إعداد/ إدارة الثقافةإذا أردنا أن نتتبع مسيرة حركة الفنون التشكيلية في ليبيا، فلا بد أن نتوقف لإلقاء نظرة ولو موجزة على الأحداث التاريخية التي مرت بهذا البلد، ولنبدأ بمطلع القرن الحالي حيث كانت ليبيا ضمن المطامع الاستعمارية التي تقاسمت العالم، وكانت إيطاليا قد وضعت عينها على هذا البلد حتى يكون شاطئاً رابعا لها، خصوصا بعد تهالك الدولة العثمانية.. تلك الدولة التي أكلت الأخضر واليابس ولم تترك من بصماتها إلا الفقر والجهل والمرض.وهكذا أصبحت ليبيا فريسة لغزو إيطالي وحشي لا يرحم ودفع الشعب الليبي الأعزل أكثر من نصف سكانه وسجل بطولات نادرة شهد بها الأعداء وجابت القوات الايطالية البلاد شرقا وغربا وجنوبا لتدمير ما تبقى. وما كادت الحرب الإيطالية تضع أوزارها حتى بدأت الحرب العالمية الثانية، وكانت الأرض الليبية مسرحا لكر وفر القوات المتناحرة التي تتصارع على اقتسام العالم كالوحوش على فريستها، ولم يكن لأهل البلد في هذه الحرب ناقة ولا جمل. في هذه الأحداث المأساوية الداكنة، كانت الحياة فوق هذه الأرض شبه مستحيلة، القتل والتشريد، الهجرة، المطاردة بالإضافة إلى قسوة الطبيعة حيث أن اغلب مساحة البلاد صحراء.. بحار من الرمال، بلا ماء، بلا عشب، فلا استقرار ولا عيش كريم. ومن المعلوم أن الحياة التشكيلية لا توجد إلا في كنف الاستقرار ولا تزدهر إلا في ظل العيش الهني ، لهذا فإن إنسان تلك الفترة لم يقم بأي نشاط ثقافي يذكر، وإنى له ذلك؟ ومن نجا منهم فهو يعيش من اجل البقاء أن كان قادرا على التنفس. تلك فترة من الزمن مرت بكل بشاعتها وقسوتها ثم هدأت أصوات المدافع والبنادق وتلاشت رائحة البارود، ثم يفاجأ الليبيون مرة أخرى بأنهم تحت سيطرة أخرى، قواعد أمريكية وبريطانية، وجالية إيطالية وعالق الليبيون سنوات الرماد بعد سنوات الجمر. انشأ الإيطاليون أثناء بقائهم بعض المباني الإدارية والسكنية. كان تأثير المعمار الليبي واضحاً فيها. (فندق عين الفرس (بواحة غدامس ) دار قولبي) بطرابلس المتحف الإسلامي حالياً. شيد الإيطاليون الكنائس ورسموا عليها بعض الأعمال كما في كنيسة القديس فرنسيس. وكان بعض الرسامين الإيطاليين يقومون برسم الدعاية التجارية والسياسية وأغلفة المجلات، وظهرت في الميادين بعض الأعمال الفنية منها (نافورة الخيول) بميدان الشهداء بطرابلس (نافورة الغزالة) ومشاهداً استعمارية (الذئبة وأبناؤها) وهذه أزيلت ووضع مكانها تمثال لفارس من ليبيا. ونقل تمثال(سبتيموس سيفروس ) إلى مدينة لبدة الأثرية مسقط رأس الإمبراطور. طبعت بعض الصور البريدية لمشاهد من المدن والقرى والأرياف مرسومة بالألوان المائية. سيطر الإيطاليون على مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية وهيمنوا على إنتاجها وخصوصاً الإنتاج الخزفي وسخروه لخدمة أغراضهم الاستعمارية. رغم كل العواصف العاتية وسنوات الرماد الكئيبة استطاع الشعب الليبي أن يصمد ويضمد جراحه ويبدع فحافظ على أصالته في المدن والقرى والأرياف والواحات وتحت الخيام في مجاهل الصحراء، كانت الفنون التقليدية كالزخرفة والتطريز وصناعة البسط والكلم والمرقوم وملابس الرجال والنساء والأحذية، صناعة السروج والحصر والأدوات التقليدية المستعملة من سعف الخيل وغيرها من المواد، تفننوا في زخارف البيوت والأدوات المنزلية، حافظت العمارة على جمالها وبساطتها في المباني والبيوت والمساجد والخلوات الصوفية حتى امتدت يد المعماري الفنان إلى أن تتقن حتى في مصادر المياه لتبدع اشكالاً انسيابية بهندستها وجمالها وبساطها. في تلك الفترة تأثر بعض الفنانين التشكيليين بتلك الأشكال والمعطيات والأساليب وكان من الذين تأثر بذلك المرحوم/ المهدي الشريف ، والمرحوم محمد الارناؤوطي، وأبو القاسم فروج ثم خرج جيل آخر وخصوصاً بعد فتح المدارس الثانوية العربية . ثم توالت المواهب فكان في طرابلس الفنان محمد البارود والفنان عبدالمنعم بن ناجي والفنان الهاشمي دافيز والفنان علي القلالي. كان الفنان محمد الباروني عصاميا ومحترفا للرسم إلى اليوم وكان له مرسم خلال الستينات والسبعينات على شاطئ جنزور ثم استقر به المقام رساما في بيته أما الآخرون فقد تم حصلوا على بعثات دراسية إلى الخارج في مجال الفنون وانهوا دراستهم وعادوا ليساهموا في إثراء الحركة التشكيلية كل حسب تخصصه واختياره. كذلك، التحق الفنان على سعيد قانة ببعثة دراسية في فن النحت والرسم الزيتي فبجداري والتحق الفنان مصطفى الخمسي، والتحق الفنان الطاهر الأمين المغربي، والفنان محمد عبد الحميد الصيد والفنان احمد الشريف والفنان المرحوم احمد الحاراتي والفنان عبد السلام المرابط والفنان محمد عزو والفنان على ارميص والفنان يوسف كافو والفنان على مصطفى رمضان والفنان محمود الشريف والفنان محمد شعبان. وبعدما انهوا دراستهم الأكاديمية بدأوا يعودون تباعا منهم من تحصل على درجات متفوقة.. عادوا ليأخذ كل منهم مكانه بين صفوف مجتمعهم سواء بالتدريس بالجامعات والكليات والمعاهد أو التحقوا بالدوائر التي تهتم بهذا المجال. تأسس نادي الرسامين سنة 1960على يد مجموعة من الهواة ومحبي هذا الفن وكان مقره مغمورا بإحدى الفرق المسرحية سرعان ما تركوه لمجموعة من الشباب من الجيل الجديد الذين تألقوا في المعارض المدرسية والمهرجانات الشبابية، منهم علي العباني، أحمد المرابط، محمد الحاراتي، خليفة التونسي، محمد الساعدي ، يوسف القنصل، فتحي الخراز والصيد الفيتوري كانوا أعضاء في إدارة النادي وكان يتردد على النادي مجموعة من الهواة منهم احمد ابوصوة ، مفتاح أبو طلاق، احمد التركي، عبد القادر المغربي، علي عامر، عمر سويدان بالإضافة إلى مجموعة من الشباب محبي هذا الفن وقد قاموا جميعا رغم الإمكانيات المتواضعة لعدة نشاطات جماعية ومعارض بجناح خاص بمعرض طرابلس الدولي سنوياً وأقاموا معرضا بنادي الهلال بمدينة بنغازي. أقام الفنان الطاهر المغربي قبل أن يوفد للدراسة مع الفنان محمد عزو والفنان الأمين المرغني أقاموا بمدينة طرابلس المعرض الليبي الأول. أسس الفنان على سعيد قانة قسم الفنون التشكيلية بالجامعة بمدينة طرابلس واسهم في تخريج العديد من الفنانين سواء بقسم الفنون أو العمارة وكانت له إسهامات جادة بنادي الرسامين . عاد الفنان الطاهر المغربي بعد منتصف الستينات وكان له إسهام طيب بنادي الرسامين وترأس إدارته إلى أن قام هو ومجموعة من الفنانين منهم علي العباني، علي أرميص، خليفة التونسي المرحوم علي بركة قاموا بتأسيس دائرة الفنون الجميلة بوزارة الثقافة تلك الدائرة التي كانت امتداداً طبيعيا لنادي الرسامين الذي انتهت مهمته في تلك الفترة. أقامت دائرة الفنون هذه عدة معارض جماعية ومسابقات فنية ورصدت عدة جوائز في مجال الفنون التشكيلية والخط والزخرفة، ووضعت للفنون التشكيلية المفهوم الصحيح، واستضافت معرض السنتين العربي بمدينة طرابلس سنة 1960. تم إصدار كتاب (تأملات وأضواء) علي مصطفى رمضان - الطاهر المغربي- علي العباني - تم إصدار (تأملات في المعمار الإسلامي في ليبيا) علي مصطفى رمضان- بعد قيام الثورة المجيدة في صباح الفاتح من الشهر التاسع سنة 1969 وتسلم الشعب زمام أموره لم تمر سنة حتى تم طرد القوات الأمريكية والبريطانية وطرد الجالية الإيطالية التي كانت جاثمة كالكابوس على صدر الشعب. تم توالت البعثات الدراسية والتحق بها الفنان بشير حمودة ، ثم على العباني يوسف القنصل، والمرحوم مسعود الباروني،التيجاني احمد زكي، فتحي الخراز ثم عمر الغرياني ، سالم التميمي، محمد الشريف، فوزي الصويعي، عياد هاشم. من الفنانين الذين كان لهم نشاط بارز في مدينة بنغازي حسن بن دردف عمل رئيسا لدائرة الفنون التشكيلية بنغازي- والفنان احمد أبو ذراعه رئيسا لقسم الفنون بالجامعة الفنان محمد استيته مدرساً بجامعة بنغازي - أسمهان الفرجاني خريجة كلية الفنون القاهرة، الفنان محمد سويسي رئيس قسم الفنون بمدينة درنة وغيرهم من الشباب الواعد الذين لا يتسع المجال لذكرهم. كان الفنان عبد السلام النطاح والفنان المرحوم مسعود الباروني يمثلان ثنائياً منسجماً يحترفان الرسم إلى جانب تدريسهما لهذه المادة وكان ثالثهما الفنان حسين الجواشي الذي كان تدريسه للرسم يأخذ كل وقته وجهده. أما مجموعة مدينة الزاوية فهناك الفنان عمران بشنة والفنان عبد الصمد والفنان محمد الاصقع وغيرهم من الشباب. كان محور الإنتاج الفني منذ بدايته محاكاة للواقع. افتتن الفنانون بالريف الجميل البكر، والحياة الشعبية الوديعة، والحنان العائلي الرائع الذي ضم الأسر بعد سنوات البعد والتشرد، وكان دفء المعاملات الحميمة بين الناس في المدن والقرى والضواحي، في الأسواق والشوارع في الحارات والأزقة كانت الصحراء بواحاتها ونجوعها- بخيلها بفرسانها وبجمالها وكانت الأرض الطيبة بضوئها وظلها بشمسها الساطعة وليلها المتوج بالقمر والمرصع بالنجوم ببحرها الغضوب شتاء والرقراق في كل صيف بسحبها الحبلى بالخير والعطاء بنخلها وزيتونها برمانها وريحانها، وبتراثها وانتمائها بميراثها الحضاري وأصالتها.. كان ذلك كله هو النبع الذي ارتشف منه الفنان رحيق إبداعه ليحيله إلى لوحات تجسد ارتباطه بأرضه وقيمه ولاقت هذه الأعمال استحساناً داخل البلد وخارجه بالمعارض الجماعية والفردية.
|
ثقافة
تاريخ الفن التشكيلي الليبي
أخبار متعلقة