجر منوعة والمقيم بها في مكاسب وافرة وتجائر مربحة، ولحظ المراكب عليها وإقلاعها مواسم مشهورة».يوضح لنا هذا النص نشاط الحركة التجارية وكثرة المراكب الواردة اليه اسبوعياً، حيث تحمل البضائع المتنوعة من مختلف ارجاء العالم، وكان أهل عدن يخرجون لرؤية تلك المراكب ويفرحون بوصولها، لانها تنشط الحركة التجارية للسوق داخل مدينة عدن، وبالتالي تؤدي إلى كثرة الارباح وتوفير السلع المتنوعة للسكان).حول هذا الجانب من تاريخ عدن يذكر المؤرخ ابن المجاور في كتابه تاريخ المستبصر عن وصول عدة منتوجات من تجارة الهند إلى عدن، وقد اعفيت من العشور التجارية، ومن تلك البضائع نذكر وسائد الموائد الجلدية والارز والسمسم والصابون وحطب القرنفل والثياب العربية، وغيرها، وكانت حاجة السوق في عدن لمثل هذه البضائع من أسباب اعفائها من العشور، لانها كانت من المواد التموينية المهمة لاستخدام سكان عدن في مجالات مختلفة، وهذا يدل على صلتها الواسعة مع العالم كميناء تجاري عالمي.واشتهرت الهند بالارز الذي يصل منها إلى عدن، كذلك فرضت على بعض المواد التجارية القادمة من الهند العشور مثل الفلفل والنيل وقشر المحلب والطباشير والكافور والقرنفل والحديد والحمر والتمر الهندي والثياب الخام الهندية كما يشير ابن المجاور، إلى أن العشور لا تؤخذ على الخرز الذي يجلب من الديبل وهي مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند، كذلك لا يدفع العشور على غلمان حودر الذين يجلبون من الهند، ويدل اعفاء هذه الاشياء من العشور على ان هناك تجاراً كانوا يختصون في مثل هذه الاعمال التجارية، فالخرز الملون كان من المواد الكمالية يستعمل للزينة عند النساء والاطفال، أما الغلمان فيعود عامل اعفائهم إلى تمتعهم بمزايا جمالية، وكانوا يعملون في خدمة الامراء في قصورهم ومجالس سمرهم، وايضاً لخدمة رجال التجارة والاعمال.ويضيف الكاتب موضحاً هذا الجانب من العلاقات التجارية بين عدن والهند قائلاً: (نشطت التجارة بين عدن والهند، فكانت سفن الهند وتجارها في ذهاب واياب من وإلى عدن، كذلك كان الحال بالنسبة لسفن أهل عدن، واسهمت السفن المصرية في التبادل التجاري بين عدن والهند، فكانت ترحل إلى عدن لنقل غلات الهند وشرقي آسيا، وكذلك تحمل من بلاد اليمن البخور والعطور وتنقل هذه السفن منتجات الهند التي تباع بميناء عدن او تصل إليه، لأن عدن كانت بمثابة وسيط تجاري لتبادل السلع، والمنتجات بين مختلف ارجاء العالم.كان من ابرز نتائج النشاط التجاري بين عدن والهند دخول اعداد كبيرة من الهنود إلى عدن للعمل في التجارة ومزاولة اعمال تتعلق بالنشاط التجاري، ذكر جواتياين، ان العادة المتبعة في عدن اجراء الفحص الطبي للمسافرين القادمين على السفن من الهند، في حين ذكر انه لم يعثر في أوراق (وثائق) الجنيزة على اية اشارة للفحص الطبي للمسافرين في موانئ البحر المتوسط، وعلى الرغم من انه لم يحدد لنا تاريخ اجراء الفحص الطبي، إلا ان ذلك الاجراء يؤكد لنا انه كان نظاماً متبعاً منذ زمن طويل، واستناداً إلى وثائق الجنيزة التي اعتمدها جواتياين، فإننا نرجح ان ذلك الاجراء كان متبعاً خلال القرن السادس الهجري ـ الثاني عشر الميلادي ـ في الاعم الاغلب، أي خلال العصر الايوبي في اليمن، لأن معظم وثائق الجنيزة تعود إلى ذلك القرن، أي خلال مدة بحثنا، ولم يكن ذلك النظام ساري المفعول على المسافرين في موانئ البحر المتوسط.ويؤكد لنا هذا الاجراء التطور الحضري الكبير في ميناء عدن، باتباع اسلوب الفحص الطبي وحجر الاشخاص المصابين، ما يرجح وجود محجر صحي في ميناء عدن، ونستنتج من اتخاذ هذا الاجراء تجاه المسافرين القادمين على السفن من الهند، ان اعداداً كبيرة من الهنود من تجار وعاملين في الوسط التجاري كانت تدخل ميناء عدن، وان بلاد الهند كانت منذ ذلك الوقت ـ وحتى الآن ـ موطناً للعديد من الامراض والاوبئة المعدية بين سكانها، فانتبه مسؤولو الميناء لمعالجتها واولوها عناية خاصة.ذكر جواتياين، ان بعض التجار سكنوا الهند وعينوا وكلاء لهم من الهنود وغيرهم في عدن، منهم إبراهيم بن ياجو التونسي الاصل من المهدية.اقام ابراهيم في الهند خلال السنوات 527 ـ 544 هـ ـ 1132 ـ 1149م، وكان يمتلك مصنعاً للنحاس الاصفر في الهند، وبعد عودته من عدن قضى عدة سنين في اليمن، وبعد وفاة ابنه الوحيد هناك عاد إلى الفسطاط ليزوج ابنته الوحيدة لواحد من ابناء العائلة.ومن التجار العاملين في تجارة عدن والهند، تاجران عدنيان، وهما شخصيتان شعبيتان بارزتان كانا في عدن اثناء وقوع غزو ملك كيش (قيس) الفاشل على عدن سنة 530 هـ ـ 1135م، وقد كتبا رسالتين (وثيقتين) ارسلت الاولى من عدن إلى الهند كتبها باما الهندي إلى سيده ابراهيم بن ياجو الذي نشأ في تونس وعاش في الهند، اما الرسالة الثانية فكانت مرسلة من عدن إلى القاهرة كتبها احد التجار مجهول الاسم إلى سعيد الدمياطي ابرز التجار اليهود في القاهرة، وهما شاهدا عيان على حوادث الغزو، وقد حفظت الرسالتان ضمن مجموعة الوثائق المعروفة باسم: (وثائق الجنيزة) المحفوظة الآن في مكتبات جامعة كمبردج واكسفورد، وعكف جواتياين على دراستهما ونشرهما).لم تكن نهاية غزو ملك كيش لعدن سوى الهزيمة حيث لعبت سفن الربان الهندي رامشت اهم الادوار في حسم هذه المعركة، حيث كانت سفنه تدار بشكل مباشر من الديوان، وهذا يدل على وجود قوات نظامية بحرية لحماية ميناء عدن من أي تدخل.أما رامشت فقد كان على صلة قوية مع الشيخ بلال بن جرير الحاكم الأهم للجنوب في عام 1140م، وهذا يعطي لنا صورة عن المنافسة الدولية التي ظل هذا الميناء يتعرض لها بين فترة واخرى.اما عن حالة الطرق البحرية بين عدن والهند وكيف كانت وسائل الحماية لتلك البضائع في النقل والاسفار، فقد كانت هذه التجارة معرضة للخطر نظراً لأن الطريق لم تكن آمنة من هجوم القراصنة الهنود والذين جعلوا من جزيرة سقطرة مركزاً لهم في هذه العمليات، وجعلوا تلك الطريق تعاني من عدم الاستقرار والمخاوف الدائمة، مما دفع بالسلطان طغتكين بن ايوب إلى ارسال الشواني وهي سفن حربية لغرض حماية التجار من هذه الاعمال مقابل دفع عشور جديد عرف باسم (عشور الشواني).ومما يذكره ابن المجاور في كتابه ان امراء عدن من بني زريع (1137 ـ 1173م) لم تكن عندهم خبرة ومعرفة كاملة في التعامل مع السفن الحربية لحراسة التجارة حول ميناء عدن، وظل الوضع كما هو حتى جاء القائد توران شاه بن ايوب إلى اليمن وبسط حكمه على عدن عام 569هـ وجلب معه سفناً حربية عرفت باسم الشواني.بعد ان غادر عدن السلطان توران شاه عام 1175م، بقيت تلك السفن معطلة عن العمل في ميناء المدينة، وبدأ استخدامها بعد قدوم السلطان طغتكين بن ايوب، وقد اخذ هذا الحاكم لعدن باقتراح أحد وجهاء المدينة الذي طلب منه بعث هذه السفن إلى البحر من اجل توفير الحماية لبضائع التجار مقابل دفع العشور فكان هذا الرأي في محل الصواب، واخرج الشواني إلى بحر الهند تجوب فيه لحراسة مراكب التجار من اعمال القرصنة، كما اصبح رسم الشواني امراً نافذاً منذ عهد هذا السلطان في القرن الثاني عشر الميلادي حتى عام 1216م، حتى الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادي وكانت رسوم الشواني تصل إلى نسبة واحد في المائة، يؤخذ دينار واحد من كل 100 دينار عند تقدير حجم البضائع.ويقدم لنا الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري هذه المعلومات حول العلاقات التجارية بين عدن والهند وما مر من أحولها في تلك العصور البعيدة عن ذاكرة اليوم: (لم تقتصر الاخطار في المحيط الهندي على وجود القراصنة فقط، فقد تتعرض السفن إلى سوء الاحوال الجوية في البحر، لذلك كان طبيعيا أن يصاحب كل سفينة كبرى مركب صغير يمتلكه مالك السفينة نفسه أو أحد اقاربه او اصدقائه، بسبب ان السفن الصغرى في ظروف هياج البحر لديها فرص بقاء أكثر من السفن الكبرى، خاصة عندما تفقد الأخيرة اشرعتها ودفاتها، وفي احدى الحالات نقرأ في خطاب بالعبرية أن سفينة صغيرة قامت بانقاذ “انتشال” الركاب من المركب الرئيسي.ووجدت قوائم مراسلات خاصة بتجار الهند في وثائق الجنيزة عبر فيها مرسلوها عن ذعرهم من المحيط الهندي، الذي اختلفت مياهه عن مياه البحر المتوسط الهادئة، كذلك ذكر مرسلو تلك القوائم انواع السفن المستخدمة في المحيط الهندي وكانت أجزاؤها تربط ببعضها بالحبل بدلا من المسامير، وذلك يرجع الى شدة ملوحة مياهه التي تؤدي الى صدأ المسامير وخلعها، وكان التجار يرسلون هدايا منزلية وبضائع لاستعمال واعالة عوائلهم وأقاربهم، ويرسلون كذلك هدايا لعلماء دينهم ورؤساء جماعاتهم.احتوت الوثائق المتبادلة بين الهند وعدن على معلومات مهمة حول أمور الابحار والاحوال الاجتماعية والاقتصادية السائدة في جنوب غربي الهند، وكانت السفينة المبحرة الى المحيط الهندي تصحب عادة بسفينة صغيرة اخرى تكون ملكا لصاحب السفينة او ملكا لشريكه، وكقاعدة عامة كانت السفن تسير في مجموعات وكان نشاط فرضة البحر آنذاك قويا، وكانت البضائع تتعرض للسرقة كما اشارت الوثائق الى الكثير من الاشخاص الذين كانوا يهلكون اثناء الرحلات البحرية، واشارت كذلك الى البضائع التي كانت تفقد مع السفن الغارقة).دفعت التجارة بين عدن والهند الى عوائد ومردود مالي كبير جدا، وحتى يستمر الحفاظ على هذا الدخل الاقتصادي المهم وجه حكام عدن من بني زريع وبني أيوب عنايتهم الكبرى الى حماية الطرق التجارية بينهما بالقضاء على خطر تواجد اعمال القرصنة وبسط الأمن والاستقرار.كذلك كان حال الدولة الأيوبية في هذا الجانب التي وفرت كل ما تحتاج اليه اعمال الحماية البحرية لان خزانة تلك الدولة كان اعتمادها الاكبر على التجارة بين عدن والهند وقد ذكر ابن المجاور انه كان يحمل من عدن الى حصن تعز عاصمة الدولة في اليمن كل عام اربع خزائن بلغت كل منها 150 ألف دينار سنويا يزيد وينقص، أي 600 ألف دينار سنويا وظل الوضع حتى عام 1227م على ما هو عليه، وقد شكلت ثلاث خزائن منها مصدرها التجارة مع الهند معظم ميزانية الدولة الأيوبية، وتلك الخزائن هي:1ـ خزانة قدوم المراكب من الهند.2ـ خزانة خروج الخيل من عدن الى الهند.3ـ خزانة سفر المراكب الى الهند.كل هذا يشرح لنا جدوى الاهتمام بالطرق التجارية بين عدن والهند وما كان له من مردود مالي على من حكم هذه المدينة وسكانها، لذلك ظلت عدن في تلك العصور مدينة البحر والاقتصاد التي يسعى اليها كل من فكر في التحكم بطرق الاقتصاد البحري والسياسة الدولية.
|
ثقافة
عدن في العصور الماضية
أخبار متعلقة