غضون
* الإسلام في أوله بعث العرب من مرقدهم وساعدهم على أن يصنعوا من أنفسهم أمة حية، ولايزال كما هو في قرآنه الذي يحض على الحياة وعمارة الدنيا، ولكن القبوريين ـ كما هي عادتهم إلى اليوم ـ يركزون على الآخرة وحدها ويشغلون الناس بأمر الساعة وموعدها على ما يترتب عليه هذا الخطاب من استهانة بالدنيا والحياة .. وليت أن التخويف بقرب يوم القيامة مثمر لجهة استقامة سلوك الناس في الدنيا، إذ أن أقدم موضوعات الوعظ الديني تستجر إلى اليوم دون أن تحقق أهدافها كما هي بنظر هذا الضرب من الوعظ والوعاظ.خطرت لي هذه الخاطرة وأنا على حافلة ركاب استمع مثل غيري لواعظ ـ عبر شريط كاسيت ـ يتحدث ويبكي ويبكي معه المريدون رعباً من أهوال القيامة التي جزم الواعظ أن موعدها بات وشيكاً جداً مستدلاً على ذلك بأحاديث نبوية وآيات قرآنية يفهم منها غير المتأمل في النصوص الدينية أن (أشراط الساعة) قد تكاملت وأن يوم القيامة أزف فلا ننشغل بغيره في دنيانا.* يذكر القرآن ان بعض العرب كانوا ينكرون البعث والقيامة وكانوا يسخرون ويسألون من باب التعجيز: (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين)؟ فلم يرد عليهم القرآن بإجابة تحدد موعد الساعة أو القيامة .. لم يقل غداً أو بعده أو بعد مائة أو ألف سنة أو أي موعد محدد .. وإنما أكد على أنها ستكون، ولفت الانتباه إلى المهم وهو الاستعداد لذلك اليوم، لأنه سيأتي بغتة .. لكن متى؟ العلم عند الله.أتذكر أني قرأت مرة كلاماً لمفسر أو شارح حول آية في سورة طه (وأن الساعة آتية أكاد أخفيها ..)، وهي آية من كلام الله إلى موسى، تعلمنا في كتاب مدرسي أنها تشير إلى اقتراب موعد الساعة، وان العلماء يمكنهم معرفة موعد الساعة من أشراطها لأن الله لم يخف موعدها تماماً، بل قال (أكاد أخفيها). المفسر الذي لم يحضرني اسمه قال كلاماً مختلفاً تطمئن إليه النفس، وهو ان المقصود بذكر قرب موعد الساعة تهيئة النفوس لها، وليس ضرب موعد محدد قريب، بدليل ان القيامة لم تقم منذ عهد موسى البعيد جداً وحتى هذه الساعة.* يكفي المؤمن أنه في هذه المسألة يؤمن باليوم الآخر وما ينتظره من حساب وجزاء على افعاله في الدنيا، وان يعي ان القرآن أكد على الساعة وأنها آتية .. وان لا يشغل بعد هذا بالحديث عن متى (هذا الوعد)؟ .. بل ينبغي أن يفكر ويشتغل بترقية نفسه ومجتمعه .. فعمارة الدنيا قبل عمارة الآخرة .. ومن كان في هذه الدنيا متخلفاً فكيف يمكنه التقدم إلى الآخرة بشيء مفيد.