قبل الدخول في موضوع تنظيم الضباط الأحرار أود أن أعطي صورة مبسطة عن أوضاع الضباط في أواخر الخمسينيات أي ما بعد حركة 1955م في تعز، لأنّ إيراد هذه الصورة سيساعد كثيراً على فهم التنظيم والعوامل التي ساعدت على قيامه:1 - ساحة شرارة أو ما يسمى بميدان التحرير في صنعاء:- هذا الميدان كان قريباً من أربع مدارس هي :- المدرسة العلمية وتدرس بها العلوم الشرعية.- المدرسة الثانوية ومنهاجها الدراسي تدريس مواد المدرسة الثانوية على نحو متدنٍ وضعيف.- المدرسة التحضيرية وهي كالمدرسة الثانوية.- المدرسة المتوسطة : وتعني مرحلة إعدادية :لكنها من الناحية العملية دون الإعدادية بكثيرٍ نظراً للمواد العلمية التي تُدرَّس فيها .. ولن أدخل في تفاصيل حول مستويات الدراسة والمدرسين والمناهج الدراسية والأدوات التعليمية وبصفة إجمالية كان الوضع متخلفاً جداً جداً.. من جميع النواحي.2 - كان يدرس في تلك المدارس ما بين 400 - 500 طالب كأعلى تقدير، 90 % منهم يعيشون في الأقسام الداخلية، أي أنهم يسكنون ويعيشون ويدرسون في المبنى نفسه الذي يدرسون فيه.وتوفر لهم الدولة الفراش والدفاء والخبز والإدام على نحوٍ متواضع، تظل المعدة به مرتاحة طوال اليوم، ولكنها تشكو الفراغ من العمل.ولكي ينتسب الطالب إلى أيٍ من المدارس لابد أن يحصل على موافقة ملكية من الإمام، أو نائبه في صنعاء.. بعد أن يقدم الشهادات العادلة والموثقة بأنّه فقير ومُعدم أو يتيم وفقير ولا يوجد في أسرته من ينفق عليه.. وشرط اليتم أو الفقر أو هما معاً كان المؤهل المطلوب لتكفل الدولة إسكان الطالب وإعاشته ومصروفاً شهرياً أقصاه 3 ريالات.وكان يوجد عدد من الطلاب لا تتوافر لهم الشروط ويدرسون من دون مقابل.3 - فائض الوقت :الـ 24 ساعة في اليوم كانت أكثر بكثير من الوقت الذي يحتاجه الطالب لإكمال عمله اليومي، لهذا السبب فقد وجد الطلاب متسعاً من الوقت للتعارف والصداقات والتجمعات وسماع الروايات عن أحوال البلاد والعباد وما يعانيه المواطن في كسب رزقه وصحته وتعليمه، كذلك تسقط الأخبار عن أحوال الدول الأخرى والاستماع إلى راديو صوت العرب ولندن وخطابات عبدالناصر وأغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالوهاب وغيرهم.. كما كان الطلاب يحصلون على بعض المنشورات أو الصحف المصرية أو الكتب الأدبية، ولأنّ المستقبل ما كان يعدهم بشيء لا وظيفة ولا منحة دراسية لاستكمال التعليم في الخارج أو حتى الأمل في الزواج وبناء أسرة خاصة، وأعمارهم ما بين العشرين إلى الثلاثين، فقد كانوا يجنحون إلى اليأس المقيت، أو الخيال الكاذب، ويتسلون أحياناً باللعب أو بتبادل الحديث فيما يعنيهم وما لا يعنيهم، وكانت تغريهم أحياناً كلمات الأناشيد «نحن الشباب لنا الغد» وكان كل طالب على معرفة بالآخر في مدرسته أو المدرسة الأخرى.4 - العدوان الثلاثي على مصر أو ما يسمى معركة بورسعيد سنة 1956م :في هذا العدوان خرج كل الطلاب في مظاهرة كبيرة زاخرة بالحماس القومي، وقدموا أنفسهم إلى السفارة المصرية متطوعين في الدفاع عن مصر والأمة العربية، غير أنّ هذا العدوان انتهى بضغط من أمريكا والاتحاد السوفيتي وكان النشيد «انتصرنا انتصرنا» ثمّ تلت هذه المظاهرة مظاهرة أخرى، خرج فيها الطلاب وغادروا أسوار العاصمة واعتصموا ثلاثة أيام خارجها، وتمّ التصالح مع الحسن بن علي وزير المعارف على سجن ثمانية طلاب، وكان لهذه المظاهرات قيادات طلابية، تتكون هذه القيادات بطريقة لا ندركها ولا نعرف مواصفاتها، ولكنها تتمتع بثقة كل الطلاب، وهي سنة جارية ومتبعة في كل التجمعات البشرية.5 - صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية لليمن :عقد ولي العهد (البدر محمد) آنذاك صفقة أسلحة روسية تشيكية بواسطة من عبدالناصر أو برغبة الاتحاد السوفيتي للنفوذ إلى المنطقة وأياً كان الأمر فقد وصلت شحنات أسلحة إلى ميناء الصليف عام 1957م: بنادق، رشاشات مدافع، دبابات، ووصلت الطائرات إلى صنعاء.تعتبر صفقة الأسلحة نقطة تحول كبير في سياسة الإمام الانعزالية، واقتضى الأمر إزاء هذا الحدث استقدام بعثة عسكرية مصرية للتدريب على الأسلحة واستقدام بعثة طيران عسكرية للتدريب على الطائرات، وتبعاً لذلك كان لابد من إعادة فتح الكلية الحربية التي أُقفلت عقب فشل ثورة 1948م، وتمّ اختيار 80 طالباً من المدارس الآنف ذكرها، و20 طالباً من الشباب العامل في الجيش للالتحاق بالكلية الحربية، وتخرجت دفعتان من الكلية الحربية الأولى سُميت دفعة محمد مطهر زيد وثانية سُميت دفعة علي عبدالمغني، على اعتبار أنّهما الأولين على دفعتيهما.وفي الفترة نفسها 58 / 1959م افتتحت كلية الطيران من خمسين طالباً، وافتتحت مدرسة الأسلحة التي تتدرب فيها مجموعة من ضباط الشرطة الذين كانوا قد تخرجوا من مدرسة الشرطة في تعز وعدد من ضباط الجيش الذين كانوا في الوحدات العسكرية وهم المتخرجون من المدرسة الحربية قبل 1948م.6 - ما أردت الوصول إليه، من هذا التسلسل للأحداث هو الوصول إلى الجواب، على سؤالٍ:مَنْ هم الضباط الأحرار الذين تكوّن فيهم؟ ومن هم الضباط الأحرار؟إنّ الضباط الأحرار ما هم إلا أولئك الطلاب الذين كانوا في المدارس وكانوا يقومون بالمظاهرات والاعتصامات والأنشطة السياسية المختلفة.وتعرضوا للمضايقات والسجن وكانت لهم قياداتهم التي تدفعهم لكل الأعمال، وهم الذين تكوّنت منهم الكلية الحربية وكلية الطيران وكلية الشرطة يُضاف إليهم عدد من دفعات 1961م.المدرسة الحربية قبل 1948م والذين تعرضوا للمشاق الكبيرة والمتخرجون في كلية الشرطة في تعز والتحقوا بمدرسة الأسلحة، كذلك أولاد المشايخ المناوئين للسلطة الذين التحقوا بالجيش كضباط. وعلى ذلك فإنّ تنظيم الضباط لم يذهب بعيداً للبحث عن عناصر غير معروفة لإقناعها بالانخراط في تنظيم الضباط، بغرض القيام بالثورة ضد الأوضاع الإمامية الإنعزالية. ولم يذهب بعيداً للبحث عن قيادات العمل الوطني، فالقيادات الطلابية للنشاط السياسي خلال خمس أو ست سنوات قبل الثورة هي القيادات لتنظيم الضباط، يُضاف إليهم عدد من الضباط الذين درسوا على أيدي البعثة العسكرية العراقية في الأربعينيات أو درسوا في العراق وتعرضوا للتشريد والسجن في ثورة 1948م، وحتى لا نحصر العمل الثوري في هذا القطاع العسكري، فإنّ عدداً كبيراً في أوساط الموظفين والمشايخ والتجار وغيرهم من أبناء الشعب قد شكلوا جماعات هنا وهناك، تعمل للثورة، ظهر حماسهم وتضحياتهم لحظة إعلان الثورة في صباح 26 سبتمبر 1962م.ثانياً : تنظيم الضباط الأحرار :لماذا تنظيم الضباط ؟ ولم يكن التنظيم العسكري ليشمل الوحدات العسكرية من ضباط وصف ضباط وجنود..؟- كانت مهام التنظيم هي استخدام الأسلحة الحديثة، الدبابات والمدفعية والمدرعات، وهي الأسلحة التي تضمنتها صفقة الأسلحة، وكان الضباط هم الوحيدون الذين أُتيح لهم التدرب على استخدامها، من جهةٍ أخرى فإنّ الوحدات العسكرية المتواجدة وهي فوج البدر والجيش الوطني لم تكن قد تدربت على الأسلحة، ولم يكن الضباط المتخرجون في الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة يقودون تلك الوحدات، ولا كانوا قادرين على القيام بأي نشاط فاعل في تلك الوحدات، باستثناء نشاط محدود في فوج البدر.أما بقية الوحدات من الجيش القديم فقد كانت موزعة على القضوات والنواحي على شكل سرايا، كل سرية يقودها ضابط بأي رتبة إضافة إلا أنّ تعداد السرية لا يزيد في أحسن الأحوال على خمسين جندياً، ومهماتها ليست عسكرية، فهي تؤدي دور الحفاظ على الأمن وجباية الزكاة وغيرها من الواجبات للدولة.لقد كان الوضع معقداً: أن يتواجد مجموعة من الضباط لا يقودون وحدات عسكرية وقيادة الجيش لا تمارس غير توزيع الجنود على القضوات والنواحي، ليكونوا تحت إمرة عامل القضاء أو الناحية.وفي هذا الوضع المعقد كان على الضباط أن يحصروا على أنفسهم وحدهم، مهمة التخطيط للثورة وأن يقوموا هم وحدهم بالعمل التنفيذي.لكل ما ذكرت فقد تمّ إطلاق اسم تنظيم الضباط على القائمين بالعمل الثوري، أما كلمة أحرار فهي صفة استحدثت أخيراً.لماذا اختار الضباط كلمة تنظيم ولم يختاروا كلمة حزب؟لقد كان الضباط في تلك الفترة متأثرين وعياً وإدراكاً بما يبثه إعلام الرئيس جمال عبدالناصر عن طريق الإذاعة والصحافة والأدبيات للحركة القومية التي كان يقودها جمال عبدالناصر.أما الأحزاب فلم تكن قد تجذرت في اليمن، وما زال منتسبو الأحزاب السياسية آنذاك بأعداد قليلة جداً، وبالأخص في مدينة صنعاء، على أنّ بعض الضباط قد تأثر بالتنظير السياسي القومي في كتاب (معالم الحياة العربية الجديدة) للسيد منيف الرزاز، و(النكسة والبناء)، للدكتور وليد قمحاوي، وغيرها من الأدبيات القومية.لقد كان الضباط يواجهون مهمة عسيرة غير تأسيس التوجهات القومية الوحدوية. لقد كانوا يواجهون صعوبة تغيير النظام الإمامي إلى نظام جمهوري كخطوة أولى على الطريق الصحيح.لهذا فقد كانت تجمعات الضباط المحدودة سواءٌ في الثكنة العسكرية أو في بعض المنازل، تناقش إمكانية القيام بعمل عسكري ينهي نظام الإمامة ويعلن النظام الجمهوري، غير أنّ الإمام أحمد كان قد ارتبط مع جمال عبدالناصر في اتحاد ثلاثي (مصر - اليمن - سورية)، وعليه اختفى صوت المعارضة اليمنية في مصرَ لنظام الإمام، وبعد انفصال الوحدة السورية المصرية أعلن عبدالناصر القوانين الاشتراكية، فهاجم الإمام القوانين الاشتراكية في أرجوزة شعرية.أقدم عبدالناصر بعد ذلك على إلغاء الاتحاد الثلاثي وسمح لجهاز الاستخبارات بالعمل ضد نظام الإمام أحمد،وسمح لإذاعة صوت العرب بمهاجمة نظام الإمام.شعر الضباط حينها أنّ بإمكانهم القيام بأي عمل ضد الإمام، وفي حالة نجاحهم فإنّ عبدالناصر سيكون مؤيداً لحركتهم، علماً أنّ المد الناصري القومي الوحدوي كان قد انتشر في كل الأقطار العربية، وأصبح مقلقاً للرؤساء والملوك العرب آنذاك، ومقلقاً في الوقت نفسه لإسرائيل والدول الغربية.الخطوات العملية لإنشاء تنظيم الضباط الأحرار : 1 - اعتماد السرية مبدأ أساسياً لا يمكن التفريط فيه.2 - العمل في إطار الضباط القادرين على الفعل، وخصوصاً الذين أكملوا التدريب على الأسلحة.3 - اختيار مجموعة من الضباط، ما بين العشرين إلى الثلاثين وتسمى هذه المجموعة بالقاعدة، وتنتخب القاعدة لجنة قيادة من 5 - 7 ضباط ولائحة داخلية تنظم الاجتماعات.4 - يتوزع الضباط في خلايا سرية لا يزيد عدد أفراد الخلية على خمسة ضباط.5 - يرتبط رؤساء الخلايا بالقاعدة بواسطة ضابط في القاعدة، يدعى أمين سر التنظيم.6 - توزع ورقتان على كل عضو إحداهما شروط العضوية، والثانية توضح أهداف الثورة.7 - يقسم العضو على الحفاظ على السرية، وعلى العمل الوطني في إطار أهداف الثورة.تلك هي أهم الخطوات التي تمّ اتخاذها في أحد الاجتماعات أواخر سنة 1961م. وتواصلت الاجتماعات على هذا النحو، وتوسع التنظيم بتأسيس فروع له في تعز والحديدة وحجة وفي بعض المواقع المهمة كالإذاعة وقصر السلاح وبين حرس ولي العهد (البدر محمد) في صنعاء «دار البشائر».وكان العمل يرتكز على محورين :المحور الأول القيام بالحركة على الإمام أحمد في تعز.المحور الثاني يقوم بحركة على ولي العهد في صنعاء غير أنّ موت الإمام في 19 سبتمبر 1962م وتقلد ولي العهد منصب الإمام خلفاً لأبيه دفع بالضباط لأنّ يقوموا بالثورة في 26 سبتمبر 1962م وهكذا كانت ثورة الشعب اليمني. وكان على تنظيم الضباط إذكاء شرارة الثورة تعبيراً عن كل تطلعات الشعب اليمني، وتتويجاً لمسار الحركة الوطنية عبر سنوات القهر والألم والنضال.
تنظيم الضباط الأحرار والتخطيط لانطلاقة ثورة 26 سبتمبر
أخبار متعلقة