في خضم وأتون أوضاعنا السياسية الملبدة بالعنف والفوضى، والتي عمت بلادنا العربية فيما أطلق عليه الربيع أو الخبيط العربي .. سيان .. تذكرت قصة قرأتها زمان .. دعوني أحكيها لكم .. ولكن بتصرف .. تقول القصة: زعموا أن رجلاً عرف بصحة الرأي وبعد النظر .. كان أعجوبة الأعاجيب في أمته.. ما لبث أن طارت شهرته فعمت العالم. وشاء القدر أن يغادر بلده إلى بلد بعيد، فسبقته شهرته، وعرف أهل البلد بمقدمه، فاحتفوا به، وانزلوه منزلاً كريماً، وقرر كبار رجال البلد أن يستفتوه في مشاكلهم، ويستنصحوه فيما صعب من أمورهم.فأوفدت وزارة الشؤون الاجتماعية وفداً من رجالها سأله: ماذا نعمل لنقضي على الفقر، وكيف نتغلب على مشكلة البطالة، والعنوسة وبناء عش العصفورة لكل عريس وعروسة، وإلى غير ذلك من مشكلات تدخل في اختصاصها.وأوفدت الوزارات كلها تسأله عن حل لمشكلاتها، فوفد وزارة المالية يشكون من قلة الدخل وكثرة الطلب، ومن الناس ونظرتهم إلى مال الدولة وأراضيها كأنه غنيمة يحل نهبها، ووزارة العدل تشكو من ضياع العدل في الأمة، فالمحسوبية والوساطة والرشوة أضاع معنى العدل.وهكذا لم تبق وزارة من وزارات الدولة إلا رفعت صوتها بالشكوى، وليت الأمر اقتصر على الوزارات، فكل فئة من فئات الشعب اشتكت .. الفلاحون والعمال يشكون الفقر والبؤس، والموظفون يشكون قلة الراتب، والتجار يشكون احتكار الثروة المرتبطة بالسلطة، وكل حزب يتهم الأحزاب الأخرى، والكل يتهمون الحكومة، والحكومة تشكو الأحزاب وتشكو الناس لأنهم يلقون كل أعبائهم على الحكومة.وجاءه رجل فقال: لست أمثل وزارة ولا حزباً ولا نقابة ولا أي جماعة، ولكني أشكو من شكوى الناس، فكلما جلست إلى شلة في أي مجلس، في فرح أو حزن، متعلمين أو جاهلين، ملأوا مجلسهم بالشكوى من فساد الأخلاق وسوء الأحوال. ثم لم يزد الأمر بعد على أن ينفض المجلس ومن تكلم معجب بفصاحته وبلاغته، والسامعون مسرورون بقضاء الوقت في حديث لطيف وكلهم يختم الجلسة بغسل يديه من الموضوع، والاكتفاء بالدعاء إلى الله أن يصلح الحال.وجاءه رجال الدين يقولون: إن سبب الفساد كله هو عدم التمسك بالدين، فلو نصحت بأن يتبع الناس الدين لذهب كل ما سمعت من شكوى ولاستقامت الأمور وصلحت الأحوال، ففساد الأحوال لا سبب له إلا غضب الله على الناس من عصيان أوامره وارتكاب نواهيه.وهكذا تتابعت الوفود على هذا الرجل تعج بالشكوى حتى خيل إليه أن ليس في هذه البلد إلا شاكون، وأن ليس لهم وظيفة إلا الشكوى.ومع هذا طيب خاطرهم، ووعد بأن يجد حلاً لهذه المشكلات كلها في أسبوع، وحدد لهم موعداً في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم.وحان الوقت، وحضرت الوفود ممثلة لكل الفئات، واشرأبت الأعناق، وأرهفت الأسماع، فقام بينهم خطيباً وقال:سيداتي! سادتي!إن كل ضروب الإصلاح التي سمعتها موجهة إلى الجيل الحاضر، وليس فيه كبير أمل، إنه جيل فاسد، قد أفسدته السياسة بألاعيبها، وأفسده الجو الذي عاش فيه، والخلاف الذي دب فيه، والعقلية التي حلت فيه، والمثل التي قدمت له .. كل خطأ الآراء التي سمعتها أنها علقت الأمل على شيء مهدم، وعلى بناء متداع .. لقد فقد كل منكم الثقة بأخيه، ولا حياة إلا بالثقة، ولا عودة للثقة إذا زالت. لقد شممت من اقتراح كل منكم أنانية بغيضة، وتعصباً للرأي ذميماً، واحتقاراً لرأي الغير معيباً، فتفرقت بكم السبل، وزال بينكم الحب، وساد فيكم ضيق النظر. وهذا هو الانحلال!نصيحتي لكم ألا ألتفت إليكم، وألا تلتفتوا إلى أنفسكم، ولا أعلق الرجاء عليكم، ولا تعلقوا الرجاء على أشخاصكم، وأن تلتفتوا معي إلى صغاركم، ثم ماذا تعملون لصغاركم.أنشئوا لهم المدارس التي تتسع لهم جميعاً، واحملوا الحكومة أن تخصص أكبر ما تستطيع من ميزانية لهذه المدارس.ثم لا أمل في هذه المدارس إذا علمتم تلاميذها ليكونوا مثلكم في عقلكم وأخلاقكم، علموهم أول ما تعلمونهم فن الحياة الذي فشلتم فيه،. علموا أطفالكم جميعاً الأمانة والرجولة ونظافة اليد، وقيمة الحق، والشجاعة في قول الحق.علموهم ضد ما تعلمتم في السياسة، علموهم من صغرهم أن يحكموا أنفسهم ليصلحوا إذا أسند الحكم إليهم، وعلموهم الحرية التي لم تعرفوا أنتم أن تنتفعوا بها ليعرفوا هم كيف ينتفعون بها، وعلموهم الإيثار والتضحية على ضوء ما عانيتم من الأثرة والأنانية! وجهوا كل همكم إلى الصغار، إلى الجيل القادم، إلى قادة المستقبل، واجتهدوا أن تحموهم من تقليد جيلكم، فإنكم إن تعبتم في إنشاء جيل واحد على هذا النمط ضمنتم الخير لأجيال متعاقبة .. أما أنتم فليغفر الله لكم .. وما عليكم إلا أن ترحلوا!وفي ختام الخطاب هاج السامعون وماجوا، وسخط عليه القوم لسماجته وقلة حيائه ووقاحته .. وأجمعوا رأيهم على أن يودعوه مستشفى المجانين![c1]E -mail:[email protected][/c]
علينا أن نرحل
أخبار متعلقة