أحمد الحبيشي كانت الثقافة الوطنية اليمنية ـ وما زالت ـ فاعلاً رئيسياً في مجرى تطوير الفكر السياسي منذ بدايات الانبعاث الوطني العام وحتى الخمسينات ، حيث شهدت بلادنا ميلاد تيارات فكرية معاصرة تطورت على أساسها الحركة الوطنية اليمنية ، ودخلت تحت تأثيرها طوراً جديداً تمثل بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962 م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الاستقلال الوطني 1967 م ، وظهور دولتين شطريتين اقتسمتا الهوية الوطنية اليمنية في ظروف معقدة ، وصولاً الى قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 م الذي انهى التشطير وأعاد للوطن اليمني المجزأ وجهه الشرعي الواحد ، في سياق أول عملية تاريخية معاصرة للتحول نحو الديمقراطية التعددية في اليمن .على تربة الدور الوظيفي للثقافة الوطنية الجديدة شهدت اليمن بدايات استيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات … وعلى خلفية البعد الثقافي للحراك السياسي في المجتمع كان العمل الوطني ينمو ويتطور .. وحين قامت ثورة 1948 م الدستورية لتعبر عن آمال وأشواق شعبنا الى الحرية والانعتاق من الاستبداد والخروج من أنفاق التخلف والعزلة والظلام ، كان علماء الدين والمفكرون والأدباء هم قادتها وشهداؤها .ولئن كان ما تقدم هو حال المجال السياسي للحركة الوطنية في صنعاء وتعز وحجة والحديدة، فقد كان الحال كذلك ـ أيضا - في عدن ولحج وحضرموت حيث كان المفكرون والمثقفون والكتاب والأدباء والصحافيون والفنانون يجسدون الوحدة العضوية بين الثقافة والسياسة ، ويحملون رايات الكفاح الوطني ضد الاستعمار والتجزئة ، ويرفعون شعارات الحرية والاستقلال والوحدة .مما له دلالة عميقة أن الرعيل الأول من قادة الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ـ شمالاً وجنوباً ـ كانوا من المفكرين وعلماء الدين والكتاب والأدباء والصحافيين وخريجي الجامعات العربية والأجنبية ، الأمر الذي يشير بوضوح الى البعد الثقافي لمشروع التغيير .في الاتجاه نفسه كان الرواد الأوائل لثورة 26 سبتمبر 1962 م - أيضاً - من طلاب وخريجي المدارس العسكرية في صنعاء ، وخريجي الكليات الحربية في مصر والعراق ، الذين قامت على أكتافهم بعض الإصلاحات التي اضطر النظام الإمامي الى تنفيذها في الجيش ، بعد أن أكدت حروبه مع الجيران والبريطانيين ضرورة الشروع في بناء وتحديث الجيش والنظام التعليمي .. بيد أن هؤلاء الثوار لم يوظفوا معارفهم العسكرية والعلمية التي اكتسبوها من أجل خدمة النظام الأمامي الاستبدادي ، بل وظفوها لتخليص الوطن من ظلمه وظلامه ، وايقاد شعلة الحرية في ربوعه .[c1]حدثان ومنعطف[/c]صحيح أن عملية الانبعاث الوطني العام تطورت عبر مسيرة طويلة ومعقدة، ثم وصلت ذروتها بقيام الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر ـ 14 أكتوبر).لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان الحركة الوطنية اليمنية التي قادت هذه العملية التاريخية ، واجهت في أحد منعطفاتها الخطيرة حدثين متزامنين كان لهما تأثير سلبي على المسار اللاحق للثورة اليمنية .في الخامس من نوفمبر 1967 م وقع في صنعاء انقلاب عسكري من داخل الصف الجمهوري الذي فجر ثورة 26 سبتمبر ودافع عنها ، وتسبب ذلك الانقلاب في إحداث شرخ غائر في المجتمع ، أسفر عن عدد لا يحصى من التناقضات والعمليات السلبية التي عرقلت تقدم مسيرة الثورة اليمنية صوب استكمال أهدافها الوطنية . كانت عدن أثناء حدوث ذلك الانقلاب ، تشهد حرباً أهلية دامية منذ الثالث من نوفمبر 1967م بين فصائل ثورة 14 اكتوبر بمشاركة واسعة وحاسمة من جيش اتحاد الجنوب العربي الذي قاتل إلى جانب الجبهة القومية ضد جبهة التحرير والتنظيم الشعبي للقوى الثورية ، وانتهت تلك الحرب في السادس من نوفمبر 1967م بحدوث شرخ وطني عميق في جسم المجتمع ، تمهيداً لانفراد الجبهة القومية بالسلطة وإقصاء الفصائل الوطنية الأخرى التي شاركت في الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني ، وصولاً إلى ظهور دولة شطرية ذات شرعية دولية في جنوب الوطن الذي كان بدوره مجزأ إلى 22 سلطنة وإمارة وولاية . ثمة من يرى أن القوى المعادية للثورة والجمهورية راهنت على الاستفادة من تداعيات ذلك الانقلاب، حيث شنت هجوماً متعدد المحاور على العاصمة صنعاء في أواخر نوفمبر 1967 اسفر عن محاصرتها لمدة سبعين يوماً . والثابت أن ذلك الحصار أكد ضرورة استعادة وحدة قوى الثورة اليمنية والدفاع عن الجمهورية المهددة بسقوط عاصمتها وبفضل تلك الوحدة تحقق الانتصار الحاسم الذي أجترحه الجمهوريون من مختلف التيارات السياسية والفكرية ، وشاركت فيه فصائل ثورة 14 أكتوبر التي انهزمت في الحرب الأهلية وانسحبت إلى الشمال ، ولم تمنعها جراحها النازفة من القيام بواجب المشاركة في الدفاع عن صنعاء . بيد أن تداعيات انقلاب نوفمبر العسكري في صنعاء وحرب نوفمبر الأهلية في عدن القت بظلالها الثقيلة على الحياة السياسية بعد كسر الحصار وإلحاق الهزيمة بالقوى المعادية للثورة والجمهورية، حيث بزرت إلى السطح استقطابات داخلية حادة على خلفية وجود دولتين في وطن واحد . ولاريب في أن تلك الاستقطابات الحادة مهـدت لوقوع أحداث أغسطس الدامية والمؤسفة بعد فك الحصار عن صنعاء بستة شهور بين قادة بعض الوحدات العسكرية التي شاركت في ملحمة السبعين يوماً .. وقد ألحقت تلك الأحداث أضراراً كبيرة بوحدة العمل الوطني الثوري ، في ظروف إنقسام الوطن إلى دولتين تعلنان انتماءهما الشرعي للثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 اكتوبر ) ، فيما تكرسان على الأرض أوضاعاً لا تاريخية ، وتؤسسان في اللاوعي ثقافة سياسية مشوهة .دشنت تلك الظواهر والأحداث بداية مرحلة جديدة من العلاقات القائمة على التناقض والتنافر بين أول دولتين يمنيتين في التاريخ الوطني المعاصر للشعب اليمني ، ولم يخل هذا التناقض من حالات الاحتراب والتصادم ، وتبادل الحملات الإعلامية وتنظيم وتسليح المعارضات المتبادلة بصورة متفاوتة ، وصولاً إلى تحويل اليمن بشطريه إلى ساحة مفتوحة للاستقطابات الدولية والحرب الباردة بين القوى الكبرى ، الأمر الذي زاد من حجم الأخطار التي تهدد سيادة الوطن واستقلاله ووحدته ومسيرته الثورية عموما . ويندرج ضمن تلك الأخطار ظهور بعض المفاهيم اليمينية واليسارية الخاطئة التي أنكرت واحدية الثورة اليمنية ، وزعمت بوجود مسارين متوازيين ومتناقضين لكل من ثورتي 26 سبتمبر و 14 اكتوبر. على الصعيد نفسه لم تخل العلاقات بين الدولتين الشطريتين في اليمن من الميول الموضوعية نحو الوحدة ، ففي كل مرحلة من مراحل تسعير المواجهـات السياسية والإعلامية بين الشطرين كانت الحرب هي المحصلة النهائية ، غير أنها سرعان ما كانت تنتهي بالتوقيع على اتفاقيات وحدوية تعرضت لاختبارات صعبة في مجرى التنفيذ . وتبعاً لذلك نشأت معادلة خطيرة في حياة الشعب اليمني لم تستطع الدولتان الشطريتان تجاهلها ، ولم تستطع أيضاً معالجة تناقضاتها وتداعياتها بصورة جذرية ، حيث شكل استمرار التجزئة بؤرة خطيرة للتصادم وعدم الاستقرار والحروب التي تغذيها فواعل داخلية وخارجية تندرج في إطار استقطابات الحرب الباردة عربياً ودولياً . [c1]تبعية المجال السياسي للمجال الإيديولوجي[/c]هكذا شهدت بلادنا أول ظاهرة سياسية معاصرة في تاريخ اليمن الحديث، تمثلت في التزاوج الذي حصل بين المجال السياسي والمجال الإيديولوجي في إطار ثقافة سياسية شمولية تحولت إلى محدد رئيس للتعاطي مع موضوعة مشابهة لظاهرة أخرى في تاريخ اليمن الوسيط ، حين كان للثقافة الدينية المتزاوجة مع الايديولوجيا الطائفية المذهبية دور هام في نشوء أول دولة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون من جهة ، وتكريس التناقضات الداخلية في إطار هذه الدولة المستقلة والتي وصلت ذروتها إلى التشرذم في هيئة كيانات ودويلات داخلية من جهة أخرى . فقد نجح الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي في الوصول إلى اليمن تلبية لدعوة من زعماء القبائل اليمنية المتناحرة على الحكم ، بهدف إيقاف الحروب الداخلية ، وتمكن من إقامة نظـام حكم مستقل ذاتياً عن الخلافة العباسية عام 819م ، وذلك بعد أن أضاف إلى المذهب الزيدي مبدأً يحصر الحكم بموجبه على سلالة البطنين العلوية الهاشمية ، ثم بدأ الدعوة إلى مذهب الإمام زيد بن علي في مدينة صعدة بشمال اليمن ، حيث أسس هناك الدولة الزيدية الهادوية التي انتقلت فيما بعد إلى مدينة صنعاء ( 1 ) . اجمعت الدراسات التاريخية المتوفرة حتى الآن ، على أن دولةً عقائديةً من هذا الطراز لم تستطع تحقيق وحدة اليمن وحمايتها ، كما لم تستطع في الوقت نفسه الحفاظ على استقراره الداخلي ، وذلك بسبب منحاها الايديولوجي المذهبي الذي سعى إلى تشكيل الوعي الديني وتوظيفه كإيديولوجيا لنظام الحكم ، وهو المنحى الذي ميز التطور التاريخي اللاحق لمختلف الدويلات اليمنية التي نشأت فيما بعد على أسس مذهبية وعقائدية. إلى هذا المنحى يعيد بعض المؤرخين ما ساد اليمن من ظواهر التمزق والصراعات المذهبية والقبلية التي أسفرت عن نشوء عدد من الدويلات اليمنية القائمة على الاستقطابات المذهبية الدينية ، والنزعات المناطقية والقبلية ، كان القاسم المشترك بينها يتمثل في استغلال الوعي الديني واستخدامه كايديولوجيا تبريرية للحصول على الشرعية ، ما أدى إلى أن « يصطبغ تاريخ اليمن خلال تلك الحقبة بصبغة دموية قانية « ( 2). عجزت تلك الدويلات والكيانات الإقطاعية عن التوسع واخضاع الكثير من المناطق اليمنية ، ولم تتمكن من الوصول إلى حضرموت شرقاً ، وإلى عدن وأبين جنوباً ، وإلى حدود نجد شمالاً ، باستثناء دولة الصليحيين التي اسسها علي بن محمد الصليحي عام 1047م ، وجعل من مدينة « جبلة » عاصمة لها بعد ان نجح في إقامة دولة مركزية واحدة لليمن بأسره من أقصاه إلى أقصاه ( 3 ) . وكما هو معروف فإن هذه الدولة اليمنية الموحدة استمرت بعد موت مؤسسها عام 1066 م حيث تولى قيادتها من بعده نجله المتزوج من السيدة أروى بنت أحمد التي أصبحت أول ملكة يمنية في التاريخ الميلادي الوسيط ، بعد أن أشركها زوجها في حكم البلاد بسبب ما كانت تتمتع به من علم بأصول الدين، وقوة في الشخصية ، وانفتاح على مختلف الفرق والمدراس الكلامية والمذاهب الفقهية . شهدت اليمن في ظل الدولة الموحدة استقراراً سياسياً ساعد على تحقق تقدم ملموس في المجالات العلمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأحياء التقاليد السياسية التاريخية القديمة للمجتمع اليمني، وخاصة تلك التي تتعلق بالشورى والزراعة وتنظيم الري والتجارة والحرف المهنية .. كما انتعشت في البلاد حركة فكرية وثقافية ، تجسدت بظهور تيارات فكرية للفرق الإسلامية المختلفة وإبرزها المعتزلة ، حيث أمكن لليمن بفضل تنوع وتعدد هذه التيارات الفكرية أن يسهم بدور فعال في إغناء الفكر الإسلامي والثقافة العربية . وقد استمرت هذه الدولة الموحدة إلى أن توفـيت الملكة أروى بنت أحمد عام 1138 م ، حيث خلفها في الحكم نهج منغلق تسبـب في تفكُك أوصال المجتمع اليمني ، ودخوله نفق الانقطاع الحضاري نتيجة لإحياء الصراعات المذهبية التي كانت تشكل محتوى الدويلات اليمنية غير الموحدة ، وتستمد مقومات وجودها من نزعات التشدد والتعصب والظلم والتعسف التي أصابت الشعوب العربية بعد انتقال مركز الدولة الإسلامية إلى الأتراك العثمانيين ، وما ترتب على ذلك من تمزق المجتمع العربي وتـفـاقم الركود الاقتصادي والثقافي ، ووقوع أجزاء عديدة من البلاد العربية تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية في وقت لاحق . في هذا السياق ، وخلال قرون متلاحقة شهدت بلادنا قيام دويلات مذهبية وآخرها المملكة المتوكلية في مطلع القرن العشرين ، والتي تأسست في ظروف تاريخية نوعية برزفيها دور العامل الوطني الممزوج بالعامل المذهبي على أثر تـزايد مخاطر التهديدات الاستعمارية الأوروبية من ناحية، واحتدام الصراع على الإمامة بين أكثر من إمام أدعى لنفسه الأصالة العقائدية و نزاهة المقصد من ناحية اخرى ، إلى أن تمت مبايعة يحيى بن محمد حميد الدين إماماً على اليمن بلقب المنصور بالله المتوكل عام 1917، بعد نجاحه في مقاومة الأتراك وتوقيع صلح دعان مع دفع الزكاة والخراج والدعاء للخليفة في خطب الجمعة بمساجد اليمن ، وصولاً إلى تأسيس المملكة المتوكلية اليمنية التي استمرت حتى يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962 . والثابت أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن كهمزة وصل بين بلدان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي ، جعله في العصر الحديث هدفاً لحملات التوسع والإحتلال من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية الكبرى مثل البرتغال وهولندا وايطاليا وتركيا وبريطانيا ، حيث نجحت الأخيرة في الانفراد باحتلال عدن عام 1839م ، والاحتفاظ بها لفترة طويلة فرضت خلالها هيمنتها الكاملة على باقي أجزاء الجنوب اليمني التي كانت خارج السيطرة المباشرة لدولة الخلافة العثمانية والدولة القاسمية في آن واحد ، وفي هذا الاتجاه استكمل الاستعمار البريطاني احتلاله للجنوب بتوقيع معاهدات صداقة وحماية مع السلاطين وحكام الامارات والمشيخات المجزأة ، والتي أصبحت بموجب تلك المعاهدات محميات بريطانية . أسهم هذا الوضع في ولادة شعور وطني بالأخطار التي تهدد السيادة الوطنية والمصير الوطني ، وأفسح الطريق أمام بروز الإرهاصات الأولى للقضية الوطنية في ظل وضع متميز بالتخلف الشديد والعزلة الخانقة والانقطاع الحضاري ، غير أن طموح حكام بعض المناطق اليمنية في تكريس سلطتهم على الكيانات التي كانوا يحكمونها ، وبناء دويلاتهم الإنعزالية فيها ، أدى إلى تمكين القوى الاستعمارية من استغلال الخلافات المذهبية و النزعات القبلية، وتأجيجها باتجاه تحويلها إلى صراعات طائفية ومناطقية تضعف وحدة المجتمع من جهة ، وتمهد لطمس الهوية اليمنية من جهة أخرى . في هذا السياق سعت القوى الاستعمارية الى تغذية طموح بعض الزعامات المحلية لإقامة دويلات مستقلة على نحو ما حدث عند ما تحالف الإمام محمد على الأدريسي مع الاستعمار الإيطالي الذي كان ينظر إلى تهامة كمجال حيوي للمستعمرة الإيطالية « إريتريا » ، وفيما بعد عندما تحالف الإدريسي مع الاستعمار البريطاني الذي احتل ميناء الحديدة وسلمها له عام 1921م ، بعد توقيع معاهدة حماية وصداقة معه بهدف توسيع المجال الجغرافي للدويلة الإدريسية ، والحيلولة دون قيام دولة مركزية موحدة على الأرض اليمنية التي كانت تابعة للدولة العثمانية . بيد أن حكم آل حميد الدين نجح في تصفية الدولة الإدريسية من تهامة والحديدة ، وفي وقت لاحق من حرض ، وحصرها داخل عسير ، وهو عمل تاريخي أسهم في توسيع نطاق الجغرافيا السياسية للدولة اليمنية ، وكان له تأثير هام على اهتمام نظام آل حميد الدين بعد ذلك بجنوب اليمن . والحال أن العملية الوطنية التاريخية التي بدأها شعبنا اليمني منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر ، سارت في اتجاه ثابت استهدف القضاء على الحكم التركي في المناطق الشمالية من اليمن ، ودرء مخاطر الوجود الاستعماري البريطاني بأفق التطلع إلى بناء دولة مركزية موحدة . وعلى أساس هذا الاتجاه تطورت هذه العملية ابتداءً من ثلاثينات القرن العشرين ، وشكلت المحتوى الرئيـسي للحركة الوطنية الشعبية المعاصرة في اليمن ، والتي وصلت ذروتها في الخمسينات والستينات ، وتوجت بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963 ، وتحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967 ، وميلاد الدولتين الوطنيتين اللتين اقتسمتا الوطن حتى الثاني والعشرين من مايو 1990م . [c1]الهوية في أزمنة متغيرة [/c]لا نقصد من خلال ما تقدم اجراء مقارنة مفتعلة بين دور الإيديولوجيا الدينية في عملية تشكيل الدولة اليمنية أواخر القرن الميلادي الأول ، وتأجيج المنازعات الدموية في الساحة اليمنية ، وتعريضها لخطر التدخل الخارجي من جهة ، وبين دور الأيديولوجيا اليمينية واليسارية في التعامل مع إشكاليات الإجابة على سؤال الوحدة اليمنية في أواخر القرن العشرين الميلادي من جهة أخرى . إن هدفنا من الإشارة إلى هذا الدور هو مقاربة إشكاليات المجال السياسي والمجال الأيديولوجي في مختلف مراحل تاريخ المجتمع اليمني ، ودراسة تأثيرها علىالوحدة الوطنية ، خاصة عندما يؤدي توظيف الأيديولوجيا لتبرير الإوضاع السائدة وإعادة إنتاجها إلى ردود فعل عنيفة ، على نحو ما حصل في العصور الوسطى عند ظهور حركات تمرد ، انتهت بتأسيس دويلات يمنية في الأطراف ، بعيداً عن السلطة المركزية ، أو في أحسن الأحوال بقيام حركات تبشر بتأسيس دولة مركزية جديدة على غرار ما حدث في الدولة الرسولية و الدولة الهادورية والدولة الصليحية ، وصولاً إلى الدولة القاسمية التي سبقت الدولة المتوكلية . يقيناً أن هذه المقارنة التاريخية ضرورية لنقد التبسيطات والتعميمات الساذجة التي روجت لها الأيديولوجيا اليمينية واليسارية ، في السبعينات والثمانينات على نحو كان الوطن يبدو فيه وكأنه موزع بين متاريس وخنادق إيديولوجية وسياسية لا تحتمل التعايش إلا بسياجات عازلة وفاصلة ، وغير ذلك من التعميمات التي أسقطت مفاهيم مستخلصة من سياقات ثقافية وتاريخية معينة ، على واقع آخر لم يتعرض بعد للتحليل الشامل ، ولم يمتلك الأدوات المعرفية اللازمة لممارسة هذا التحليل على أساس المنهج النقدي العلمي . من نافل القول أن سؤال الوحدة اليمنية هو سؤال معاصر بامتياز ، إذْ ارتبط باشكاليات الهوية الوطنية في العصر الحديث ، بما هو عصر الرأسمالية كأداة للسيطرة على الأسواق وطرق الملاحة الدولية ، وما ترتب على ذلك من صراع على النفوذ والمصالح القوية بين الدول الاستعمارية من جهة ، وصراع بين هذه الدول وحركات التحرر الوطني من جهة أخرى . بمعنى أن الهوية الوطنية لم تكن مـحركاً لاحداث التاريخ الإسلامي وصراعاته الداخلية في عصر اقتصاد الخراج ، حيث كانت الهوية الإسلامية تجمع المسلمين في دولة الخلافة ، فيما كان الصراع على السلطة والثروة هو المحرك الرئيسي للصراع على النفوذ والحروب الداخلية بين الإقطاعيين وملاك الأراضي ، والتي أسفرت عن نشوء دول ملوك الطوائف والعشائر على أطراف دولة الخلافة الاسـلامية من المغرب العربي غرباً إلى مصر والشام شمالاً ، ومن اليمن جنوباً إلى بلاد فارس وماوراء النهرين شرقاً . كانت تلك الدول والممالك المستقلة عن مركز الخلافة الإسلامية تؤسس شرعيتها على معادلة الدين والأيديولوجيا ، فهي من ناحية تتقاسم الهوية الاسلامية والإيمان بالدين الإسلامي مع مركز دولة الخلافة وبقية دول ملوك الطوائف والعشائر ، فيما تستخدم - من ناحية أخرى - إيديولوجيا دينية مذهبية لإضفاء الشرعية والتميـُز على استقلالها !!تأسيساً على ذلك ، يمكن القول أن بروز ظاهرة الإيديولوجيا في سؤال الوحدة اليمنية المعاصر ، يرجع إلى وجود دولتين مستقلتين تقاسمتا الهوية اليمنية منذ أواخر الستينات غداة استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الثلاثين من نوفمبر 1967 حتى 22 مايو 1990 م . وقد ارتبط ظهور تلك الدولتين بدخول اليمن مرحلة خطيرة من الاستقطابات الإيديولوجية الحادة ، والصراعات السياسية المتواصلة ، والحروب الأهلية الدامية ، و صولاً الىالمواجهات المسلحة بين الشطرين ، الأمر الذي الحق ضرراً جسيماً بالمصالح الوطنية العليا للشعب اليمني ، وأفسح المجال لقيام كل من الدولتين بـتـقـنـين عدد من الإجراءات والضوابط والقيود التي تمس الحريات العامة والحقوق المدنية للمواطنين ، وتصادر حرية تنقل الأفراد والمنتجات الوطنية والمطبوعات والصحف والمجلات والكتب اليمنية بين الشطرين ، فيما جرى بصورة متبادلة إحاطة تلك الأوضاع الشاذة بمناخ متوتر اتسم بالنزوع الى إضفاء الطابع الإيديولوجي الصرف على التمايزات الشطرية . في هذا السياق ظهرت تصورات دوغمائية وغير واقعية لتحقيق الوحدة من مواقع التفكير القديم ، واشتركت هذه التصورات والمفاهيم في إنتاج ثقافة سياسية مشوهة زعمت بوجود نظامين اجتماعيين متمايزين ومتوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما ، ونشرت الأوهام حول ضرورة العمل من أجل إنضاج الشروط التي تمكن كل نظام من نفي الأخر وإلغائه . لم يكن هذا التفكير الذي عمل على تعريف الوحدة بواسطة نفيها حكراً على شطر دون الآخر ، بل أنه كان سمة مشتركة للتفكير السياسي القديم في كل من الشطرين إزاء قضية وحدة الوطن . صحيح أن كلاً من الكيانين - الدولتين - قام بتصميم منظومة من الأدوات والمخططات التنظيمية والسياسية والاقتصادية اللازمة لبلوغ هذا الهدف بشكل منفرد ، لكنهما لم يسلما معاً من مثالب نزعات الاحتكار والإلغاء والإقصاء ، وربما كانت تلك الأزمة تندرج ضمن إشكاليات أساليب التلقين الذي عانى منه - طويلاً - وعينا الإيديولوجي من جراء تعطيل أو تسطيح دور العقل كأداة للتفكير . قطعاً كان هناك ما يشبه الفراغ الثقافي الذي كرسته عوامل عديدة من بينها ضعف مستوى تطور الثقافة الوطنية والإنتاج الثقافي في اليمن ، بالإضافة إلى ما كانت تعانيه الثقافة العربية عموماً في السبعينات من تشوهات واختلالات .. ولعل ذلك الوضع كان سبباً في أن يكون التفكير مغترباً عن تربته الثقافية وإشكالياتها ، ومفتقراً إلى مرجعيته المعرفية التي لا يمكن أن تتوفر إلا على خلفية من الثقافة الرفيعة ، فيما كانت النتيجة الموضوعية لكل ذلك ، تكريس إغتراب محتوى التفكير عن الحياة الواقعية ، وحصره في دائرة التأملات والأحلام والأوهام الإيديولوجية المجردة ، والنزوع الى الإنفراد والإلغاء والتجريبية وتعسـُف الحقائق ، وما ترتب على ذلك من تناقضات ومواجهات ومصـادمات دورية طالت الأمن والاستقرار في الشطرين معاً ، وفي كل منهما على حدة أيضاً .. فقد عانى الشطر الجنوبي من الصراعات الداخلية على السلطة حتى منتصف الثمانينات ، فيما عاني الشطر الشمالي من صراعات مماثلة حتى مطلع الثمانينات . وبين هذا وذاك .. تدفقت المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية المتناظرة والمتناقضة ، لتؤسـِس وعياً مشوهاً يفتقر إلى شروط المعرفة المعاصرة لواقع التجزئة في الظـروف الوطنية والعالمية الجديدة والمتغيرة ، ويتجاهل تحت ضغط سلطة التجزئة والصراع الداخلي على السلطة ضرورة إغناء وتطوير شروط المعرفة لسؤال الوحدة اليمينة الذي صاغه الخطاب السياسي الوحدوي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، وكان له دور هام في تشكيل الوعي الوطني المعاصر للشعب اليمني سواء في مرحلة استيقاظه الأولى، أو في مرحلة نهوضه وتبلوره بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر و 14. كان تعاطي هذه الأنماط من المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية يتم في ظل نقص حاد لأدوات التحليل المعرفي ، الأمر الذي جعل التأثير السلبي لهذا التعاطي غير محصور في حدود تسطيح الوعي النظري ، بل امتد ليشمل تراكماً طويلاً من العمليات السلبية على مستوى الوعي ، تمخضت عنها ولادة مشوهة لفكر سياسي ينطوي على أزمة عقل وأزمة ثقافة في آن واحد عند الإجابة على سؤال الوحدة اليمنية.إن قولنا بوجود أزمة عقل .. وأزمة ثقافة في الحياة الفكرية والسياسية التي شهدت تعاطي تلك المفاهيم والتصورات والشعارات ينطلق من الفرضية التي تقول بأن للفكر جانبين .. أولهما أن الفكر محتوى ، وثانيهما أنه أيضاً أداة ، بمعنى أنه عقل يقوم بانتاج المفاهيم والتصورات ومختلف أشكال التفكير والوعي . أما المعادل الموضوعي الذي يربط بين جانبي الفكر ، فهو البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها ، لأن عملية التفكير تتم داخل ثقافة سياسية معينة وبواسطتها .. أي التفكير بواسطة مرجع معرفي من أبرز محدداته موقف الإنسان في المجتمع ونظرته إلى العالم ورؤيته للمستقبل !! . يقيناً ان تزامن ظهور الدولتين الشطريتين السابقتين مع دخول سؤال الوحدة اليمنية دائرة «أوهام الآيديولوجيا » لم يؤد فقط الى محاصرة هذا السؤال وتكبيله بقيود الآيديولوجيا ، بل أدى إلى إفراغ سؤال الوحدة من أي مضمون تاريخي معاصر على الرغم مما قد يتصوره البعض ظاهرياً.. لأن سؤال الوحدة دخل على يد الآيديولوجيا مأزقه المحتوم في كل من الدولتين الشطريتين حيث ساد الاعتقاد بأن الحقيقة يحتكرها كل منهما منفرداً ، وينفيها كل منهما عن الآخر منفرداً أيضاً! هكذا تولى الخطاب السياسي والآيديولوجي القديم أواخر الستينات وخلال السبعينات والثمانينات وظيفة تبرير وجود نظامين اجتماعيين متمايزين ، أو تبرير وجود نظام يجد هويته في الدين مقابل نظام يجد هويته في الطبقة الاجتماعية التي يدافع عن قضيتها بحسب ذلك الخطاب !!وهكذا أيضاً كانت التجزئة تقوم بتعريف الوحدة وتعريف شروط قيامها .. كما أصبحت التجزئة أيضاً هي التي تقوم بتوظيف المفهوم الآيديولوجي للوحدة بهدف خلق نقيضه ، أي تبرير وتكريس الدولة الشطرية .. بيد أن ذلك الخطاب لم يكن قادراً على إعادة تعريف الثقافة الوطنية التي شكلت رافعاً قوياً للخطاب السياسي الوطني الشعبي الوحدوي في مواجهة هيمنة الآيديولوجيا على الإجابة التي يتطلبها سؤال الوحدة ! [c1]سؤال الوحدة ومأزق الآيديولوجيا[/c]انطوى الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين على قدر كبير من التبسيط والدوغمائية على نحو ما تجسد في بعض الأطروحات السياسية والنظرية بصدد الوحدة اليمنية وسبل تحقيقها خلال السبعينات والثمانينات .. وقد استند جزء كبير من هذه الأطروحات إلى قاعدة من التصورات النظرية التي تم نقلها من مراجع خارجية وإسقاطها بصورة تعسفية على الواقع اليمني . ولا نبالغ حين نقول إن المجتمع اليمني شهد منذ ظهور الدولتين الشطريتين نوعاً من الاستقطابات الآيديولوجية المحمومة ، ما أدى إلى كبح تطور العملية الثورية المعاصرة التي مرت بمخاض عسير وغير طبيعي ، نتجت عنه تشوهات واختلالات في الوعي السياسي لأقسام واسعة من الناس بسبب الإستقطابات الآيديولوجية التي اشتركت - برغم تنافرها - في موضوعة واحدة ترى بأن الوحدة اليمنية لا يمكن تحقيقها بين نظامين متمايزين بدون اسقاط أحدهما وتعميم النموذج الآخر !الحقت تلك الاستقطابات اضراراً كبيرة بمسار العملية الثورية المعاصرة في اليمن ، حيث انتعشت النزعات المعادية للديمقراطية والحداثة تحت تأثير البنى التقليدية الداخلية والتدخلات الخارجية ، وشكلت الدعوة الى الأصولية السلفية بيئة مثالية لمعاداة الديمقراطية والحداثة ، ومصادرة الدور النقدي للعقل ، ومحاصرة منابع التنوع الفكري في المجتمع تحت شعار محاربة الأفكار المستوردة . في الاتجاه نفسه تم تمزيق أوصال الفكر الاجتماعي الجديد ، وسد المنابع التي تساعد على إثرائه وتنويعه تحت شعار محاربة الأفكار البرجوازية والرجعية ، وصولاً التي تنميط الوعي الإيديولوجي و تعليب الممارسة السياسية في قوالب جاهزة ، ما أدى الى فرض الوصاية على العقل ومصادرة الحرية والادعاء بامتلاك الحقيقة واحتكار ميراث الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، وإلغاء التعدد والتنوع في الحياة السياسية والفكرية . هكذا برزت التصورات الرافضة للمغايرة كشرط للوحدة التي تراوحت مفاهيمها الآيديولوجية بين الدولة ذات التوجه الديني والدولة ذات التوجه الاشتراكي ، فيما كان الواقع الإجتماعي بخصائصه الوطنية والتاريخية غائباً وضائعاً بين هذه المفاهيم التي لم تجد مرجعها المعرفي فيه . نقول ذلك لأن انغلاق هذه المفاهيم على ذاتها أدى إلى دخولها بشكل دائم وثابت في حالة صدام ليس فيما بينها كما يبدو من ظاهر الأحداث التي شهدتها الساحة اليمنية ، بل إلى دخولها بشكل مشترك في صدام موضوعي مع الواقع من جهة ، ومع الميول الموضوعية لتطور الحياة والعالم من جهة أخرى . ما من شك في أن مفاعيل البنية التقليدية أسهمت بقدر لا يستهان به من آليات الكبح المعيقة للتغيير، بيد أن أقساماً لا يستهان بها من النخب الجديدة وقعت في مستنقع النزاعات الذاتية التي جعلت من السلطة هدفاً لها ، حيث سعت إلى البحث عن صيغ جاهزة للتنمية الشطرية المنغلقة وغير المتكاملة ، ثم عملت على تحصين تلك الصيغ بسياج كثيف من آليات الدولة التقليدية التي جرى بناؤها وتنميطها عن طريق الاستعانة بخبرات بعض الدول التي تعرضت للتشطير بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية وأجواء الحرب الباردة التي تلتها . استغرقت الدولتان الشطريتان زمناً ليس هيناً في إعادة انتاج مكوناتها الموروثة عن العهود السابقة لتطور العملية الثورية المعاصرة التي جاءت كنفي تاريخي ومعرفي لتلك العهود وثورة على مخلفاتها.. وبتأثير تراكم ذلك الاستغراق المنغلق على الذات الشطرية برزت هوة سحيقة بين الدولتين كأجهزة ومنظومات من جهة ، وبين المجتمع بوصفه كياناً بشرياً ينمو ويتجدد في سياق عملية ثورية تاريخية من جهة أخرى ، الأمر الذي أدى إلى عجز كل من الدولتين الشطريتين عن تلبية وتجديد احتياجات المجتمع اليمني . ولئن كانت انجازات علم الاجتماع المعاصر ترى في أن قيام كيان معين لا بد أن يخلق قوى تتلاءم معه ، ويخلق تبعاً لذلك تأقلماً إيديولوجياً محدوداً بفعل قوة العادة التي تجعل الجيل الناشئ في ظل المناخ الخاص للإيديولوجيا متسماً بروح الانتساب إلى ذلك الكيان الذي نشأ فيه ، ومنضبطاً في توجيه سلوكه اليومي للتعامل مع منظوماته وأجهزته، فإن تناقض الكيانين الشطريين قبل الوحدة مع اتجاه تطور العملية الثورية المعاصرة للشعب اليمني فرض عليهما السير في اتجاهين : موضعي ومطلق .. الإيمان بضرورة الوحدة من جهة ، وتكريس التشطير بصيع آيديولوجية من جهة أخرى .. وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على مأزق وتخلـف الجهـاز المفـاهيمي للآيديولوجـيـا الـتي استمــد منها كل كيان ـ على حدة ـ شرعية تبرير وجوده ، وإفتعال العوائق لتأجيل الدمج الموضوعي للكيانين الشطريين في دولة وطنية واحدة . لا ريب في أن كلاً من الكيانين الشطريين السابقين برر لنفسه التمسك بعملية الاستغراق في تكريس وتجديد الدولة الشطرية انطلاقاً من الوهم بموضوعة الكيان النموذج الذي سيفرض نفسه بصورة امتداد أو إلحاق عن طريق افضلياته، ولذلك وصلت المحصلة النهائية لحالة الاستغراق في تنمية وتطبيع التشطير إلى مأزقها الموضوعي بحكم لا تاريخية ولا موضوعية تلك الحالة ، لأن الدولة الشطرية استنفدت قدرتها على معالجة أوزار ومخلفات الماضي وإرثه الثقيل ، وباتت عاجزة عن مواكبة الميول الجديدة لتطور العالم المعاصر. [c1]مأزق الدولة أم مأزق الفكر السياسي[/c]استند الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين قبل الوحدة إلى ميراث فكري وطني وقومي كان ينظر إلى التشطير من موقف رافض، ويقوم بتعريفه على أنه من صنع الاستعمار ومخلفات القرون الوسطى ، لكن هذا الخطاب قام بتكريس التشطير وإنتاج جهاز ضخم من المفاهيم الآيديولوجية التي تبرر بقاءه . وبصرف النظر عن ما كان يميز بنية ذلك الخطاب من رؤى متباينة لدولة الوحدة ، افترضت وجود وجهتي تطور متمايزتين ، احداهما تنادي بالتوجه الإسلامي والأخرى بالتوجه الاشتراكي ، فإن ذلك التباين لم يكـن يستند إلى الواقع ، ولم يتجاوز نطاق صراع الإرادات والأوهام الآيديولوجية القابلة للاختبار والتغير في مجتمع يخوض معركة حضارية ضد التخلف والتشطير والبنى التقليدية الموروثة . ثمة مصادر فكرية مشتركة لصراع تلك الإرادات والأوهام وهي أن الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين كان ينتسب إلى الفكر القومي العربي الكلاسيكي الذي كان يربط تحقيق الوحدة العربية بعدد من الشروط ، وبضمنها وحدة أداة الثورة العربية ، وضرورة قيام قوة ثورية إقليمية تتكون من قطر عربي أو أكثر ، وتضطلع بدور مركز الاشعاع والجذب ، وتلعب دور « القاعدة » التي ينطلق منها التغيير الوحدوي الريادي ( 4 ) . وقد تم تحوير المفاهيم المكتسبة من الخطاب القومي العربي الكلاسيكي بعد إكسابها صياغات آيديولوجية جديدة ، وبعد تنميطها في نطاق محلي قطري بل وشطري ، الأمر الذي أدى إلى حدوث تعديل في مضمون الخطاب السياسي الوحدوي بعد ظهور الدولتين الشطريتين في اليمن أواخر الستينات .. وكانت نتيجة ذلك التحوير وصول عملية الاستقطابات الآيديولوجية الصارمة إلى مأزقها ، وتفاقم تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين ، وتكريس التشطير على المستوى الوطني ، وهو المأزق نفسه الذي وصل إليه الخطاب القومي الكلاسيكي . وهنا يتطلب الأمر نقد الوعي الآيديولوجي الذي ساد في حقبة التشطير ، وكرس طائفة من المفاهيم التي خلطت بين عملية التوحيد الوطني كضرورة في سياق مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 أكتوبر ) ، وبين فرضيات الانتقال بهذه العملية إلى الوجهة الاشتراكية أو الوجهة الرأسمالية او تحويلها إلى « قاعدة » لإستعادة دولة الخلافة الاسلامية وفق تصورات نظرية مبسطة لا تمتلك مرجعاً معرفياً لها في الواقع اليمني والسياق التاريخي العالمي .[c1]آليات الأمن الذاتي[/c]تميزت السنوات الأولى للوضع الناشئ والقائم على أساس دولتين شطريتين في اليمن أواخر الستينيات، بحرص كل منهما على تجميع آليات الأمن الذاتي ، وما رافق ذلك ميول لتكوين وعي سياسي تبريري يكرس التشطير من جهة ، ويرفع خطاباً وحدوياً ضده من جهة أخرى ، ولم تخل تلك الفترة من الصدامات المباشرة وغير المباشرة على مستوى الشطرين ، بالإضافة إلى الصدامات الداخلية داخل كل شطر في مجرى الصراع الداخلي على السلطة . عندما استقرت الأوضاع للدولتين الشطريتين ، اتجه كل منهما لإنجاز مهمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية محكوماً بدور وظيفي للدولة ذي تقاليد ضاربة الجذور في أعماق التاريخ ، على النحو الذي أكسب الدولة الشطرية سمات رعوية شرقية . بوسع التحليل الموضوعي لمسار التنمية في كل من الشطرين تسليط الضوء على تناقضات التنمية الشطرية وبالتالي تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي في حقبة التشطير يعود مرجعها إلى ذلك الكم من الأعمال النظرية المشوهة التي تظاهرت بتصوير تلك التناقضات وكأنها انعكاس لاتجاهين متوازيين على صعيد مفاهيم التطور الاقتصادي والاجتماعي . وكان طبيعياً أن يترتب على كل ذلك بروز ظاهرة التخندق خلف متاريس تلك المفاهيم عند بحث إشكاليات ومصاعب تحقيق الوحدة اليمنية آنذاك ، وذلك من خلال تبرير التشطير آيديولوجياً ( 5 ) ، دون أن يكون الوعي الآيديولوجي السائد في الشطرين قد أستقر على مفاهيم معرفية ناضجة ، ناهيك عن كون المرجعية الخارجية لذلك الوعي - بصرف النظر عن تناقض مفاهيمه بين شطر وآخر - لم تكن قد وصلت الى استنتاجات وتعميمات حاسمة ، على نحو ما حدث في النصف الثاني من الثمانينات حين بدأ الجهاز المفاهيمي لكل من علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي يتأزم ويتحلل بسبب تصادمه مع الميول الموضوعية لتطور التاريخ العالمي سواء على مستوى الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي المعاصرين . والثابت أن الدولتين الشطريتين اتجهتا نحو التنمية لتخفيف ضغط التجزئة على أمنهما الذاتي، ساعدتهما في ذلك حاجة موضوعية هي جزء من وظائفها في إطار مفاعيل مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية ، بصرف النظر عن نوع الإرادة السياسية والتصورات الآيديولوجية التي حاول كل من الدولتين الشطريتن توجيه التنمية على ضوئها. كان البحث عن رؤى وأنماط متباينة للتنمية بهدف تبرير التشطير وتأسيسه على وجهتين متمايزتين لكل من الدولتين الشطريتين ، يبدو في بادئ الأمر وكأنه امر سهل ، بيد أنه كان ينطوي على تعسف لمبادئ علم الاقتصاد السياسي للتنمية في البلدان المتخلفة ، وقد تم ذلك التعسف بوضوح عن طريق الإستعانة بنظريات جاهزة ـ لم تكتمل بعد ـ عن التنمية والتطور الانتقالي . بالنسبة للشطر الشمالي أنحصر التوجـه نحو التنـميـة في أوائـل السبعينات ـ وبدوافع سياسية بحتة ـ في أُطر آليات السوق وتسخير جزء من وظائف الدولة لإعادة إنتاج البنى التقليدية لما قبل الدولة الى جانب تنمية القطاع الخاص وتقديم مختلف أشكال الدعم والحماية له .. وفيما بعد تبلورت الحاجة إلى تنويع أشكال الملكية وأنماط الاقتصاد ، وتوجيه التدخل الحكومي لضبط أسعار المواد الأولية ودعم أسعار المواد الغذائية وإطلاق ميكانزمات التعاون الأهلي . كان كل ذلك يتم انطلاقاً من فرضيات ترى بأن التنمية ممكنة إذا توافر لها قدر معين من الطاقة الاستثمارية والعمـالة والإدارة والمشاركة في شئون الحكم ، مع تجاهل تام لأهمية تقويم حجم السوق الداخلية ، ومعايير الفواعل الاقتصادية الخارجية في منطقة تشكو من تبعية طرفية مطلقة ، بالإضافة إلى إغفال معايير توافر الموارد الطبيعية للاقتصاد الوطني والموارد الذاتية لتكوينه الرأسمالي .. وجميع هذه العوامل قادت التنمية في الدولة الشطرية بشمال الوطن إلى مأزق حاد ، ووصلت ذروتها بعد تراجع تحويلات المغتربين على اثر انخفاض اسعار النفط في منتصف الثمانينات . أما على صعيد الشطر الجنوبي فقد سارت التنمية انطلاقاً من منظور ساذج للصراع الطبقي ، جرى بموجبه استبعاد قوى سياسية واجتماعية انطلاقاً من الأوهام التي تؤكد على ضرورة « التقليص التدريجي للعوامل المولدة للعلاقات الرأسمالية على طريق تصفيتها نهائياً »( 6 ) . ولا يحتاج المرء إلى جهد كي يكتشف إن مرجعية ذلك المنظور الساذج تعود إلى الأوهام الآيديولوجية القائلة بـ « حتمية انتقال المجتمعات المتخلفة إلى الاشتراكية مباشرة بواسطة الدعم الخارجي للبروليتاريا الظافرة ، ودون الحاجة للمرور بمرحلة الرأسمالية » ( 7 ) . يمكن القول إن المصدر الأبرز للمأزق الذي أصاب الدولة الشطرية في الجنوب أواخر الثمانينات ، يتمثل في تعريف التخلف بصورة غير واقعية انطلاقاً من ذلك المنظور ... وكان ذلك التعريف يقدم نفسه من خلال برنامج الحزب الاشتراكي كمشروع وطني للتغيير شمالاً وجنوباًَ ، متجاهلاً بعض السمات الجوهرية للتخلف في بلادنا . فالصناعة لم تكن موجودة تقريباً ،فيما كانت بنيتها متشابهة في الشطرين بإستثناء صناعة تكرير النفط في الجنوب وصناعة الأسمنت في الشمال .. أما الطبقة العاملة في الشطرين فقد توزعت بين صناعات الملح وكبس القطن والورش ومحطات الكهرباء والمياه والطواحين ومدابغ الجلود والحرف اليدوية وخدمات النقل والبناء بالإضافة إلى صناعة إحلال الوارد ، فيما كانت معايير العلاقة بين العمل ورأس المال تعكس الحجم البسيط والمتخلف للعمليات التي تديرها هذه العلاقة . وكما هو معروف فقد رُفعت بعد استقلال الشطر الجنوبي شعارات غير واقعية طالبت بحسم العلاقة بين العمل ورأس المال من خلال التأميمات والمصادرات والانتفاضات ، بالإضافة إلى إتخاذ سياسات استهدفت استبعاد أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي والفئات الاجتماعية الوسطى من النشاط الاقتصادي .. كما اتخذت أيضاً إجراءات استهدفت تصفية الشرائح التجارية التي نشطت في مجال الاستيراد . أتضح فيما بعد أن تلك الإجراءات لم تمس سوى شكل النشاط الاستيرادي ، أما محتواه « الكمبرادوري» فقد بقي ثابتاً ، بل أنه توسع على يد قطاع الدولة الذي احتكر لمؤسساته التجارية والتسويقية ذلك النشاط الذي ازدادت رقعته وعملياته ، بالتزامن الوثيق مع تدهور العديد من الفعاليات الاقتصادية المحلية ، نتيجة لتعطيل واستبعاد قوى اجتماعية واسعة كانت تسهم بقسط هام في التداول السلعي من خلال مساهمتها في الإنتاج المحلي. وبالنسبة للأرياف فقد أدت المصادرات والاجراءات التي عطلت قوانين السوق ، ومنعت المزارعين من تملك الأراضي الزراعية ، إلى إعادة إنتاج البنى المتخلفة للزراعة التقليدية ذات الكلفة العالية في العمل والعائد المحدود للأجر ، مما زاد في إفقار واستغلال الفلاحين ، وأدى في نهاية المطاف إلى إفلاس الشعارات الاشتراكية ، التي كانت تنـسب التخلف والفقــر إلى « الاستغلال الطبقي» الذي يمارسه ملاك الأراضي ضد الفلاحين . [c1]البقاع الرمادية[/c]ربما كان ما تقدم جزءاً بسيطاًَ من الخطوط والظلال المتداخلة في البقاع الرمادية لصورة التشطير .. وربما كانت تلك البقاع الرمادية تدل بوضوح على أن ثمة محركاً مشتركاً للاتجاهين اليميني واليساري في ايديولوجيا التشطير ، وهو الجهل بالواقع اليمني والعجر عن معرفة المحددات الداخلية والخارجية التي تحرك مفاعيله ، فيما كان كل من الاتجاهين يتحرك - ايضاً - نحو هدف واحد هو المجهول .. بمعنى أن الاتجاه اليميني في ايديولوجيا التشطير كان يشترك مع الاتجاه اليساري في الجهل بالواقع ويهرب معه إلى المجهول !! في هذا السياق شهدت السبعينات استقطابات داخلية حادة وصلت ذروتها باندلاع حرب مباشرة عام 1972م ، و حدوث مواجهات مسلحة غير مباشرة عن طريق المعارضات المسلحة . زاد من حدة تلك الاستقطابات الداخلية تقاطعها مع خط الاستقطابات الدولية والأقليمية خلال الحرب الباردة ، حيث تحول اليمن بشطريه إلى ممر للتطرف ومركز لاستقطاب الجماعات المتطرفة التي استخدمتها القوى الدولية في مرحلة الحرب الباردة لخوض مواجهات بالوكالة ، بدءاً بجماعات الجيش الأحمر الياباني وبادر أند ما ينهوف الألمانية، وجماعات أبي نضال ووديع حداد وكارلوس ، وغيرها من الجماعات المتطرفة التي كانت تنفذ مهمات مسلحة عابرة الحدود بالوكالة عن الاتحاد السوفيتي و تحت رعاية جهاز المخابرات السوفيتية K . G. B ، وانتهاء بجماعات التكفير والهجرة والجهاد الاسلامي والجماعة الاسلامية ، والجماعة السلفية للدعوة والقتال و جماعة أنصار السنة ، بالإضافة إلى قوافل الجهاد الافغاني الضخمة التي أدارتها المخابرات المركزية الأمريكية CIA ، ومولها صندوق دولي دوار أنفق على تشغيل تلك الماكنة حوالي45 مليار دولار . ( 8 ) صحيح أن ذاكرتنا الجماعة لا تخلو من بقاع سوداء لفصول دامية ، ومأساوية شوهت العمل الوطني الثوري ، وأثقلت سيرته بالآلام والأوجاع والأخطاء.. لكن ذلك كان يحدث فقط عندما ينفصل المجال السياسي للعمل الوطني عن مجاله الثقافي وينقاد لسطوة الأيديولوجيا واوهامها ، فتكون النتيجة مزيداً من الفصل بين السياسة والأخلاق ، ومزيداَ من الاغتراب عن الواقع ، ومزيداَ من الابتعاد عن نظام القيم الأخلاقي» والسلطة المعرفية لثقافة الحرية . [c1]عودة الوعي[/c]في زمن غير منسي من التاريخ الحديث للتشطير، وحينما كانت الدولتان الشطريتان تقيمان في اللاوعي ، تولت الأيديولوجيا مهمة مصادرة السياسة وتأميم الوعي في ان واحد .. فأصبح الدور الوظيفي للمجال السياسي تابعاً للأيديولوجيا السائدة في كل من الدولتين اللتين تموضعتا خارج السياق الموضوعي لجغرافيا الوطن الواحد وضمير الانسان الحي .. بمعنى أن الثقافة السياسية فقدت مضمونها الوطني الذي يجعل منها ضميراً حياً للوطن المجزأ ومرآة صافية لوجهه الشرعي الواحد!! وفي زمن غير منسي - أيضاً - اندلعت حرب فبراير 1979م بين الشطرين لتقدم دليلاً إضافياً على عجز ثنائية التشطير والأيديولوجيا عن الخروج من مأزقها الذي يتمثل بدوره في العجز عن إيجاد حل سحري يمنع وقوع الحروب الشطرية والأزمات الدورية ، ويحافظ على التجزئة الكيانية في آن واحد. ومما له دلالة عميقة أن تكون حرب فبراير 1979م آخر المحطات الخطرة لتلك الثنائية ، حيث انتهت تلك الحرب بتحولات نوعية في مجرى العلاقات بين الدولتين الشطريتين من جهة ، وكذلك في مجرى العلاقة بين الممارسة السياسية والثقافة السياسية من جهة أخرى . وبقدر ما أسهم نشاط القوى الوطنية في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، بقدر ما أصبحت هذه الثقافة عنصراً فاعلاً في بنية الثقافة الوطنية التي نهضت لتخليص سؤال الوحدة من سلطة الآيديولوجيا ، فقد تميزت هذه الحقبة بإصرار كافة قوى المجتمع في شطري اليمن سابقا على ممارسة تعب البحث عن اجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل متغيراتها وتناقضاتها ، بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والحلول المعلبة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهمة تبرز على الدوام في الظروف الإستثنائية التي تشهد متغيرات عاصفة ومتسارعة، وجراحاً غائرة ، وعوامل كبحٍ لا يـمكن تجاوزها بدون التخلص من قوالب التفكير المألوفة، وطرائق العمل القديمة . وكما أن الظروف تتغير باستمرار ، فإن الحقــيقة تظل نسبية وليست نهائية ، والوصول إلى الحقيقة ليس سهلاً ولا بسيطاً .. ولذلك فإن النخب التي تعتقد أن الحقيقة النهائية في أيديها ، ولا ينبغي التعب من أجل البحث عنها يومياً ، بل يكفي تناولها من الملفات الجاهزة ، أو تقارير الأجهزة أو الكتب القديمة أو الوثائق الحزبية أو الشعارات الشعبوية ، إن النخب التي تعتقد بذلك ، لا شك في أنها تخاطر بفقدان مقدرتها على التجدد والاستمرار، وتغامر بضياع مستقبلها السياسي وبعدم قدرتها على أن تكون طليعة سياسية في المجتمع . بهذا السلوك أسهم العمل الوحدوي المشترك بين قيادي شطري اليمن قبل الوحدة بقسطه في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، يستحيل بدونها معافاة جراح الصراع السياسي السابقة ، وصياغة مشروع وطني للتغيير يجسد روح وأهداف الثورة اليمنية ، ويتجاوز رواسب المشاريع القديمة التي تميزت بالإفراط في افتراض تمثيل الحقيقة ، والاستغراق في اجترار ثقافة الإلغاء والإقصاء التي كانت على الدوام نقيضاً للحرية وصنواً للاستبداد وعدواً للمعرفة ، بعد أن أفرطت في فرض وصايتها على العقل والحقيقة من خلال إضفاء القداسة على الآيديولوجيا السياسية بمختلف طبعاتها وتلاوينها الدينية والطبقية والقومية على حد سواء . وما من شك في أن التيارات السياسية والفكرية في اليمن تكاد أن تكون امتداداً لتيارات مماثلة لها في الساحة العربية التي شهـدت تجارب مأزومة ومشوهة ، افرزتها المشاريع القديمة بعد أن طبقت على الصعيدين النظري والعملي أفكاراً وشعارات قومية واشتراكية وإسلامية . والحال إن المشاريع القديمة التي نقصدها كانت قد وصلت إلى سدة الحكم في بعض البلدان العربية إن لم نقل معظمها بوسائل الاستقواء بالقوى الأجنبية أو الانقلابات العسكرية ثم خسرت في نهاية المطاف وهجها وبريقها . لم تتوقف الآثار السلبية لتلك التجارب الخاسرة على إضعاف حيوية المجتمع العربي وتهميش قواه الحية، بل امتدت لتصيب بدائها العضال مختلف النخب الحاكمة في تلك البلدان التي نكبت بتجارب شمولية فاشلة ، وعجزت عن تقديم نموذج قابل للاستمرار والتجديد، وانتهت إلى إفلاس سياسي وفكري وثقافي تكونت على تربته الهشة أزمات وإنهيارات مدوية ، مقابل بروز مخاطر وتحديات عديدة , لا يمكن مواجهتها بدون امتلاك مشروع جديد للتغيير يقوم بالدرجة الأول على قاعدة تحرير السياسة من ثقافة الاستبداد والإلغاء والإدعاء باحتكار الحقيقة . [c1]الهوامش :[/c]-1 د . محمد عبد الملك المتوكل : - « الهوية وأزمات اليمن السياسية » مجلة « المسار» - العدد الرابع 2001 - مركز التراث والبحوث اليمني . -2 د . محمد على الشهاري : « طريق الثورة اليمنية والوحدة اليمنية » دار الفارابي - 1981- بيروت . -3 محمد أحمد العفيف : « سنوات مجيدة من عمر الثورة « 1988 ( مكان الإصدار غير معروف ) . -4 انظر نديم البيطار « من التجربة إلى الوحدة» وفي هذا الكتاب يمكن مراجعة بعض النصوص التي تؤكد هذا المفهوم استناداً إلى مراجع أصلية من أدبيات ووثائق حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب. -5 يدخل في هذا الإتجاه اعتراض التيار الأخواني في الشطر الشمالي من اليمن على اتفاق 30 نوفمبر 1989 م ، ومشروع دستور دولة الوحدة وكان هذا الاعتراض محكوماًً بتصور ايديولوجي يرى أن الوحدة بين دولة الاسلام ودولة الكفر غير جائزة ، بحسب ما جاء على لسان الشيخ عبد المجيد الزنداني في اشرطته ومحاضراته التي عارض بها اتفاق 30 نوفمبر الوحدوي 1989م ، ومشروع دستور دولة الوحدة . -6 تضمن برنامج الحزب الاشتراكي اليمني لمرحـــلة الثورة الوطنية الديمقراطية ،هذا المفهوم في مؤتمره الأول عام 1978 ، كما أكدت « ورقة العمل» التي تقدم بها الرئيس الأسبق علي ناصر محمد على ضرورة التمسك بهذا النهج ، وقد أقر المؤتمر العام الثالث للحزب الاشتراكي ورقة العمل التي قدمها علي ناصر محمد باسمه في اكتوبر عام 1985 م . -7 صاغ لينين هذا المفهوم في ظروف تاريخية محددة ، وذات صلة بخصائص جمهورية منغوليا وجمهوريات آسيا الوسطى التي كانت خاضعة للسيطرة الاستعمارية الروسية قبل الثورة البلشفية 1917 م ، التي افترضت نظرياً وصول البروليتاريا الروسية إلى السلطة . وكان هذا المفهوم قد تعرض للتسطيح على يد الستالينية التي أعادت صياغته ، وقدمت من خلال إعادة الصياغة تصوراً مبسطاً للانتقال إلى الاشتراكية ، على الصعيد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية ، اتضحت هشاشته ولا معرفيته في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدولية مطلع التسعينات . -8 انظر كتاب « طالبان » للبروفيســـور الباكستاني أحمد رشيد ، وكذلك مقالة « واشنطن تؤذن للجهاد في كابول » لمحمد حسنين هيكل - مجلة « وجهات نظر » -فبراير 2002 م .
من الاســـتـــقلال إلــــى الــــوحـــدة
أخبار متعلقة