المستشرق والمؤرخ الصهيوني برنارد لويس
نجمي عبدالمجيديحمل مشروع المستشرق البريطاني الدكتور برنارد لويس لتقسيم العالم العربي والإسلامي، قراءات انطلقت من ثقافات صاغت هويات وتاريخ تحولت جزئيات تكوينها إلى عوامل تفكك وأسباب لتقسيم الهوية، فهو يرى بما كان حالة واحدة ومرت بوضع الاختراق يمكن لها أن تصل إلى مرحلة الإلغاء وإعادة الصياغة بما يخدم مسار قوى كبرى تفرض مشروع الهيمنة على العالم.الدكتور برنارد لويس ولد في لندن عام 1916م ديانته اليهودية، صهيوني الانتماء، أمريكي الجنسية، تخرج من جامعة لندن عام 1936م وعمل فيها باحثاً ومدرساً في قسم التاريخ للدراسات الشرقية والأفريقية، أسهم في عدة دراسات متصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، غير أن ما يقال عن ذلك الإنتاج الفكري الذي يعد مرجعاً فيه، لم يجانب الحقائق موضوعياً، بل ذهبت به الأهواء التعصبية مذهباً يدخلها في دائرة العداوة والانحياز ضد الإسلام، فقد كتب عن الحشاشين وأصول الإسماعيلية، والقرامطة وغير هذا ما يتصل بتاريخ الفرق والمذاهب التي تصارعت في الحضارة الإسلامية، كما كتب عن تاريخ العرب في العصر الحديث، نازعاً نحو الرؤية الصهيونية التي يصرح بها ويؤكدها.نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقالاً عن مشروعه الهادف إلى ضرب هوية الثقافة والتاريخ العربي والإسلامي حيث قالت: (إن برنارد لويس 90 عاماً المؤرخ البارز للشرق الأوسط قد وفر الكثير من الذخيرة الإيديولوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب، حتى إنه يعتبر بحق منظراً لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة.إن لويس قدم تأييداً واضحاً للحملات الصليبية الفاشلة، وأوضح أن الحملات الصليبية على بشاعتها كانت رغم ذلك رداً مفهوماً على الهجوم الإسلامي خلال القرون السابقة، وأنه من السخف الاعتذار عنها).تلك المواقف جعلت منه قريباً من المعسكر السياسي للمحافظين الجدد في أمريكا منذ سبعينيات القرن العشرين، فقد أشار أحد رجال البحث في معهد العمل الأمريكي وهو جريشت، إلى أن برنارد لويس ظل لعدة سنوات رجل الشؤون العامة ومستشاراً لإدارتي بوش الأب والابن، وفي مؤلفاته التي وصل عددها إلى 25 كتاباً ومنها: 1 -العرب في التاريخ 2 - الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط الحديث 3 - أزمة الإسلام 4 - حرب مندسة وإرهاب غير مقدس، وغير هذه المواقف العدائية من الإسلام والعرب، حيث لم يقف دوره عند تحريض واستنفار القيادة في القارتين الأمريكية والأوروبية، بل وصل إلى لعب دور العراب (الأب الروحي) الصهيوني الذي صاغ للمحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش الابن أفكارهم ومواقفهم في العداء الشديد للإسلام، وعبر علاقاته المباشرة مع تلك الإدارة وخلال اجتماعاتها ابتدع للغزو مبرراته وأهدافه التي ضمنها في مقالاته، صراع الحضارات والإرهاب الإسلامي.ويقول في مقابلة أجرتها معه وكالة الإعلام في الغرب بتاريخ 20 /5 /2005م عن العرب والإسلام: (إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات، وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة، لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقدم أمريكا بالضغط على قيادتهم الإسلامية - دون مجاملة ولا لين ولا هوادة - ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمير الحضارة فيها).وفي هذا الاتجاه الخطر الذي يذهب بالعالم العربي نحو التدمير الكامل يكتب رالف بيترز أحد مسؤولي الاستخبارات العسكرية الأمريكية السابقين قائلاً: (إن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية بالمنطقة العربية تجاه بعضها البعض، لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقاً من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والثقافات والأقليات، حتى يعود السلام إليه).تدخل هذه المشاريع في عمق الأزمات التي تمر بها الأمة الإسلامية، فكل عوامل التماسك من ثقافة وتاريخ ودين وهوية تحولت إلى كيانات سياسية قائمة على التناحرات والسيطرة وفرض الذاتية، وهذا يعطي دليل على مدى التصدع الذي ضرب أمة الإسلام في أهم أسباب قوتها ووحدتها.فالمذاهب والعقائد الإسلامية قد أصبحت مشاريع تطمح إلى فرض سيطرتها سياسياً وثقافياً وعقائدياً وشعوبياً، وفي هذا تحطيم لنسيج الوحدة الإسلامية في الدين وتحويل المذهب إلى قوة تتصارع مع كل حضورها النفسي والفكري لتصبح المرجعية التي لا يجب الخروج عليها في المسار السياسي.أما الثقافة فهي تخرج من تراكم تواصلها مع حضارة الأمة لتدخل في شعوبية عقلية تفصل بين ماضي متصل مع حاضر يسعى لقطع علاقته معه، لأن عوامل الالتحام في هذا الاتجاه قد ضربتها عدة تشققات بعل الأزمات والصراعات التي مرت على الأمة، ما دفع بكل فئة أو طائفة في البحث عن ما يحمي وجودها في انتماءها الذاتي طالما محيطها تحول إلى ساحة تصارع من أجل الهيمنة.في هذا المشروع الذي يطرحه المستشرق برنارد لويس، نجد أن الدين والثقافة والتاريخ والهوية في العالم الإسلامي لم تعد من عوامل تماسك الأمة، بل تحولت إلى أسباب مباشرة في تدمير وتقسيم العالم الإسلامي وذلك ما يدخل العقل والنفس في حالة من الفراغ الروحي والمتاهة الفكرية التي لا تقف إلا على أرضية التناحر في أبسط مجالات الرؤية، فالعالم العربي قد أصبح في هذا المشروع لا تجمعه لغة واحدة ولا دين واحد وجغرافية واحدة ولا عادات ولا تقاليد متقاربة، بل هناك أديان ومذاهب ولغات ولهجات وثقافات وشعوب وأعراق وأجناس وعقائد، ومن حق كل منها طرح استقلاله السياسي وإيجاد دويلته، والذين لم يقرؤوا التاريخ يظنون أن هذا مجرد كلام، غير أن العودة إلى بداية القرن الماضي ومخطط اتفاقية سايكس - بيكو التي ظهرت بتاريخ 16 مايو 1916م يدرك بأن العالم العربي قد دخل بالفعل من عصر الدولة القومية إلى مرحلة الكيانات القطرية.بتاريخ 16 /6 /1918م كتبت الحكومة البريطانية مذكرة وجهتها إلى بعض الزعماء العرب الذين كانوا يقيمون في مصر تعترف بما يلي: بالاستقلال التام والسيادة التامة أولاً للعرب الذين يقطنون الأراضي التي كانت حرة ومستقلة وللعرب الذين يقطنون الأراضي التي كانت في السابق تحت السيطرة العثمانية ثم احتلتها جيوش الحلفاء في الحرب الحالية، فإن رغبة حكومة بريطانيا أن تقوم الحكومة المقبلة بهذه الأقاليم على مبدأ موافقة المحكومين.إن هذه السياسة كانت وستبقى السياسة التي ستتبعها حكومة جلالته وتعضدها.ومما يؤكد أيضاً وضع بريطانيا اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور موضع التنفيذ العملي على أرض الواقع، ولو على حساب الأماني التي كان يعيشها شريف مكة ومن معه. إصرارها على أن تكون الموصل تابعة لها، ليصبح العراق بأكمله تحت سيطرتها، ضمن منطقة نفوذها، وكذلك فلسطين وموافقة فرنسا على ذلك مقابل أن تأخذ نصيبها من نفط الموصل، وأن تقوم بريطانيا بمناصرتها مناصرة تامة إزاء اعتراضات - وأن تكون دمشق وحلب والاسكندرونة وبيروت ضمن انتداب فرنسا.والدليل على هذا ما كتبه لويد جورج حرفياً: عندما قدم كليمنصو - الفرنسي - إلى لندن بعد الحرب ذهبت معه بالسيارة إلى السفارة الفرنسية، وعندما وصلنا سألني كليمنصو عما تريده بريطانيا على وجه التحديد من فرنسا، فأجبته فوراً: إنني أريد أن أضم الموصل إلى العراق، وفلسطين من دان إلى بئر السبع تحت سيطرة بريطانيا، ودون أي تردد وافق كليمنصو على طلبي.وعلى هذا الاتفاق قال كليمنصو: إنه قبل النزول عند مطالب لويد جورج على شروط ثلاثة وهي: 1- أن تمنح فرنسا نصيباً من نفط الموصل وذلك بتعديل اتفاقية شهر أيار عام 1916م.2 - إن تناصر بريطانيا فرنسا مناصرة تامة إزاء اعتراض الولايات المتحدة.3 - إذا تم الاتفاق على نظام الانتداب، فإن دمشق وحلب والاسكندرونة وبيروت يجب أن تقع ضمن انتداب واحد، الانتداب الفرنسي.كذلك ما نصحت به بريطانيا الأمير فيصل لما جاء إلى لندن بغية الذهاب إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح، بأن يقبل سيطرة فرنسا على سوريا، لأنها - أي بريطانيا - غير مستعدة أن تخاصم فرنسا حول مشكلة سوريا.أقدمت بريطانيا على تعيين هربرت صموئيل وهو يهودي بريطاني أول مندوب سام لها في فلسطين، وهو أيضاً أول وزير يهودي في بريطانيا وكان قد قدم في عام 1915م مذكرة إلى الوزارة البريطانية إنشاء دولة يهودية في فلسطين عن طريق تحويل فلسطين إلى محمية بريطانية وتشجيع الاستيطان اليهودي فيها وكان وصوله إليها عام 1920م.تلك هي حدود الماضي أما اليوم فإن مشروع الشرق الأوسط الجديد هو القادم إلينا، وبرنارد لويس هو العقل المفكر لهذا العمل الساعي إلى تمزيق ما تبقى من حدود ودول صنعتها أغراض استعمارية في السابق لتسقط في متاهات من التناحرات مستخدمة كل عرض لتدمير الإنسان والأرض.وحول هذا الاتجاه من مشروع برنارد لويس كتب فتحي شهاب الدين قائلاً: (انتقد لويس محاولات الحل السلمي، وانتقد الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان، واصفاً هذا الانسحاب بأنه عمل متسرع ولا مبرر له، فالكيان الصهيوني يمثل الخطوط الأمامية للحضارة الغربية، وهي تقف أمام الحقد الإسلامي الزاحف نحو الغرب الأوروبي والأمريكي، ولذلك فإن على الأمم الغربية أن تقف في وجه هذا الخطر البربري دون تلكؤ أو قصور، ولا داعي لاعتبارات الرأي العام العالمي، وعندما دعت أمريكا عام 2007م إلى مؤتمر آنا بوليس، للسلام كتب لويس في صحيفة (( وول ستريت )) يقول: يجب ألا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتباره مجرد تكتيك موقوت غايته تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني، وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والأكراد والعرب والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضاً كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر من قبل.رغم أن مصطلح صدام الحضارات يرتبط بالمفكر المحافظ صموئيل هنتينجون، فإن لويس هو من قدم التعبير أولاً إلى الخطاب العام ففي كتاب هنتينجون الصادر في 1996م يشير المؤلف إلى فقرة رئيسية في مقال كتبها لويس عام 1990م بعنوان جذور الغضب الإسلامي قال فيها: هذا ليس أقل من صراع بيت الحضارات ربما تكون غير منطقية، لكنها بالتأكيد رد فعل تاريخي منافس قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي لكليهما).هكذا يختزل برنارد لويس تاريخ وحضارة وثقافة العالم الإسلامي، بحدود جغرافية أعاد هو رسمها حسب تصوره لتغيير مصير المنطقة وإسقاطها تحت مستوى التاريخ المكون لهويتها الفكرية.حالة التفتيت في هذه الرؤية تعتمد على كسر الكل إلى جزيئات، غير أن هناك حقائق علينا أن ندركها. إن ما ذهب إليه برنارد لويس في عمله هذا ما كان له أن يكون لو لا وجود حالات تصدع وانهيار في وضع العالم الإسلامي والعربي فالراهن يقدم صورة مرعبة عن تمزق هذه الدول وتناحر قبائلها وشعوبها وعشائرها ومناطقها وتصادم عقائدها ومذاهبها وثقافاتها وما عانت من أزمات سياسية في كل مشاريعها التي راهنت عليها عبر عقود من الزمن ولم تحصد منها غير التراجع إلى أدنى مستويات الحياة.إننا أمام مواجهات مع الثقافة والهوية والتاريخ والعقائد، كل فئة تسعى لتحويل خصائصها الذاتية إلى مراهنات على فرض وجودها، بل جعل هذه الفردية عقيدة قتال تصارع كل من يرفض ما تطرحه على الواقع، وضعية مثل هذه كيف لا تجعل من مستشرق مثل برنارد لويس يرسم جغرافية مغايرة لوضع المنطقة ويقسم دولها ويدخل شعوبها في محرقة الحروب والأزمات، طالما وجدت أسس هذا المشروع في واقعنا، واقع الانقسام والفتن والحروب وصراعات السلطة ونزول القيم إلى ساحات المتاجرة بكل الأشياء.