منذ أشهر خلت تحولت الساحات من ساحات اسقاط النظام الذي ضاع وتاه في الأقبية لتتأسس مفارخ نظام المضاربات وتصفية الحسابات الضيقة المأزومة لثارات وانتقامات تتخلق وتتناسل فيها الأزمات وصناعة كوارث الزمان والمكان ، نعم تحولت ساحات الثورة الى دكان كبير للمزايدات والمزادت (اتبرعوا ، وابترعوا) ، دكان مفتوح على كل أنواع البزنس والصفقات ، وتنامي الأرصدة وتفشي مقولة «من لفي قرط» «وطريق طريق»، كما يقول التعبير الشعبي اليمني .. مزاد كبير ، اقتصادي ، سياسي ، ديني وقبائلي . استثمار سحري نشط وغير مألوف، مزاد لتحالفات ومصالح عصبوية وعصابية قبائلية ، عسكرية ، أصولية، مشايخية ..الخ لم تحترم دماء الشباب الذين سقطوا في سبيل الحرية والتغيير بل تاجرت بكل شيء ابتداء من رؤوسهم ودمائهم وجثثهم والأشلاء الى أحذية الشهداء، سماطاتهم ،معاوزهم ، شباشبهم، أرجلهم المتقرحة ، أطقم أسنانهم ، سياكلهم ، شراباتهم ، وكذلك اعضاؤهم من الأظافر ، والرموش، والنخر، والشعر ، والحجاب الحاجز ، والجيوب الأنفية، وقرقرة الأمعاء ، والحازي “القداد” .. تاجروا وعملوا منها وبها ساحات عروض، لعبت المنصة الوحيدة المهيمنة والملهمة دور الإمبراطور الإعلامي لتسخين الأسعار وشعللتها بكل المقاسات والأحجام بهدف وضع أحجار أساسات الثورة واسقاط النظام، و”بناء يمن جديد” واعتقد انه لا أساس لهم سوى خوفهم بل ورعبهم الهلوع من عملية التغيير الحقيقي القادم على يد الشباب الذين ظهروا كقوة زعزعت أساساتهم وعروشهم بعد أن جعلوا من البلد مزرعة دسمة يباع ويشترى فيها كل شيء. (2)وكعادة المحكومين بالخوف من التغييرالقادم تدفقت وتقافزت القوى والتكتلات والعصبويات من باب العرق والدم والنسب الى ساحات الحرية والتغيير ، واحكمت قبضتها بفكر الجمود والسلاح وصناعة الخوف والترهيب مؤزرة بأجنحة الإعلام المحلي(سهيل ، يمن شباب) والخليجي (الجزيرة) وصحفهم ومنابرهم المسنودة بوسائل التواصل الإجتماعي ،كل تلك المعطيات حولت الساحات الى دكاكين صغيرة متنوعة بالجملة والمفرق، بالكاش والقروض المؤجلة ، بكشف حساب او بدونه ، وماهو معك اليوم هو معي ، ومبايعات ( اخلط يافقيه وكله حقنا ) ، و”أدسم اللقف يستحي الوجه“ ومثلما توسدوا الثورات السابقة توسدوا ثورة الربيع بساحاتها المختلفة ، لتظهر الساحات وكأنها صورة كاريكاتورية تضحك وتبكي في آن .ومن هنا كانت الخيام العامرة ومنهم من بنى وعلى ، بل وحلى بالأحجار والبردين والطوب والأبواب ، والشبابيك ، والحمامات ، والساتلايتات والحمامات والحراس من عسكر ورعية ، ومنهم من استملك قطعاً من “الساحة” بالبصائر والتوقيعات والبصمات كإثبات حق ملكية لشبر ، وذراع، وقدم في الثورة ( كما سمعنا) ..ساحات تلفها وتزينها صور الشهداء ، وعروش العسكر والمشايخ والمجاميع المسلحة ، والإعلام المسير .. وفي كل يوم وكل مناسبة يفتح باب المزاد ، وكله من أجل الشهداء ، مثلهم مثل الذين يطعنون لظهر ابن علوان - مع الفارق - مزادات سياسية واقتصادية منتعشة داخلياً وخارجياً، انتعاشها الرائج والرابح “ كلما زدنا شهيد ...”(3)وثمة صور مستفزة كثيرة ستترامى أمام العين ، فهناك من يبول ويتغوط أمام صور الشهداء ، وهناك أرتال القمامات التي تحاصر الساحة من كل صوب واتجاه ، دونما خجل من نظرة الشهداء المنكسرة ، وهي تقول : ( الله المستعان ، آخرتها قلبتوها مبصقة ، ومنشتة ، و..عزكم الله )أما روائح العفن والزهم فهما بخور الساحات ،تخرج من داخل أكثر من خيمة بعد أن كانت بالأمس نظيفة ، يوم كنت تجد في كل صباح الشباب والشيوخ القبائل يفتتحون صباحاتهم بكنسها وترتيبها .لقد تحولت الساحات الى ديوان كبير واسع ، وبعد أن كان ديوان الشيخ بضعة أمتار ، أصبح الآن يمتد من4-3 كيلومترات “، وارحبوا لديوان الشيخ وكل من عنده حاجة من الشيخ فليقبل اليد والركبة ، انها مقايل واسعة لعقد الصفقات ، وصناعة التبطل بامتياز ، فالمعتصمون (سامرين، آكلين، شاربين ، راقدين ، مصلين ، صائمين، هاتفين ، راكعين ساجدين،حامدين شاكرين ومسبحين مع الإستغفار).. في هذه المقايل لا مانع من الإشتغال بالمضاربات والمكايدات، ومخططات الضرب من تحت الحزام ، ثم الضرب والتهديد والسجن ، والمطاردة في أروقة الساحات أو سجونها ( عفواً اللجان الأمنية ) .(4)أصبحت الساحات مكاناً لتوزيع وبيع الوهم عبر المنبر والمنصة والخيمة وأزقتها .. ساحات لتفصيل وصناعة الفتوى والفتوى المضادة ، مدارس للتخوين والتكفير والشك والريبة ، وتفصيل العداوات المركبة والجاهزة والسريعة ، والأعداء الوهم ، .. واحتراف مهنة صناعة العدو الجديد في كل يوم ، ومع كل صباح تخترع كبسولة عدو جديد يترجح بين ميادين الستين والسبعين .داخل كل خيمة تشتغل ثقافة العدو ، ثقافة التربص والصميل الظاهر والمخفي ثقافة الكراهية المحضة ، بعد أن كان الثوار مطلع حلم الحرية والتغيير يلتمون حول مائدة واحدة تحتوي مختلف الإتجاهات والرؤى ، ويوم كان المعتصم يقتسم اللقمة مع صديقه ، ليشبعا معاً .(5)الأحرى أن لا نكذب ونزايد على بعض فساحاتنا تفردت في تربية وتسمين المليشيات القائدة لنظام” الفلترة الوطنية والدينية “: المؤمن النظيف ، المؤمن القوي ، الوطني الأصيل ، الثائر النقي وآلت الى مفرخة وتفقيس الزعامات الدينية والوطنية الثائرة ، وايقونات الثورة ، وملهمي /ات الثورة ، وأوزان ومكاييل الوطنية والثورية والمناصفات والمصادقات في خانات وقوائم الـ :”مع /ضد” تحالفات تذكرنا بتحالفات أمم الممالك المنقرضة في تاريخ اسبرطة ، وزمن صعود الفاشيات والنازية .ساحات لمنصة الهيمنة والفهلوة والقبضة البوليسية المتمرسة ، فمن يمتلك المنصة يمتلك “المُغل” و يمتلك الساحة والبشر والتغذية ، والتصنيف والفلترة ، والحبس ، والقمع والتمجيد حد التأليه .. انها المنصة/ المقصلة اما أن تحييك أو تميتك اهمالاً وتخويناً .. منصة فاشية تعطيك صك الجنة ، أو صك الشيطان ، وفي أحايين كثيرة الاثنين معاً.. و”الحاذق بازي أمه وخالته” من يطيع فيثاب الى أن يحترق كرته ، ثم يأتي الذي بعده .. منصة إما أن تكون من مليشياتها المدربة والمحنكة ، أو تلحقك اللعنة في أحد معتقلات اللجان الأمنية ، وتخرج وأنت مكلل بمقاليد من نعوت التخوين والتكفير ( أمن قومي ، بلطجي ، مندس ، طابور خامس، عميل ، كافر ) ..(6)ولا يساورنا الشك أن الشباب الرافض للهيمنة سيثور على المنصة- السلطة وسينعتها من انها منصة متحكمة عصبوية يقودها التيار الأصولي /القبلي /العسكري / المشايخي /الديني ، وسيأتيها من باب أمتصي غضبهم : ( اقبليهم ، ليعبروا عن آرائهم .. تظاهري بأن تتسامحي، لكن اقبصي واحزقي ، رخي واجدمي .. اجعليهم يتحدثون ، لكن قومي بعملك المعروف ، اقلعي اسلاك الميكرفونات وهم يتحدثون، اطفئي الأزرار ، وارفعي اصوات الضجيح لمليشياتك ، اتركيهم يعبثون ، واتركي المتحدث كأنه يتحدث من قعر بئر عميق لا يسمع الا نفسه ..انه شغل المنصة مذ بدأت واستملكت واستكلبت 20 - 2 - 2011.(7)اغلاق الساحات التي أصابها الهرم والترهل ، الهاذية والمتلاطمة بارجلها وايديها .. بعد أن خاضت وتخوض في صناعة الصراع المذهبي والديني والطائفي والسياسي وادخال الشباب في صراع الغفلة ، وصراع الغيب والخرافة واستحلاء التبطل ، والدكيات الجهنمية المتبصقة بالقات والدخان والساعة السليمانية الملغمة ، صار واجباً اخلاقياً وانسانياً وثورياً بالدرجة الأولى ! ، ذلك ان أمراء الساحات ومشايخها درجوا عبر تاريخهم على اعتبارنا رعية في بلاطهم ، يجروننا بصحن رز ، وقرص روتي مصلوب ، وربطة قات ، كيما نشرق ونغرب حسب امزجتهم ومصالحهم. زربة قات لتجميع الحشود عند اللزوم : مليونيات ، مسيرات، هتافات ، برعات بمرافع ، اعلام ، جمع ،..الخ ، وحجب زربة القات ودست الفاصوليا عندما لا يقتضي الأمر ويستدعى أن تذوب الحشود كأنها فص ملح .(8)اغلاق الساحات مهمة انسانية اذا كانت الساحة قد استحالت الى سجن يكبل طاقات الشباب المهدورة طوال عام كامل ، وهو الإحترام المطلوب للأسر التي شردت ، والبيوت التي نسفت ، والأمهات الثكالى ، والمطلقات، احتراماً للطلاب والطالبات المحرومين من التعليم والمدارس والجامعات والمعاهد ، لإستعادة النوم الذي ضاع ، والأمان الذي سرق ، ومائدة العائلة التي تلاشت وتشتت في الريف والأماكن البعيدة ، لنفسيات الأطفال المضطربة المنذرة بكوارث نفسية .(9)اغلاق الساحات مهم حتى لا يدخل ماتبقى من الوطن والبلد المهترئ الأوصال والأطراف في مزيد من الصراعات الدائرية العائلية . وتلك التي يدفع الناس ثمنها من قبيل الإشباع لأمزجة عصابية لا ترحم سوى مصارفها ومصائرها فتقتل وتقاتل بنا بوهم الجغرافية ، والوطن، والحكمة يمانية باستعذاب مفرط لساحات الإحتراب بين الستين والسبعين، والى أن يعلق الجميع بين الأحذية والبنادق والأمزجة الملغومة ودكاكين اهدار طاقات الشباب في بورصات : الثورة والثورة المضادة .(10)اغلاق الساحات رحمة بالحشود المتعبة الزاعقة من طرف الستين حتى طرف السبعين ، للوطن المثخن بكل شيء الا من الوطن وأهل الوطن .. الوطن الخالي من الشعب والمواطن .(11)اغلاق الساحات حتى نستعيد ديننا الروحي الذي يكون مع الإنسان ، وليس مع أصنام الستين والسبعين ..دين الله للجميع للمعتصمين في الساحات وغير المعتصمين ، والله محبة وهو يرفض ان تسال قطرة دم، وآهة الم بأسمه .(12)اغلاق الساحات ليواصل الشباب ثورتهم المستمرة ليس ضمن سجن جغرافية المكان والمنبر ، وانما في اطار ما ينعش ويجدد طاقات الفعل والابتكار والعمل السياسي الواعي الذي لا يستنفد بالهتاف والتصفيق والركوع والسجود واللجوء الى أقبية الغيبات والتخريف والخرافة والإنسحاب من الزمن التاريخي الى مربع الزمن الغيبي باستدعاء مأثورات ابطال السلف وغزواتهم ، وفتوحات الوهم في مجرى اعادة تدوير مخلفات الماضي واستنساخ زعامات جديدة ، أصنام ، آلهات من نفس العجينة .(13)الثورة السلمية تستمر بالعمل والبناء ، بالعلم المفتوح والمنفتح على العصر والحداثة ، بالدين المنفتح على العصر ، بالقطع مع مأثور” خير أمة“ فهو لا يصنع ثورة ولا يحدث تغييراً ، بقدر ما يكرس تخلف وقصف العقل وآليات التفكير .حلم لن ينجز إلا بالعلم والإنفتاح على ثقافات الأمم والشعوب ، فلا اعداء ولا متربصون بنا وبثقافاتنا وديننا ، فالعالم مشغول حد الهوس بالإكتشافات والإختراعات الإنسانية .(14)حل الساحات والانزياح عنها بالمزيد من الانفتاح على نوافذ السياسة وعلومها المختلفة ،هو شرط ضروري لإنشاء ساحات مفتوحة على فضاء يتسع لثورة متجددة مستمرة وفاعلة باستنادها الى طاقات الفن والتثاقف، حيث يغدو أي مكان هو الساحة التي ينبغي أن نرفع فيها أصواتنا عبر قنوات الاحتجاج السلمي وتشكيل قوة ضغط على كل ظالم وفاسد .. فمن يقف في صف العقل ويعليه لن تستوعبه ساحات التخندق فساحته هي الفضاء المفتوح بكله .(15)لنغلق هذا النوع من الساحات قبل ان يكتسحنا البصاق الأخضر المهيمن على قوتنا ومداركنا وعقولنا، نغلق الساحات قبل ان يجرفنا هذا الأخضر الديكتاتوري ويحولنا الى أحمر قان نغرق فيه جميعاً بلا استثناء .اغلاق الساحات لرد الاعتبار للشارع وللحي ، وللنافذة المفتوحة الآمنة، لأحواش المنازل ، للأطفال ، والبقالة والرصيف والحضانة والمدرسة والجامعة والمعهد والمسجد .. للمقهى والمكتبة ووو...الخاغلاق الساحات احتراما لليل والنهار الذي ضاع ولم نعد نعرفه .. احتراما للمخدة والسرير اللذين ضاعا وتكسر في أتون معارك الإقتتال والتنقل من بيت الى بيت ومن غرفة الى غرفة للبحث عن الهدوء الضائع بين الرصاص والهتاف، والضجيج ، وادخنة المواتير (خصوصا سكان الأحياء المجاورة للساحات) .إغلاق الساحات التي آلت الى معتقلات جماعية بكل امتياز مهمة ثورية وانسانية تفوق أي امتياز .(16)قضية الثورة واستمراريتها وتحقيق اهدافها لن تكون باغتصاب حقوق سكان الأحياء المجاورة لأي ساحة واقلاق راحتهم وسكينتهم ، فلا ثورة ستنتصر باغتصاب حق مواطن يحلم ان يعود الى بيته بشكل آمن ، ويستعيد سكينته مع عائلته ( لنستمع لشكاوى البيوت والناس ) فلا يجوز أن نحملهم أثقال سنة أخرى بحجة أننا نثور من أجلهم.أخيراً :الثورة ليست ببقعة ارض : خيمة ، منصة ، جمعة ، ولجنة أمنية ، ورقصة برع ..الخ ؟؟ الثورة ثورة فكر ، ثورة المعرفة ، لا بندق ، ثورة سياسة ، لا تخريف ، اعتقد اننا سنبدأ معرفة : معنى حياة ، أن نحيا ..معنى يمن جديد، معنى اسقاط النظام والمنظومة ....كيف تشوفووووووووووو؟ملحوظة : ترددت في كتابة هذه المقالة لأشهر خشية تخوين وتكفير حراس الساحة .. أعرف أن طلقات التخوين ستطاولنا مرة أخرى كما طاولت غيرنا ، وأعرف أكثر أن المهم أن نقول : لا ، فليست الساحة صنما أو آلهة ، وكذلك الثورة بماهي ثورة ناس قابلة لأن تنقد ، ولن نأبه بمن سيواصل مسلسل الصفات التي نالت منا : أمن قومي ، وبلطجيين ، ومندسين ، وطابور خامس ، ..الخ ، ولم نكن بمنجى عن تكسير العظام باعقاب البنادق وتحطيم الكاميرات .... سأكرر مقولة أمي “ ايد ما تسرق ماتخاف”.[c1] ناشطة يمنية تعمل رئيسة لبيت الموروث الشعبي، وألفت عدداً من الكتب، كما تكتب في عدة صحف.
|
آراء
أغلـقوا هــذه السـاحـــات
أخبار متعلقة