إعداد/ إدارة الثقافةقضى الرسام الانطباعي الشهير بول سيزان حياته في رحلة لا تنتهي بحثا عن الأمثل للتعبير عن الحقيقة من خلال الرسم، رافضا بإصرار تصنيفه في المدرسة الانطباعية، ومتجاهلا الرفض الجماهيري لفنه ومصمما على الرسم حتى آخر لحظة في عمره.ولد بول سيزان في عام 1839، وكانت إمكاناته المادية- حيث كان أبوه مصرفياً غنياً- وراء تمكينه من مواصلته الرسم من دون تحقيق دخل يذكر من أعماله الفنية. غير أن الروح المتمردة للرسام الشاب رفضت العيش في كنف أسرته الميسورة ووالده المتسلط، ودفعته إلى الهجرة إلى باريس أوائل الستينات من القرن التاسع عشر، ليعيش حياة بوهيمية على غرار معظم الفنانين في تلك الأيام. ولم تفلح إقامته المديدة في باريس في سلخه عن جذوره الريفية في مسقط رأسه في مدينة (إيكس- أو- بروفانس)، حيث ظل يرتاد الريف المحيط بها حتى أخر يوم في حياته، متميزاً عن سائر الرسامين الانطباعيين في تجسيد رؤيته لما اصطلح على تسميته فنياً بـ (الطبيعة الساكنة). ومن الأمثلة الواضحة على هذا التوجه، قيامه برسم جبل (مون سانت- فيكتوار) القريب من مدينته أكثر من 60 مرة.وعلى الرغم من أن سيزان ولد بعد عام من الرسام الفرنسي الانطباعي الشهير (بول مونيه )، وكان يصف الرسام (بيسارو) المؤسس الفعلي للمدرسة الانطباعية بأنه (والدنا جميعاً)، غير أنه كان يبتعد عمداً عن الاختلاط بالرسامين الانطباعيين وارتياد مقاهيهم، حتى إنه كان يرفض اعتباره واحداً منهم، مؤكداً أنه صاحب نهج مختلف قد يبدو انطباعياً للوهلة الأولى لكنه ليس كذلك في الواقع.وقد لعب الكاتب الروائي الفرنسي الشهير إميل زولا، صديق سيزان الوفي، دوراً مهماً في تشجيعه على مواصلة الرسم على الرغم من الرفض شبه التام لأعماله الفنية في أوساط المعارض والمتاحف والجمهور. وقابل ذلك الرفض، تقدير كل الفنانين الانطباعيين الذين عاصروا الرسام المتمرد، لخطه الجديد والمبتكر، الذي تم تصنيف مدرسته لاحقاً تحت اسم (ما قبل الانطباعية). وكان سيزان يقول إنه يريد تحويل الانطباعية إلى نهج أكثر قوة ، يصلح للتخليد في المتاحف.وبدأ سيزان في تطوير مدرسته الفنية الجديدة وأسلوبها المنهاجي في السبعينات من القرن التاسع عشر، مستخدماً الفرشاة المسطحة في ضربات متوازية على اللوحة، وواضعاً الألوان جنباً إلى جنب. وقد ألهم هذا الأسلوب الفراغي في الرسم جيلاً شاباً جديداً بالكامل، كان من بين أشهر ممثليه (براك ) و(بيكاسو)، اللذان قادا موجة الفن التكعيبي. كما أثر أسلوب سيزان في استعمال الألوان على رسامين فرنسيين شهيرين آخرين هما (لو فوف) و(ماتيس).ولم يحل الاقتراب من الانطباعية دون اقتراب سيزان بالقدر نفسه من الواقعية، حيث كان يهتم بأدق التفاصيل لكنه كان يرسمها بأسلوبه المتميز، فيوفر صورة وافية للواقع لكنها أغنى منه عملياً، من حيث إنها محاطة بهالة حسية قوية تخلف لدى من يشاهدها شعوراً قوياً بأنها منظر أليف اعتاد على رؤيته. وكان سيزان يقول: (هناك دقيقة معينة تعبر عالمنا هذا، أريد أن أرسمها على حقيقتها كما هي، وأنسى خلال ذلك أي شيء آخر في الوجود).وقد عاش سيزان ورسم لوحاته في أماكن مختلفة من فرنسا. فقد عاش وعمل في مسقط رأسه (إيكس - أو- بروفانس )، التي أمضى فيها الجانب الأكبر من حياته، وفي باريس وضواحيها أمثال (بونتو از) و(أوفير- سور- واز)، وفي قرية ليستاك لصيادي الأسماك القريبة من مرسيليا. وعلى الرغم من أن توسع مرسيليا التهم القرية بأكملها تقريباً، إلا أن بيت سيزان ما زال قائما فيما تبقى منها.وتكفي زيارة واحدة إلى جبل (مون- سانت- فيكتوار) القريب من مسقط رأس سيزان، لإدراك مدى تأثر الرسام باختلاف زوايا رؤية المشهد ذاته وتأثيره على المشهد النهائي، ومدى تأثره بالألوان والفراغ واللحظة، مما يكشف لنا النقاب عن روح متوثبة دؤوبة لا تعرف الكلل ولا الملل. ويندر وجود مثيل لصبر وتصميم سيزان على مواصلة الرسم، خاصة أنه أمضى أكثر من نصف عمره يرسم من دون أن يجد أحداً يعترف به رساماً، باستثناء بعض الأصدقاء الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.وكان سيزان لا يتردد في ركوب المصاعب وتحمل كل أنواع المشقة لرسم مشهد أعجبه، وهكذا أمضى وقتاً لا بأس به من حياته في محاولاته المتكررة لرسم جبل (مون- سانت- فيكتوار) وقممه الشاهقة، ممضياً أياماً بأكملها في لهيب الصيف وبرودة الشتاء وهو يرسم، وقد اصطحب معه ما يحتاجه من طعام وشراب وعدة الرسم، غير آبه بشيء وقاطعاً مسافات كبيرة سيراً على الأقدام بحثا عن أفضل موقع وزاوية لرسم الجبل العتيد. ومن المعروف أن استخدام سيزان المبتكر للألوان وتعبيره بأسلوبه الجديد عن المشهد، كان وراء نفور الناس والنقاد وأصحاب المعارض ومسؤولي المتاحف من أعماله الفنية خلال حياته. ومن الحوادث التي تكشف مدى حدة هذا النفور، ما تعرض له سيزان حين كان في السادسة والعشرين من عمره لدى عرضه لإحدى لوحاته في واجهة أحد المحلات التجارية، في شارع (كور ميرابو) الرئيسي في مسقط رأسه (إيكس- أون- بروفانس)، حيث تجمع حشد غفير من الناس المستاءين من اللوحة إلى درجة فرضت استدعاء رجال الشرطة لمنعهم من تمزيق اللوحة. وبعد تلك الحادثة بفترة غير طويلة، أعلن مدير متحف المدينة المحلي، أن أياً من لوحات سيزان لن يدخل المعرض أو يعرض بداخله طالما كان حياً. وهذا ما حصل بالفعل، حيث تم عرض أولى لوحات سيزان في ذلك المتحف في عام 1925 فقط، أي بعد مرور 30 عاماً على وفاة الرسام المعذب.وكان كل هذا الكم الهائل من الكراهية والإحباط كفيلاً بتحطيم إرادة أي رجل آخر، ناهيك عن فنان مرهف الأحاسيس، وثنيه عن مواصلة سعيه إلى إثبات وجوده في عالم الرسم. غير أن إرادة (أستاذ إيكس) (نسبة إلى اسم مسقط رأسه) كما لقب سيزان لاحقاً، كانت على ما يبدو قد قدت من معدن أصلب من أقسى أنواع الفولاذ. فلم يرضخ سيزان لحملات التشهير والنقد المغيض ولم يستسلم لليأس وواصل المقاومة وثابر على المحاولة والرسم، حتى حقق هدفه واعترف به الجميع رساماً فذاً وفناناً صاحب مدرسة جديدة ومرموقة.وقد أفنى سيزان زهرة شبابه في تلك المحاولات، معتمداً في تغطية نفقات معيشته على ثروة والده، ومعزياً نفسه بتأييد صديقه الروائي إميل زولا وأصدقائه الرسامين ماميل بيسارو، مانيه، مونيه ورينوار، غير أن الرسامين لا يشترون في العادة اللوحات ولا يوفرون للرسام مصدر عيش من بيع لوحاته. وحتى حينما بدأت الأمور تتغير لصالحه وراحت الاعترافات بتفرد فنه تنهال عليه من كل حدب وصوب، لم يتأثر سيزان بها ولم يتغير وواصل الرسم والسعي إلى ترسيخ نهجه الجديد في الرسم على الساحة الفنية.وابتنى سيزان لنفسه مرسماً في مسقط رأسه، يطل منه على المدينة العزيزة على قلبه على الرغم من رفض متحفها عرض لوحاته. وتحول المرسم اليوم إلى متحف صغير يحمل اسم (أتولييه سيزان) ويقع في شارع سيزان، بعد إعادة ترميمه وتأهيله ليستعيد الرونق الذي كان عليه حين كان الفنان الكبير يرسم لوحاته فيه. ويحفل المرسم ذو السقف الأزرق- الرمادي المرتفع بالكثير من أدوات وأشياء سيزان، في إطار ما يمكن تسميته بالفوضى المنظمة.وكان سيزان وفياً لأمنياته حين كان يكرر باستمرار أنه يريد الموت وهو يرسم، وهذ ا ما حدث بالفعل في ذات يوم من أيام شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1906، حيث توفي وهو يرسم في العراءيقال إن الفنان المبدع ناقد لمجتمعه وكائن غير متصالح مع الواقع الذي يعيشه.. من هنا يأتي دوره في تشكيل واقع جديد يجسد كل ما يتطلع إليه المبدع في تغيير هذا المجتمع... ولو طبقنا هذا على الفنان الفرنسي بول سيزان الذي يعتبر أباً للفن الحديث.. نعرف انه كان ناقداً للحركة التأثيرية في عمومها. الكل يتطلع إلى المدرسة الجديدة وهي التأثيرية أو الانطباعية.. والكل يعتبرها ثورة على الرومانسية والفن الكلاسيكي..وهو أيضاً معجب بها ولكنه ناقد لها يتأقلم مع مقاييسها وما نتج عنها من أعمال المبدعين العظام. وهنا وجد سيزان طريقه، عليه أن يعيد بناء العمل الفني حتى يعالج السطحية وقلة البناء في اللوحة.. عليه أن يرى الألوان من منظور آخر يعيد إلى اللون حيويته وقوة التعبير، ويأتي كل هذا بعد دراسة واعية للطبيعة وعليه أن يعيد للأجسام صلابتها.. وعليه أيضاً أن يبدأ بالرسم والرسم الجيد.. بدءاً بالطبيعة الصامتة ثم المناظر الطبيعية التي رسمها وتأملها من كل النواحي ووضع لمسات اللون على رسم جيد. هنا تحقق له الجانب الموضوعي في تأملاته الواعية حيث أصبح سيزان عنوانا جديداً بين الفنانين التأثيرين.. عرفوه بفنان ما بعد التأثيرية. وعرفوه أيضا بفنان البنائية أي البناء الفني للوحة... وجاء من بعده العديد من الفنانين الذين وجدوا في سيزان رائداً للاتجاهات الجديدة التي خرجت من عباءته من تكعيبية وتجريدية وغيرهما. أن التأمل الواعي هو الطريق إلى الجديد المتقدم.. ويظل سيزان ومن على شاكلته يسعون للتعبير عن أفكارهم وثقافتهم ويظل الإبداع قيمة يسعى إلى تحقيقها كل فنان مبدع وصادق في تناوله وتوجهاته.
|
ثقافة
الفنان التشكيلي العالمي سيزان أبو الفن الحديث
أخبار متعلقة