هل يمكن أن يكون هناك تقييم للتدخل العسكري المصري في اليمن لا يأخذ في حسابه الظروف السياسية التي كانت تسود العالم العربي وقتها؟ كان ذلك بعد مؤامرة الانفصال، ونحن نذكر ملابساتها وما جرى في سوريا وقتها، وكان ذلك في أعقاب مؤتمر «شتورة» الذي اتخذه النظام الانفصالي في سوريا منبراً للهجوم على الحركة الوطنية العربية، وكان يبدو أن القوى المعادية للتقدم العربي تريد أن تخنق كل صوت ينادى بالتحرر العربي.. وفى ذلك الوقت جاءت ثورة اليمن، وانقضت عليها العواصف، ولا أريد أن أعود إلى التفاصيل حتى لا أنكأ جراحاً قديمة شفاها الزمن فيما أتمنى.. وفى يوم عصيب من أيام شهر أكتوبر 1962 كانت ثورة اليمن الوليدة وحدها في مهب العاصفة. وفى القاهرة كانت هناك مشاورات مستمرة بعد أن طلبت الثورة الوليدة نجدة من مصر بدورها وحجمها فى العالم العربي في ذلك الوقت.. وكان أنور السادات أكثر الناس اهتماماً بهذا الموضوع في القاهرة لأن اختصاصه السياسي فى القيادة المصرية كان يشمل ضمن ما يشمل شئون اليمن والجنوب العربي والخليج، وكانت توصية أنور السادات - في نطاق اختصاصه - تتلخص في أن مصر لا يسعها أن تتفرج على ما يجرى في اليمن مكتوفة اليدين، وأن الواجب القومي يحتم عليها أن تتدخل عسكرياً - خصوصاً بالطيران - لرد العاصفة عن الثورة اليمنية. ودارت مناقشات واسعة حول هذه التوصية.. وأتذكر أنه كان لي في الموضوع رأى يختلف، وقد قلته لجمال عبد الناصر، وأتجرأ فأقول ذلك لأن جمال عبد الناصر أشار إلى رأيي في آخر جلسة حضرها لمجلس الوزراء قبل رحيله، وما قاله في هذا الصدد مسجل بصوته في وثائق مجلس الوزراء... شاهداً ومرجعاً.. كان رأيي في ذلك الوقت يتلخص فيما يلي: - أنني لا أعرف إذا كانت الظروف الموضوعية في اليمن مهيأة لنجاح الثورة.. - ثم أنني لا أعرف إذا كانت الثورة التي قامت في اليمن تستطيع أن تتحمل عملياً ثقل التدخل العسكري المصري في اليمن، وبواسطة القوات المسلحة المصرية. وسألني جمال عبد الناصر سؤالاً مباشراً: - هل معنى ذلك أن نترك الثورة اليمنية وحيدة يسهل ضربها... وماذا يحدث للحركة العربية العامة إذن؟ وقلت: - إنني أدرك أهمية نجدة ثورة اليمن، ولهذا فإني أقترح تشكيل قوات متطوعين عرب من كل البلاد العربية يذهبون إلى اليمن للقتال في صفوف الثورة». وأضفت متحمساً: - لماذا لا نجعل اليمن معركة شعبية للحرية بمثل ما كانت الحرب الأهلية في أسبانيا معركة شعبية للحرية، وحتى لو أننا خسرنا المعركة فإن الخسارة ستتحول إلى أسطورة في النضال العربي تلهم وتلهب خيال أجيال بعد أجيال.. ذلك أسلم في رأيي من الزج بالقوات المسلحة المصرية في ظروف شاقة معظمها مجهول..». ثم قلت للرئيس وقتها: - لدى دراسة قام بها باحث مصري عن الأحوال في اليمن وعن تاريخه المعاصر، وأريدك أن تقرأها، وسوف أرسلها لك.. (أشار جمال عبد الناصر إلى هذه الدراسة في التسجيل الموجود بصوته في سجلات مجلس الوزراء في آخر جلسة حضرها قبل الرحيل). كان الرأي المقابل لرأيي وقتها يتلخص فيما يلي: - أن أمن ومستقبل الحركة الوطنية العربية معلق في الميزان.. - أن الوقت لا يحتمل التردد، وإلا ضاعت الثورة اليمنية.. - أن تدخل بعض قوات الصاعقة، وسرب واحد من الطيران يكفى.. وبهذا المنطق تدخلت مصر لنجدة الثورة في اليمن وكان أنور السادات ارسل المدد العسكري لحماية الثورة في اليمن وأنني كنت على خطأ لأنني نظرت إلى الموضوع من وجهة نظر مصرية إقليمية بحتة، وذلك لا يجوز إزاء مسؤولية مصر ودورها القومي.. ذلك لأن الزاوية القومية هي الزاوية التي يجب أن نقيس منها التدخل في اليمن، فلقد أحدث التدخل المصري في اليمن آثاراً واسعة المدى ألخصها فيما يلي: 1 - لقد خرج الاستعمار البريطاني من شبه الجزيرة العربية واستقل الجنوب واستقل الخليج. 2 - تحت ضغط التدخل المصري فإن السيطرة الأمريكية اضطرت إلى إرخاء قبضتها المسيطرة على الموارد العربية في شبه الجزيرة واتخذت موقفاً أكثر تلاؤماً مع الأنظمة الوطنية وسمحت لها بدور متزايد في توجيه أمور ثرواتها.. 3 - إن الدول الوطنية في هذه المنطقة اتجهت تحت ضغط الظروف إلى «التحديث» وقد كان من النتائج المباشرة لتطورات المعارك في اليمن أن اعتلى الملك فيصل عرش السعودية، وبدأت عملية «التحديث» في المملكة تحت توجيهه، وراحت الأسرة في السعودية تتحول إلى دولة.. وهذه كلها منجزات تاريخية ضخمة لا يمكن تقييم التدخل المصري في اليمن بغير إدخالها في الحساب بصرف النظر عن الثمن الذي دفعته مصر.. وإذا أردنا أن نناقش الثمن الذي دفعته مصر فإن ذلك سوف يقودنا إلى تأمل الظروف التي اتسعت فيها حرب اليمن.. إن الحرب اتسعت لا لأن هذا الطرف العربي أو ذاك تدخل فيها، وإنما اتسعت الحرب حينما تدخلت فيها قوى السيطرة العالمية، وفى مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية التي جندت للحرب آلافاً من الجند المرتزقة الأجانب - إنجليز وألمان وفرنسيين وأمريكيين - وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسى بسهولة ما هو حقٌ لنا ونبتلع بسهولةٍ دعاوى الآخرين علينا.. ننسى أنه في وقت من الأوقات كان هناك أكثر من خمسة عشر ألفاً من الجنود المرتزقة الأجانب في اليمن.. وننسى أن لندن - كما حدث في حالة أنجولا - كانت مركز تجنيدهم وتسليحهم وإرسالهم إلى اليمن.. أكثر من ذلك.. ماذا أقول؟ هل أقول - والقول صحيح - أن المخابرات المركزية الأمريكية كانت تجند المرتزقة الأجانب للحرب في اليمن وأنها كانت مسئولة عن عملياتهم وعن التنسيق بينهم وبين دور لإسرائيل فى مساعدتهم؟ هل أقول - والقول الصحيح - أن إسرائيل كانت تتولى مسؤولية إلقاء الذخائر والأسلحة بالطائرات لهؤلاء الجنود المرتزقة الأجانب في مناطق محددة في جبال اليمن؟. هل أقول - والقول صحيح - أن الرئيس الأمريكى جون كنيدي كان يعلم بحقيقة ما يجرى في اليمن، وكان أحد مساعديه وهو المستر كومار هو ضابط التنسيق بين البيت الأبيض وإدارة المخابرات المركزية الأمريكية، وكان كنيدي يسمى حرب اليمن بقوله: «حرب كومار الخاصة»؟. وإذا قلت بذلك - إذن ألا نكون وضعنا حرب اليمن في سياقها الصحيح من قصة النضال العربي المعاصر.. - إطارها مسؤولية مصر القومية.. - ظروفها الصراع المتصل بين الحركة الوطنية العربية وبين قوى السيطرة العالمية. - ونتائجها ليس فقط ما دفعته مصر من تضحيات في اليمن، ولكن هذا التحول الضخم الذي نراه الآن في شبه الجزيرة العربية، وعند طرفها الجنوبي، وعلى شطان الخليج!..من كتاب ( لمصر لا لعبد الناصر - الحديث الرابع بعنوان : حكايات المذابح اليمن .. القضاء .. حرية الصحافة ) للكاتب محمد حسنين هيكل
الرئيس السلال مع أنور السادات