قراءة : فدوى كنعان لا ديةَ لَهاغْروْرَقَ طَرفُ الليلِ بفيضٍحينَ نعاهُ أنينُ الناي بشهقةِ موتٍبحرقةِ ثكلٍ لما نالت منهُ الآهُ قد أرْهقهُ الصمتُ الـيغفو في حنجرتهْ قد جرَّحهُ سيفُ الخيبهْمذ صالَ وجالَ النصلُ يجزُّ سنابلَ نجواهُ من أوّلِ شهقة ميلادِهْمكتوبٌ في لوحِ الأقْدارِبأنْ لا ديةَ لَهْموسومٌ بالأوجاعِ وكأس البينِ حميماً أسقاهُ ترويهِ قُيوظُ الهمّ بدجنِ الغمِّ أُواماً يركضُ في شريانِ توجسِهِأوجاعاً ترقصُ رقصتها الغجريةَ تذكي بلْواهُ وصقيعُ الوحدةِ لا يرحمْيستشري بردُ تمدُّدِهِفي غربةِ روحهِ كيما يطرد وهمَ الدفءِ الكامنِ فوقَ خرائطِ منفاهُ ما أدركَ جمرَ توجعهِ أحدٌ مذ أرجأ صرختهُ وتكوّر في “صيوان” الفقدِ بقايا إنسانٍ تركتهُ يتيماً دنياهُ في الليلِ الأخرسِ في جبِّ العتمهْ وعناكبُ وِحدتهتلوي بخيوط قتامتها عنقَهْخرجت من جوفه آهات حرى غَرَستها ذاتَ رصيفٍ أوّاهُ قبل الولوج إلى روح النص يقدم الشاعر صورة رائعة الحسن لكنه وضعها في برواز محطم الزجاج وكأني به يحذر كل من أمعن النظر في هذه الصورة من أن تـُجرح يداه أو عيناه إذا ما تناولها . أغرورقطرف الليل بفيضحين نعاه الناي بشهقة موت بحرقة ثكل لما نالت منه الآآآآه ....كثيراً ما يحزن الليل ويسهر ويبكي ويئن لكنه هنا اغرورق بفيض الدمع المالح حد المرار .. حين أبلغه الناعي (أنين الناي ) بفقد لا هو موت فيُدفن ثم يـُبكى .. ولا هو حياة قد تقبل وقد تدبر ... وماذا بعد أن يكون الناعي أنين الناي وكأني بهذا الناعي لم يكتفِ بتداعيات الحزن التي يستحضرها بلحنه النازف آهات مذبوحة فمزجها بنعي موت لا لَحدَ له سوى مآقي خددها الدمع والملح .. فاستشرست الآه وسكنت في زمان الذات الشاعرة ومكانها حد الاستيطان .قد أرهقه الصمت الـ يغفو في حنجرته قد جرحه سيف الخيبة مذ صال وجال النصل يجر سنابل نجواه وآه من صمت عالق في حنجرة ما كانت إلا لتردد نداءات الروح : أن تعال .... لكن الصمت ابتلع النداء ونام وترك رجع الصوت يتردد في أقبية الروح ودهاليز العمر المحشوة برؤى ضبابية الملامح ....( قد جرحه ) هنا لي وقفة ومكوث حيث استخدم الشاعر حرف التحقيق (قد) هذا الحرف الذي يفيد تحقق الفعل وانقضاءه حتما إن دخل على الفعل الماضي أما إن دخل على الفعل المضارع فإنه يفيد إمكانية التحقيق وربما عدم التحقيق. وهنا قد دخل على الفعل الماضي وكأني بالشاعر يجزم ويقر بذاك الجرح الذي كان من سيف الخيبات المثلوم ... ثم إن الشاعر لم يكتفِ بذلك الإقرار بل تجاوز الحد في تفعيل الألم حين استخدم الفعل ( جرَحه) أي فعَله بمعنى أن التجريح لم يكن مرة واحدة وينتهي الأمر بل كثير التكرار إمعانا في تعذيب القلب المكلوم بذاك الفقد وتلك الخيبة .. وقد صال وجال ذاك السيف متفرعنا متجبراً وحين اكتشف سنابل النجوى - التي كانت تهدهد روح بمناجاتها - اقتادها أسيرة وكأنه ( يسحلها ) عقوبة لها على مغافلتها الوجع ومحاولاتها تبديد وحشة الفقد .من أول شهقة ميلاده مكتوب في لوح الأقدار بأن لا دية له وهنا بعد أن فقدت الذات الموجوعة كل أمل لها باتت تراجع سجلات حياتها مذ كانت شهقة الميلاد لتكتشف سر عبث الزمان بها وتفننه في إيلامها فوجد أنه منذ البدء كان بلا دية أي مستباح للهم والغم والحزن والفقد ولن يكون هناك مـُطالِب له بتبرير فعلته النكراء أي الزمان .. فما كان منه إلا أن كشر عن أنيابه وأظافره وبكل هدوء المطمئن غرزها في الجسد المتمزق و شظايا الروح المنثورة في فيافي الحياة .. وقد وشم على جدارن عمره كل ألوان الوجع بجمر أحمر وربما موت أحمر ...... وكان البين قد أعد كؤوس الحميم لتكون المشروب الراعي لذلك الاحتفال الوثني بطقوس العذاب .. ترويه قيوظ الهم بدجن الغم أواما يركض في شريان توجسه أوجاعا ترقص رقصته الغجرية تذكي بلواه يتناول الشاعر هنا مراسيم الاحتفال الوثني الهمجي حيث يدجن الهم صنوف الوجع ويزفها للغم لتتناسل فوق مساحات هواجسا وريبا وظنوناً تتقافز في شرايين الروح وترقص رقصات غجرية تكشف ما استتر من أنواء قادمة .. وصقيع الوحدة لا يرحم يستشري برد تمدده في غربة روحه كيما يطرد وهم الدفء الكامن فوق خرائط منفاه ما أدرك جمر توجعه أحد مذ أرجأ صرخته وتكور في صيوان الفقد بقايا إنسان تركته يتيما دنياه يعود الشاعر إلى ذاته المتهالكة فوق صقيع الوحدة الذي لا يكل من التسلل إلى نسغ العظم يستلقي على امتداد الخرائط المنزوعة الحدود لاغتراب الروح يطارد أي بارقة دفء قد تراوده ولو وهما وخيالا .... ثم تنظر الذات الملتاعة إلى نفسها بعد أن صرخت وكانت تظن أن رجع صراخها المكتوم قد بلغ المدى فإذ بها تكتشف أنها وحيدة في ( صيوان العزاء) متكورة على ذاتها واضعة رأسها بين كفيها وقد جلست على رصيف الحياة كيتيم تنكر له الأهل .. وكأني أراه يجلس القرفصاء على رصيف عمره المهدور ( أصفر الوجه صفر اليدين ) .. في الليل الأخرس في جب العتمة وعناكب وحدته تلوي بخيوط قتامتها عنقه خرجت من جوفه آهات حرَى غرستها ذات رصيف أوااااه يعود الشاعر لما بدأ به قصيدة الوجع ( الليل ) الذي كان في بداية النص يبكي مغرورقا بفيض دمعه وقد أصبح أخرسا ولم يكن أخرسا فقط بل قابعا في قاع جب العتمة حيث لا أمل ولا بصيص شعاع من نور يبدد تلك العتمة.. لم يكن إلا عناكب ماهرة في غزل خيوط المشنقة لتلفها حول عنق روحه تلك التي استعارت صرختها الأخيرة آهات حارقة كانت هي كل رصيدها من جني المحصول المتبعثر على رصيف العمر ( أوااااه )
|
ثقافة
قراءة في نص (لا دية له) للأديب زياد السعودي
أخبار متعلقة