سطور
في فترة ما من أيام الكفاح المسلح بالذات كان يعيش بين ظهرانينا ثلاثة مجانين دفعة واحدة أما احدهم فقد كان سفيراً مقيماً لعالم المجانين بسفينة نوح وأما الاثنان فهما مجنونان غير مقيمين إذ كانا يزوران السفينة من وقت لآخر وذلك حسب اشتداد حالة العمليات الفدائية التي يقوم بها الفدائيون ضد قوات الاحتلال البريطانية فيلوذان إلينا خوفاً من قمع وإرهاب القوات البريطانية لكل من يلاقونه خارج بيته ذلك الحين وللحقيقة فإن المجنون المقيم معنا لايختلف كثيراً عن أي فرد منا إلا انه لايرتبط بأي عمل ولكنه كان يقوم بخدمات جليلة للسفينة لايقوم بها أي عامل منا ولانستطيع أن نحكم عليه بالمجنون المطلق فهو في فترات يظهر لنا من الرأي ما لأي حكيم أو لأي فيلسوف وهو ليس بمجنون بالمعنى الصحيح وإنما معقد نفسياً فعقله لاخلل به اذا ماقيس بأي مجنون آخر وقد كان في يوم ما تاجراً ناجحاً ورجلاً اجتماعياً كبيراً وقارئاً جيداً للصحف والمجلات وهو حتى الآن يتحفنا بين وقت لآخر ببعض من مخزونات ذاكرته من الطرائف والحكم. ولكنه كثيراً مايخرج من دائرة حديثه إلى حديث مهلهل هو أشبه باللا معقول أو هو حديث رمزي رديء ليس له تفسير إلا في ذهنه هو فقط وهذا يرجع إلى انعكاسات نفسية لحياة معقدة عاشها في فترة ما تطفو على سطح ذهنه من وقت لآخر.وكنا كثيراً ما نلجأ إليه في أوقات المحنة عندما تغلق المطاعم أبوابها إذ كان يقوم بالطباخة لنا ويخرج مخاطراً بنفسه لشراء حوائجنا مقابل لقمة يأكلها معنا وهو رجل عفيف وذو نفس كبيرة لايمد يده بالسؤال إلى كائن مهما بلغ به الجوع ومهما اشتدت به الحاجة وهو لايطلب إلا مقابل عمل يؤديه وهذا شيء نادر حتى في عالم العقلاء في يومنا هذا.أما المجنون الثاني فهو ممثل بارع يجيد دوره الوحيد بإتقان فهو من ذوي الأملاك وهو تاجر كبير مشهور يشار اليه بالبنان ولهذا فهو يتقمص هذه الشخصية في براعة فائقة حتى يكاد أن يصدقه من لايعرف عنه شيئاً وهو دائماً في صدر المجلس في كل مكان يذهب إليه بل ويتسابق كل واحد في المجلس في أن يكون بجانبه دون الآخر وهنا يتجاذب الحاضرون الحديث فيتكلم برزانة وتمهل ويناقش في حديثه أسعار البضائع من أرز وسكر وغيره ثم يعرج بالحديث إلى مواعيد وصول السفن والبواخر وشحنها وقد يظهر له احد الحاضرين رغبته في شراء شحنة من الأرز والسكر فيساوم في السعر ويمد له المتكلم يده فيمد هو الآخر يده ويقوم شخص ثالث ليمثل دور الدلال وتنتهي البيعة ويرسل الحاضرون صيحاتهم مبروك.. مبروك.. وهنا يمتلئ زهواً وخيلاء وتشرق على صفحة وجهه بسمة وضاءة قل أن تراها على وجه أي تاجر حقيقي مهما بلغت تجارته وقد يختلط الأمر على بعض الإخوة الغرباء الذين يشاهدون مجلسه لأول مرة وكم من تاجر غريب ظنه حقيقة من تجار عدن يتخاطب معه خطاب الند للند كما قامت بينه وبين البعض من هؤلاء عقود تجارية كادوا أن ينفذوها فعلاً من ناحيتهم لولا تدخل البعض منا في النهاية وكان كثيراً ماتنتهي جلساته هذه بأن يطلب منه الحاضرون أن ينشدهم شيئاً من شعره وهنا يغير من جلسته ويعدل من وضع عمامته على رأسه ويأخذ برهة في تفكير عميق ينطلق بعدها لسانه بالشعر وهنا يأخذ الجالسون معه يسألونه المزيد من شعره وهم يتمايلون ذات اليمين وذات الشمال وكأنهم منسجمون معه مأخوذون من شعره ويعلو صوته ويسترسل في شعر غريب عجيب هو أقرب الى الشعر الحديث الغريب لبعض من المتشعررين في عصرنا هذا وقد يغيب عنا فترة طويلة ثم يعود إلينا حزيناً كئيباً مهلهل الثياب ثم ينفرد في ركن (قصي) من المجلس وحينما تسأله عن سبب حزنه يطرق ملياً ثم يجيب بصوت خافت:لاتحدثوني اليوم.. لقد غرقت.. غرقت كل البواخر.. ضاعت كل أموالي ثم ينفر منا هارباً لا يلوى على شيء.. إما إذا أتى إلى المنزل ولم يجد به أحداً فهذه فرحته الوحيدة لكي يعبث بمحتويات غرفتنا الوحيدة فتارة يضع بعض حوائجنا في المزبلة وتارة أخرى يسكب كل محتويات هذه المزبلة في الثلاجة وذات يوم عدنا فوجدناه قد سكب كل محتويات المزبلة على ارض الغرفة أمامه وأخذ يفتش كمن ضاع عليه شيء مهم ولما صحنا به أجاب في حدة: ياجماعة أنا با أتجنن.. لي من الصبح أفتش على شيك ضاع مني ولم أجده فهل لكم أن تفتشوا معي.أما المجنون الثالث فقد كان طباخاً فيما مضى ولهذا فحديثه كثيراً ما يدور حول مهنته تلك ذات يوم والعمليات الحربية في أشدها بين الفدائيين والجنود البريطانيين وبينما الرصاص يلعلع في سماء كريتر كنا نحن مجتمعين بالسفينة وكان حديثنا يدور حول شيء واحد هو الحديث السائد بيننا في مثل تلك الحالات.. الأكل.. الغذاء.. كيف نأكل والسوق مغلق والسفينة لاتحوي شيئاً على الإطلاق بل ومن المستحيل أن يبقى شيئاً على ظهرها إذ أن كل مايدخل إليها يختفي في ثوانٍ معدودات مهما كثر في ذلك الاجتماع وبينما أخذ البعض منا يتمنى وجبة دسمة مليئة باللحم وهو غاية المنى تلك الأيام بعد أن ملت بطوننا من علب سمك (التونة) في هذه اللحظة كان صاحبنا يستمع إلى حديثنا وفجأة هب واقفاً ثم تحرك مهرولاً وخرج وقد نوى في نفسه أمراً.هذا ما كنا نعتقده تفسيراً لقيامه المفاجئ.. وكدنا إن ننساه في غمرة محادثاتنا العقيمة التي كنا نخرج منها دائماً كما دخلنا لا غذاء اليوم وفجأة دخل صاحبنا وهو يحمل على كتفه جونية وهو يئن من فرط ثقلها وما كان منه إلا أن وضعها أمامنا فرحاً مبتهجاً رغم ما بدأ عليه من الإنهاك وقال:اليوم باطبخ لكم طبخة طول عمركم ما أكلتم مثلها وفتح الجونية فإذا بداخلها جثة شاة ميتة منتفخة كان قد أتى بها من أمام سوق الخضرة حيث كانت المعارك على أشدها بين الفدائيين وقوات الاحتلال وبسرعة انتشرت في السفينة رائحة نتنة أخذت تتصاعد إلى سماء الغرفة وبعدها انسدت أنفسنا حقيقة عن الأكل ذلك اليوم ورب ضارة نافعة.وكان لذلك المجنون هواية غريبة هي كتابة الرسائل فكان كثيراً ما يزعجنا فيوقظنا من نومنا لنكتب له رسائل وكان يرسلها حقيقة ويخسرعليها ما تستحقه من الطوابع التي يتحصل عليها من أهل الخير وكانت رسائله جميعاً طلباً واحداً هو مبلغ ثلاثمائة ألف شلن فكان أولاً يرسل رسائله هذه إلى السلطات البريطانية حينذاك وبعد أن يئس منها غير رسائله فكان يرسلها إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وانتظر طويلاً ولما لم يصل إليه ما أراد أخذ يرسل رسائله إلى الأمين العام للجامعة العربية فالأمين العام للأمم المتحدة.. ولما يئس من كل هؤلاء جميعاً كتب ذات مرة رسالة إلى رب العالمين وهذا عين العقل ولكنه لم يرسلها لسبب بسيط فهو لايعلم قيمة الطوابع لرسالة ترسل إلى السماء.