في أول رحلة في حياتي لمغادرة عدن لأداء الخدمة العسكرية الوطنية ، وانقطاعي عنها في البدايات الأولى لتلك الفترة وما تلاها طوال ثلاث سنوات متتالية ، كنت أحاول استقطاع سويعات محدودة من كل أسبوع للنزول إلى والدي الضرير لزيارته والاطمئنان عليه وأمتع نفسي عليه وأمتع نفسي بالنظر إلى هذه المدينة الفاتنة والتزود بعبير هوائها لتجديد طاقتي طوال الفترة القادمة التي سأقضيها بعيداً عنها في تلك الصحراء المسيـجة لتكون مركزاً لتدريبنا هناك بعيداً عن الحياة المدنية التي نشأنا عليها من طفولتنا ..وطوال تلك الفترة الزمنية ومع تثاقل الأيام وامتدادها - حتى يخال لك بأنها لن تنتهي- كنت أزداد شغفاً بهذه المدينة العريقة ، فلا يفوتني وقت للنزول إليها إلاًّ وقد وضعت برنامجاً عاجلاً لزيارة خاطفة لأحد معالمها التاريخية أو تصفح أسلوب الحياة فيها وإطلاق العنان للخيال عن ماضيها السحيق والقريب من خلال ما تركه أسلافنا من أعمار أو تراث إنساني أو شواهد تاريخية .. وكنت أتوق للبحث عن صور قديمة لهذه المدينة وجمعها ، وأجد مشقة مابعدها في سبيل ذلك .. فقد اختفت كل الصور والوثائق التي كانت تؤرخ عنها خوفاً من المساءلة عن ارتباطهم برموز أو عناصر تلك الحقبة التاريخية قبل قيام الدولة الجديدة التي أغلقت .. والى الأبد .. صفحات الوجود الانجليزي وما قبله والى غير رجعة .وكلنا يعلمُ ما جاءت به الأقدار علينا فيما بعد لتنسينا كل أنشطتنا الرتيبة التي كنا فيها لتسارع الأيام ويجد كل منا نفسه في محيط لا قرار له يصارعُ من اجل البقاء ونلهث نحو الغد تاركين خلفنا كل ما يربطنا بالماضي ، ورمينا على حائط النسيان كل ذكرياتنا وحتى تاريخنا . وفي وسط تلك الزحمة ، وهرولتنا نحو المجهول الذي كنا نتفاءل به ، وجدنا أنفسنا قد ارتكبنا جل الخطأ ويئس القرار عندما تخلينا عن هذه البقعة الطاهرة من الأرض بعراقتها وروعة موقعها وحضنها الدافئ وانبهرنا بما عداها من الأمكنة حتى بدأ التاريخ ينهال بغباره عليها لطمسِ ابسط معالمها المكانية والحياتية وحتى الأخلاقية ، ولم نلتفت إليها بكل حسرة إلا بعد إن أخد منا العمر ما أخذ ، وسوانا يعمل على غفلة منا لاستقطاع أكثر مما يستطيع من بساطها الذهبي كغنيمة أو مكافأة واجب كان قد أسداه لنا او لمن نصبته الأقدار علينا وعلى ترابها النفيس.. وبعد سبات عميق بدأتْ نسائم الصحوة تداعبُ أجفان الجيل العاشق المستميت الذي عايش الفترات الذهبية للفاتنة المنسية عدن، تحركتْ الأنامل لنفضِ ذلك الغبار على الوثائق وارفف التاريخ القريب ، وتبحث في صفحاته القديمة عن مايمكنه البوح عن حقائق دامغة لحياة عدن وأبنائها وتاريخها وما كانت عليه ، في رد جزء من جميل هذه المدينة عليه ، لتذكيرنا بأن هذا الماضي القريب الذي تناسيناه وكان أجمل من اليوم وبالتالي وجب علينا العمل على إن يكون الغد أجمل من الحاضر ، الماضي ، وانه لن يكون كذلك إلا بمساهمة الجميع من اجل هدف اسمى وأجمل .وبدأت تنتشر صور فوتوغرافية قديمة جدا عن عدن لانعرف أين كانت وكيف استطاع مالكوها الحفاظ عليها حتى اليوم ولماذا ... صور لا حصر لها إن اجتمعت تكاد تصرخ بجملة واحدة وهي ان عدن هي التاريخ ، وهي أم المدن والمدينة ، وهي المرادفات الأولى للثقافة وبها سطر التاريخ هنا بأبجدياته الأولى مالا يمكن وصفه وما تعجز غيرها من المدائن عن البوح به..أتمنى من جهات الاختصاص جمع مثل هذه الصور التاريخية والوثائق المنتشرة اليوم على صفحات الانترنت وكثير من الصحف والمجلات ، ولدى عدد من (العائلات العدنية) أو المهتمين الذين يحتفظون بهذا الإرث التاريخي لهذه المدينة العريقة ، على إن يتم إعادة تسطير تاريخ عدن من وجهة نظر حيادية ودون أي تأثر او تأثير على الغير ، وتقديم هذا النتاج الفكري والإنساني بعدة قوالب من خلال المطبوعات أو البرامج المرئية والمسموعة ، ليكون مرجعاً لكل الأجيال حتى يعيد الجميع مراجعة حساباتهم الهامشية من مواقفهم العدائية لعدن وأبنائها الحقيقيين الذين قابلوا كل نكران للجميل وصنوفاً شتى من التحقير والتهميش منذ الاستقلال الوطني وحتى اليوم .وأقدم جزيل شكري لكل من احتفظ .. ولو بجزء يسير .. بهذا التاريخ الموغل في القدم والمدنية ، ومن أسهم أيضا في إخراجه للنور حتى لا تظل هذه السحابة السوداء جاثمة على رؤوسنا والمتمثلة بالنظرية القائلة: أن عدن ماهي إلاّ قرية صيادين كان يقطنها بضع هنود وصومال في أكواخ من الخشب والقش حتى تم انتشالها لترى النور منذ بضع سنوات قليلة خـلـت!!.
|
آراء
عدن .. أم المدائن اليمنية
أخبار متعلقة