للأديب النمساوي: جوزيف روث كان اسمها باربرا.. اسم له وقع في الأذن كوقع العمل، أما عمرها فليس بوسع المرء تخمينه، فقد نال التآكل من الغادة البيضاء فاصطبغت بلون الحجر الرملي المائل للاصفرار، عيناها في حركة دائمة هنا وهناك دون أن تستقرا على شيء محدد، ثم تحملقان في نقطة داكنة في سقف الغرفة الأبيض، أو في ثقب، أو في ذبابة، وتبقى باربرا ساكنة الحركة متأملة ما مر من عمرها.كانت في العاشرة من عمرها عندما توفيت أمها، أما أبوها فكان تاجراً موسراً، لكنه انغمس كثيراً في لعب القمار، وقد تكبد الخسارة تلو الخسارة: النقود ثم المحلات التي كان يملكها، ومع ذلك لم ينقطع عن الحانة وواصل اللعب فيها، كان طويل القامة نحيل البنية، يداه دائماً غارقتان في جيوب البنطلون، كأنهما في حالة تشنج، لا أحد يعلم إلى ماذا يرمي من وراء ذلك، أكان يريد التشبث بما بقي له من نقود، أو منع الأيدي أن تمتد إلى جيوبه للتحقق مما إذا كانت عامرة بالنقود أو خاوية؟ كان يجب أن يفاجئ الآخرين ما أن يبدو لشركائه في اللعب أنه خسر كل شيء، حتى كان يدهشهم بإخراج شيء ثمين أو خاتم أو سلسلة من جيوبه، ويواصل لعب القمار، توفي فجأة دون مقدمات، وكأنه أراد بذلك مفاجأة الجميع.. سقط فجـأة على الأرض كأنه عبوة فارغة، ومات في الحال، لكن اليدين ظلتا في الجيوب، بذل الناس جهداً في انتزاعهما من الجيوب، حينها فقط علموا أن جيوبه كانت خاوية، ربما كان السب في موته أنه لم يعد لديه ما يخسره على موائد القمار!.كانت باربرا حينها في السادسة عشرة من عمرها، انتقلت بعدها إلى عم لها مترهل، يعمل في تجارة الخنازير، يداه بدينتان تغلب عليهما النعومة، كان عندما يطبطب بيده على خدها يخيل إليها أن خنازير صغيرة تدب على وجهها، اما العمة فكانت شخصية يحسب لها حساب، نحيلة الجسم قليلة الكلام وحاسمة، كما هو الحال مدرسة البيانو، عيناها جاحظتان لا تكفان عن الدوران والحركة، كأنهما لا ترغبان في البقاء مكانهما، بل في الخروج من الرأس في نزهة لا تنتهي.لونهما أخضر فاتح من النوع الذي لا تستهويه الأذواق، كلون كؤوس الشراب رخيصة الثمن، لا يفوتها شيء مما يحدث في المنزل أو في دخيلة تاجر الخنازير، الذي كانت تمارس عليه نفوذاً كبيراً إلى حد يصعب تصديقه، كانت تحدد لباربرا الأعمال المطلوب منها القيام بها، وكان على الأخيرة التحلي بقدر كبير من الحرص حتى لا تتسبب في كسر شيء، وإلا ظهرت ذات العينين الخضراوين في الحال وألقت نظرات حافلة بالبرود، حينها تصاعد الحرارة إلى رأس باربرا.عندما بلغت العشرين من عمرها وافق عمها على خطبتها لأحد أصدقائه، معلم نجارة قوي الجسم بارز العظام، له يدان غليظتان مفعمتان بالقوة والصلابة، يوم الخطبة أمسك بيدها وضغط عليها بشدة سمعت لها قرقعة، لم تتمكن من سحبها إلا بمشقة، وشعرت حينها بخلو أصابعها من أي حياة، ثم طبع على فمها قبلة عنيفة، وهكذا صارت خطيبته.تم الزفاف بعد الخطبة مباشرة حسب القواعد والأصول، ثوب أبيض ورياحين خضراء، وكلمة منمقة معسولة للقسيس، وشرب النخب دعا إليه تاجر الخنازير ملقياً أثناءه كلمة مشتتة افتقرت إلى حد أدنى من التركيز، غمرت السعادة معلم النجارة وانكسرت في يده مجموعة من كؤوس النبيذ الفاخرة، كان تاجر الخنازير ينظر إلى عظامه القوية دون أن يجرؤ على إبداء حنقه، ظلت باربرا جالسة طوال الوقت، كأنها ضيفة في زفاف صديقة لها، لم تكن ترغب في فهم حقيقة أنها صارت امرأة، لكنها فهمت ذلك أخيراً بعد أن أصبحت أماً.اهتمامها بابنها فاق اهتمامها بالنجار، الذي كانت يومياً تحضر له طعامه إلى الورشة، وإن لم تفعل، صارت عرضة لسخطه، كان دائماً في أتم عافية، تنبعث منه دوماً رائحة نشارة الخشب، صموتاً كصمت كنبة المدفأة، في أحد الأيام، عندما كان منكباً على العمل في الورشة سقطت دعامة خشبية ثقيلة على رأسه ما أدى إلى وفاته في الحال.كانت باربرا حينها في الثانية والعشرين من عمرها، تحمل لقب معلمة، وجدت معاونين لا أحد منهم كان يمانع في أن يصبح معلماً، جاء تاجر الخنازير وأخذ يربت بخنازيره الصغيرة على خدي باربرا تعبيراً عن مواساته، كان يفضل تزويجها ثانية، لكنها تحينت أول فرصة مواتية وباعت الورشة، عملت في المنزل، كانت تقوم برتق الجوارب وحبك الشالات الصوفية لتعول نفسها وطفلها، كان طفلاً قوياً ورث عن أبيه قوة العظام، كثير الصراخ، يتقلب ويتخبط بعنف على سريره كأن له من الركب والأطراف ما يزيد على عشرة، كان دميماً اجتمعت فيه سلامة البنية ودمامة الوجه، لكن باربرا لم تجد فيه ما هو غير جميل بل كانت تشعر بالرضا والفخر وتمتدح خصاله الحميدة العقلية والروحية عند جميع جاراتها، كانت تخيط له قلنسوات وأوشحة زاهية الألوان، وتقضي بعض أيام الأحاد بكاملها تعتني بزينته وأناقته، بمرور الوقت لم يكف ما تكسبه من نقود، وأخذت تبحث عن مصادر أخرى لدخل، وجدت ضالتها في منزلها المتسع كثيراً، علقت لوحة بباب المنزل تعرف بوجود غرفة معروضة للإيجار، وذلك بأحرف غريبة شابها التقطع والارتباك، وبدا عليها أنها على وشك أن تنفصل عن الورقة لتتكسر على الأرض، جاء مستأجرون، كانوا يشيعون البرود في المنزل لفترة من الوقت، ثم يمضون في حال سبيلهم، فيأتي غيرهم.في أحد الأيام، كان ذلك في نهاية مارس، وقطرات المطر تتساقط من السقف، جاء بيتر فيندلن، كان يعمل كاتباًً لدى أحد المحامين، في عينيه البنية الذهبية وهج ينم عن سلامة طوية، أحضر متاعه إلى الغرفة وأقام فيها بهدوء لم تتخلله أية متاعب.امتدت إقامته حتى أبريل، كان يخرج في الصباح الباكر ويعود عن المساء، في أحد الأيام لم يخرج، ظل حبيساً في الغرفة وبابه مغلقاً، قرعت باربرا الباب ودخلت، كان السيد فيندلن مستلقياً على سريره يبدو عليه المرض، أحضرت له كأساً من الحليب الساخن، لم يفتها ما في لمعان عينيه البنيتين الذهبيتين من حرارة.بمرور الوقت نشأ بين الاثنين نوع من الثقة، كان طفل باربرا موضوع أحاديث بينهما لا تنتهي، كما تناولا ما يقع من أحداث يومية وأشياء غيرها، تلك الأحاديث الاعتيادية كانت تخفي وراءها شيئاً غير عادي مختلف تماماً، كانت الكلمات بينهما غطاء لأمر غير عادي له وقع السحر.استرد السيد فيندلن عافيته وقدرته على العمل، إلا إنه ظل في السرير فترة أطول مما تقتضيه الضرورة، رغبة منه في ذلك، أخيراً نهض كارهاً من سريره في يوم حار مشمس، كانت توجد بالقرب من المنزل حديقة صغيرة متربة وكئيبة، أسوارها رمادية اللون، أشجارها بدأت تكتسي لون الخضرة، إذا صرفنا النظر عن المنازل المحيطة بالحديقة، فبإمكاننا التصور بأننا في متنزه حقيقي وجميل، كانت باربرا تذهب أحياناً إلى ذلك المتنزه مع طفلها وبصحبتها السيد فيندلن، بعد ظهيرة أحد الأيام ذهبا سوياً إلى المتنزه، الشمس كانت مشرقة تقبل بأشعتها المقعد الطويل المغطى بالتراب، أخذا يتاجذبان أطراف الحديث، لكن الكلمات كانت مجدداً مجرد غطاء لأشياء أخرى، خيم عليهما صمت ارتعش له الربيع، في أحد الأيام طلبت باربرا من السيد فيندلن أن يؤدي لها صنيعاً، إصلاح كلاب المصباح القديم المعلق، وضع الكرسي على الطاولة المهتزة وصعد على القاعدة المشكوك في ثباتها، وقفت باربرا بجانبه ممسكة بالطاولة لتثبيتها، بعد إنجازه العمل المطلوب منه، استند دون قصد إلى كتف باربرا وقفز إلى الأرض، مرت ثوانٍ وهو واقف لكن يده ظلت على كتف باربرا، لم يعلم أي منهما ما يحدث، بقيا واقفين يحملقان في بعضهما دون حراك، أراد كل منهما أن يتكلم، لكن الكلمات لم تطاوعه، كما هو حال النائم المستغرق في حلم يريد أن يصرخ ولا يقدر على ذلك، أخيراً أفاق فيندلن، أمسك بيد باربرا وضغط عليها: “أنت أيضاً” أجابت: “نعم” وبدا كأنهما الآن فقط عرف كل منهما الآخر، بعد انتهاء الحفل التنكري ورفع الأقنعة عن الوجوه، حان أوان المكاشفة ليطمئن كل منهما: “”حقاً يا بابرا” قالها فيندلن متلعثماً، وعندما انفرجت شفتاها لتقول “نعم” تحرك فيليب الصغير وهو على مقعد الراحة محدثاُ جلبة وصرخ مولولاً، أسرعت أمه إليه لتهدئته ووراءها فيندلن، عاد الهدوء إلى الطفل ثم أخذ يضحك، نظر فيندلن إلى باربرا قائلاً : “سأعود غداً، دمت بعافية”، تناول قبعته وانصرف، وعندما استدار وهو على عتبة الباب ناظراً إليها، بدأ كأن وهج الشمس ينبعث من كل شيء حوله.ما إن صارت وحدها حتى أجهشت ببكاء مسموع، سرت عنها الدموع التي سالت على خديها وشعرت وكأنها أسندت وجهها على صدر دافئ، زالت المعاناة التي لازمتها فترة من الوقت، لم تشعر بارتياح عميق منذ فترة طويلة، كانت أشبه بطفل ضل طريقه في الغابة ولم يهتد إلى منزله إلا بعد بحث طويل.لقد كانت تائهة في غابة الحياة حتى عادت أخيراً إلى بيتها، أضاءت كل ما هو موجود في غرفتها، ظلت باربرا جالسة، رغم حلول الظلام، وهي تغالب تنهدات مكتومة بداخلها، والطفل مستغرق في النوم على كرسي راحة قديم، صدرت عنه حركات وأصوات جعلتها تفيق إلى نفسها، أضاءت النور، وضعت الطفل على السرير ثم جلست إلى الطاولة، ساعدها الضوء الكاشف على أن تفكر بهدوء وترى الأشياء بوضوح، تأملت كل شيء مر بها في حياتها، تراءت لها أمها أمام عينيها، والكيفية التي ظل بها أبوها راقداً على الأرض فاقداً القدرة على الحركة، وزوجها النجار الفظ، كما تذكرت عمها وأحست مجدداً بدبيب الخنازير الصغيرة على وجهها.لكن الأمر مختلف مع بيتر فيندلن، كان يتبدى لها دائماً بعينيه الطيبتين وما ينبعث منهما من وهج، إذا جاء الغد فستقول له بكل تأكيد: “نعم”، لماذا لم تنطق بها اليوم؟ لا تدري، آه.. إنه الطفل تملكها الحنق فجأة، لم يستغرق ذلك سوى ثوان قليلة حتى سيطر عليها شعور كأنها قتلت طفلها، اندفعت نحو السرير لتقنع نفسها بأن سوءاً لم يحدث له، انحنت عليه وقبلته راجية منه بنظرة حزينة أن يصفح عنها، هل يمكن أن يتغير كل شيء؟ وماذا يمكن أن يحدث للطفل؟ سيحظى بأب غريب عنه لا تعرف إن كان سيمنحه عطفه؟ وما الذي سيضمن لها أن تحظى هي بحبه؟ إذا جاء أطفال آخرون فهل يمكن أن تحبهم أكثر منه، من أجل أن نحظى بحياة جديدة لابد من تركه.. كلا، يمكن أن يظل معها في حياتها الجديدة، وسيكون كل شيء على ما يرام.. هل هذا ممكن؟ إنها تعلم أنها إذا تخلت عنه فلن يعتني به أحد، وستكون هي في كنف رجل غريب، لكن هل هو غريب حقاً؟!صرخ الطفل فجأة وهو نائم: “ماما! ماما! ماما” انحنت عليه فمد يديه الصغيرتين نحوها ماما! ماما! كـأنه نداء استغاثة!إنه طفلها.. هذا بكاؤه لمجرد أنها فكرت بتركه، كلا! كلا! لن تفارقه ما امتد بها العمر.أخيراً استقرت على رأي ناضج واتخذت قرارها، أخرجت من الدرج قلماً وأوراقاً وكتبت بمشقة بأحرف عرجاء.. إنها غير منفعلة، هادئة تمام الهدوء، حاولت أن يكون خطها جميلاً قدر الإمكان، رفعت الورقة لتراجع ما كتبت: “لا يمكن أن يتم ذلك، لن يحدث بسب طفلي”، وضعت الورقة في مظروف واسترقت الخطى إلى عند بابه.. غداً سيعثر عليها.أطفأت النور وحاولت أن تنام، دون فائدة، أخذت تبحلق عبر النافذة طوال الليل، عزل بيتر فيندلن من الغرفة في اليوم التالي، بدا عليه التعب والانكسار وغاب وهج عينيه، لكنه عاد بعد قليل ومعه باقة ورود وضعها بصمت أمام باربرا على الطاولة، شاب صوتها بكاء مكتوم وانتابتها رعشة عندما مدت يدها لتوديعه، جال فيندلن ببصره قليلاً في الغرفة وقد استعادت عيناه وهجها الذهبي، ثم رحل، بدأ شحرور يغني في الحديقة المجاورة وهي تنصت له في هدوء، على الباب كانت تتأرجح بفعل رياح الربيع لوحة إعلان عن سكن للإيجار.جاء مستأجرون ومضوا، مرت الأشهر وكبر فيليب، أصبح يرتاد المدرسة وكان يحقق نتائج جيدة أثارت في أمه مشاعر الفخر، كانت تحلم بأن يحتل ابنها مركزاً مرموقاً وكانت على استعداد لبذل أي شيء تتطلبه الدراسة، بعد عام سيتوجب عليه الاختيار بين أن يصبح عاملاً ماهراً أو أن يلتحق بالدراسة الثانوية واللغات، أرادت باربرا أن ترتقي بابنها وترتقي معه، يجب ألا تضيع التضحيات التي بذلتها هباء.كان يعاودها أحياناً التفكير في بيتر فيندلن، لازالت محتفظة ببطاقته المصفرة، التي دسها في باب غرفته، وكذا الورود التي أحضرها عند الوداع حيث حفظتهما في كتاب الإنجيل، لم تكن تصلي إلا نادراً، لكنها كانت أيام الآحاد، تفتح الموضع الذي فيه الورود والبطاقة، وتمضي وقتاً طويلاً في استحضار الذكريات. لم يعد يكفيها دخلها لمواجهة أعباء المعيشة، فاضطرت إلى الاستعانة برأس المال الصغير الناتج عن بيع الورشة، لكن ذلك لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل، لذا أخذت تفتش عن مصادر أخرى، عملت في غسيل الملابس، كانت تخرج في الصباح وتعود عند الظهر حاملة رزمة ثقيلة من الملابس المتسخة، كانت تقضي نصف يوم في حجرة الغسيل، واقفة وسط الأبخرة المتصاعدة، كأن بخار الأوساخ كان يستقر على وجهها، إذ شحب وجهها واصطبغ بلون الحجر الرملي، وتكونت حول العينين تجاعيد على شكل خيوط رفيعة، أدى العمل إلى تغيرات في جسمها، تضخمت يداها وتراخى الجلد متدلياً عند أطراف الأصابع بفعل الماء الساخن، كانت تمشي محنية الظهر، حتى إذ لم يكن معها حمل ثقيل، أثقل العمل كاهلها، لكن عندما كانت تنظر إلى ابنها ينفرج فمها من شبه ابتسامة.ألحقته بالدراسة الثانوية واللغات، كانت سعيدة بذلك، لم يكن التعليم سهلاً، لكن فيليب كان يحفظ كل ما يسمعه وكان يحظى برضى معلميه، شكلت النتائج المدرسية التي كانت تمنح له مناسبات سارة لبابرا، حرصت أثناءها على إدخال السرور إلى قلب ابنها، وترتيب نزهات إضافية تحملت في سبيلها نفقات مؤلمة، لم يكن فيليب يحس بشيء من ذلك، كان غالباً ذاهلاً عما يدور حوله، نادراً ما بكى، وأهدافه كان يسعى إليها بقوة، وأي مهام مطلوب منه تأديتها، كان ينجزها بالاستعانة بقوته الجسدية وكأنه عاكف على تسوية لوح بلوط، كان حقاً ابن أبيه، أما أمه فلم يكن يفهمها، يراها دوماً غارقة في العمل، لكن ذلك كان يبدو له أمراً بديهياً، انعدمت لديه رقة الأحاسيس لذا لم يكن قادراً على إدراك ما تعانيه أمه في أعماقها وما بذلته من تضحيات لأجله.توالت السنون في بخار الغسيل الوسخ، وتسلل عدم الاكتراث تدريجياً إلى نفس باربرا، عناء صامت وانعدام وجود ما يمكن أن يدخل عليها البهجة والسرور، إذا استثنيا ذكرى فيندلن والشهادات المدرسية لفيليب، تدهورت صحتها كثيراً وكان عليها أن تراعيها فيما تقوم به من أعمال، كما اشتدت عليها آلام الظهر، لم تصدر عنها شكوى مما تعانيه، وعند عودتها إلى المنزل لم يكن فيليب المتبلد الأحاسيس يلحظ عليها شيئاً.كان على فيليب أن يواصل مسيرته وأن يختار مهنة، لم يتوفر من النقود ما يكفي لمواصلة الدراسة، ولا وجدت وساطة تعينه على تبوأ مركز لائق، لم يكن يميل إلى أية مهنة بعينها ولا رغب في تخصص بذاته، علم اللاهوت كان المجال الوحيد المريح له أكثر من غيره، وقد توفرت إمكانية لقبوله فيه، امتدت أمامه حياة انطوت على شيء من الدعة والاستقلالية، ارتدى ثوب الرهبان والتحق بتخصص علم اللاهوت، جمع حاجياته الصغيرة ووضعها في حقيبة خشبية صغيرة وانتقل للإقامة في حجرة ضيقة كانت مبعث اعتزازه على طريق المستقبل، رسائله كانت نادرة وجافة كنشارات الخشب، كانت باربرا تقرؤها بمشقة باهتمام كبير، أصبحت ترتاد الكنسية أكثر من ذي قبل ليس من أجل إشباع حاجات روحية، بل لمشاهدة القساوسة وصعود منبر الكنسية متخيلة ابنها يفعل ذلك، ظلت تعمل كثيراً رغم انتفاء الحاجة لذلك، كانت كالساعة التي لا يمكن أن تتوقف طالما ظل ترسها يدور، تواصل تدهور صحتها، وكانت بين فترة وأخرى تلازم الفراش عدة أيام، عانت من آلام مبرحة في الظهر ومن سعال جاف كان يهتز له جسدها النحيل، ثم جاءتها الحمى وجعلتها شبه عاجزة.لازمت الفراش أسبوعاً وأسبوعين جاءت إحدى جاراتها لتعينها على احتمال حالتها أخيراً عزمت على الكتابة لفليب ولعدم قدرتها على الكتابة قامت بإملاء الرسالة قبلت الرسالة خلسة قبل أن تعطيها لمن يتولى إرسالها حضر فيليب بعد ثمانية أيام طوال كان متعافياً لكن وجهه خلا من أية نضارة كان يرتدي ثوب رهبان ازرق اللون وعلى رأسه قلنسوة وضع الفلنسوة بلطف على السرير وقبل يد أمه دون أن يظهر عليه أدنى جزع اخذ في الحديث عن جهوده لنيل إجازة الدكتوراه وابرز الدبلوم العالي الذي حصل عليه واقفاً إثناء ذلك مشدود القامة كأنه عمود وبدأ عليه ثوب الكنيسة والقلنسوة كأنهما كبسولة صفيح استغرق في سرد ما يقوم به من أعمال رغم عدم فهم أمه شيئاً مما يقول غلب على كلامه نبرة مفخمة كأنه كان يتدفق من انفه كما هو شان مدرسيه عندما يتكلمون سمعت أجراس الكنيسة فقام برسم الصليب في الهواء اخرج كتاب الصلاة واخذ يتلو منه هامساً بتركيز شديد ظهر على وجهه.بدت دلائل الاستغراب على باربرا التي كانت مستلقية على السرير لم تتخيل أن تجري الأمور على نحو ما صور ابنها تحدثت عن اشتياقها له ورغبتها في أن تراه ثانية قبل أن يوافيها الأجل . وما أن سمع فيليب كلمة الموت حتى الحديث عن الدار الآخرة وعن الثواب الذي ينتظر الأتقياء في السماء . ولم يبد على صوته أي الم فقط كان ينم عن نوع من الرضى عن النفس وارتياح من القدرة على استعراض ما تعلمه على سرير أمه، التي تشارف على الموت.تملكت الأم المريضة رغبة قوية في إيقاظ ولو قدر يسير من الحب في قلب ابنها، شعرت بأنها المرة الأخيرة التي يطاوعها فيها لسانها على الكلام، أخذت بالحديث عن نفسها، وكان روحاً كان يهمس لها بالكلمات تكلمت ببطء وبتردد عن الحب الوحيد في حياتها وعن التضحيات التي بذلتها في سبيله سكتت في نهاية حديثها انطوى سكوتها على انتظار انتابته رعشة ظل فيليب صامتاً انه فاقد الإحساس بمثل هذه الأشياء ولا يهتز لها كيانه ظل على صمته وهو مشدود القامة متبلد الشعور بدأ يتثاءب خلسة ثم عبر عن رغبته في الخروج قليلاً ليستعيد شيئاً من نشاطه.بقيت باربرا على فراشها وهي غير قادرة على فهم ما يدور حولها سيطر عليها شعور بألم وحسرة عميقة على العمر الضائع فكرت في بيتر فيندلن وصدرت عنها ضحكة فاترة حتى في ساعة موتها يعاودها شعور بالدفء من وهج عينيه. اهتز جسدها لنوبة سعال عنيف وعندما زال بقيت فاقدة الوعي.عاد فيليب وعندما رآها على تلك الحالة اخذ يصلي وهو في حالة تشنج أرسل في طلب الطبيب والقسيس فحضرا . امتلأت الغرفة بالجارات واشتد بكاؤهن في أثناء ذلك دون أن يلحظ احد انسلت روح باربرا من جسدها متهادية إلى عالم الخلود.
|
فنون
بــــــــــاربــــــــــــــــرا
أخبار متعلقة