الأديب الفرنسي بول نيزان ..
نجمي عبدالمجيد يقول الأديب الفرنسي بول نيزان: (لقد علمتني عدن أن علي أن أفهم كل شيء في بلدي الأصل) فهل كانت رحلة هذا الكاتب إلى عدن بحثاً عن أشياء افتقدها في موطنه، فكان الرحيل إلى هذا الجزء من العالم؟.لقد قرأ الكثير عن هذه المدينة، وتوقف أمام كلمات سامسون وما كتبه عام 1683م عن عدن حيث قال: (كانت عدن أبهج وأجمل مدينة في جزيرة العرب، تحيط بها أسوار عالية من جهة البحر، وجبال من جهة البر. وعلى قمم هذه الجبال تشاهد عدة قلاع. وتبلغ منازل عدن ستة آلاف في الأقل. وتقع عدن وراء البحر الأحمر، على حد المحيط العظيم.)كانت عدن بالنسبة له مدينة من مدن الشرق مهد الحكايات والتخيل والجنوح نحو الحلم، مدينة جاء ذكرها في الكتاب المقدس مهبط الحكاية الأولى لسكن قابيل، فقد قرأ عنها في الأسفار منها ما جانب الحقائق ومنها ما حمل من لغة الخرافات والأساطير والمغامرات لتولد في المخيلة أكثر من حكاية، كلها تشد الوجدان وتدفع برغبة الترحال نحو ارتياد تلك العوامل عبر البحار، أنها قصة الرحيل الأبدية حيث لا تقف أبواب المغامرة عند مسافات العبور ولكن بالالتقاء مع المغاير، ذلك الشيء الذي يعيد تشكيل الرؤية في الذات.بين المخيلة والأشياء تتجاور لغة التخاطب مع الكون هذه هي عدن يرى فيها بول نيزان حكاية من ماض سحيق، مدينة جاءت من النار لتحلم في أحضان البحر، وفي هذا يكتب قائلاً: ( وهذا هو المكان ذو الجمال الأخاذ الذي تموت وأنت تنظر إليه).وعدن بركان قمري كبير انفجر أحد جوانبه كبرميل بارود قبل أن يوجد رجال ينسجون الأساطير عن الانفجار ولو أنهم فيما بعد نسجوا أسطورة تقول إن عودة بركان عدن للحياة - وعدن بوابة جنهم - سيكون إيذانا بنهاية العالم.إنها جذع هرم محمس إلى فلذة أرجوانية في عالم أزرق ومتوجه بخرائب حصون تركية.إنها صخرة محاطة بتموجات دائرية ألقيت من قبل طائر الرخ في طرف المحيط الهندي. إنها إطار لمغامرات السندباد البحري تتصل بشبه الجزيرة العربية الكبيرة بحبل سري من الرمال وسبخات ملحية تحرقها شمس متقدة لا تكترث بدعاء البشر.إنها محاطة بصحار مائية يغطيها السمك الهلامي وتلقي بالعصب والأصداف الحادة والسمك.وفيما بين رأس معاشيق وخورمكسر تمتد ضفاف كاملة مؤلفة من الأصداف وهياكل أسماك غريبة تبدو مثل عروق أوراق شجر متيبسة. وقد قال ركلوس: عند تبدل المواسم يلقى بما لا يعد ولا يحصى من السمك من كل فصيلة ميتة على سواحل بريم وعدن).هكذا يرى عدن بول نيزان بين المخيل والتاريخ فصل من قصة تعود إلى زمن الانفجار الكبير براكين عدن، وكتابة أول السطور من قصة هذه المدينة، فهل سعى لقراءة فقرات من هذا السجل على صفحات الأحجار وأصداف السواحل، وهل نظر في عمق جبالها لعله يسمع بعض الكلمات التي تحكي عن ميلاد عدن؟؟إن المخيلة تصنع في الذاكرة صوراً ومساحة تتولد فيها معالم لم توجد في الواقع، غير أن العقل الذي يرى في المكان حكاية توجد معها الأجواء والأسباب لرسم عالم يخلق على هذا المكان وجهاً يعطي للنفس مسافة ترحل من يقظة الواقع إلى متخيل العالم، ذلك ما يدفع الفرد إلى المغامرة ليس مع الذات فقط بل مع الأماكن، فالحلم قبل الفعل هو ما يدفع الإنسان لصياغة غرضه. غير أن المتخيل تقف حدوده عند حقائق الحياة، عدن في أوليات القرن الماضي مدينة أدخلها الوجود البريطاني في مراهنات تلك الحقبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مدينة يأتي إليها العالم وبوابة العبور إلى أسواق التجارة والصناعات، عدن في تلك الحقبة مدينة يعاد صياغة أحوالها بفعل ذلك الوجود البريطاني، لم يجد بول نيزان فيها كما نظر غير ما كانت تنسجه المخيلة، بل هو واقع الحال، عالم من الأجناس والأوضاع وحركات أعمال ومستويات من الحياة، إنها عدن البريطانية، صورة من ذلك القادم عبر البحار، لذلك تتغير مفردات الوصف لديه من حالات التخيل إلى وضع المدينة القائم حيث يقول: (تهيمن طرقات الدوريات المحصنة على الممرات في الجبال الفاصلة بين المدينة الأهلية والمدينة البريطانية وهناك أنفاق سوداء مليئة برائحة النشادر الصادر عن البراز وقرى من القبور وأخرى من المنازل وخزانات نفط حديدية وثكنات تطل على البحر ومرابض طائرات ودار ماسونية وكل ما يلزم للسعادة.وفوق الطرقات الصخرية تمر الجمال المحملة ببراميل الماء وشاحنات لتصريف الفضلات وسيارات أمريكية يقودها صوماليون معممون وجنود انجليز وهنود وخليط من الناس. لقد كانت عدن أبداً سوقاً وحصناً كما قال كلود موريسو في عام 1663م.تهمهم عدن مثل حيوان كثيف الشعر كبير الحجم قد مرغ في التراب وأصبح مغطى بالذباب وفي الأزقة الضيقة في السوق يضغط كثرة من الناس فيما بين جدران أكشاك الشارع وتنسدل لفات الحرير من الأنوال اليدوية مثل حية أفعوانية جميلة الألوان ويظل الصيارفة الهندوس القابعون على عتبات دكاكينهم مرتدين سترات لماعة تبلغ الركبتين يكبون في أيديهم أكواماً من الروبيات والجنيه الذهبي ودولارات ماريا تيريزا التي جاء بها أتباع الانجليز طرف شبه الجزيرة قرابة عام 1839م.وقرب بوابات مقاه صغيرة مليئة بالدخان يربض الرجال سعداء يدخنون النرجيلات وينفخون على جمرهم وفي بعض الأحيان تكون ظهورهم مغطاة بأكواب من قرن الماعز تمتص الدم الفاسد.إن المقاهي في غاية الأهمية فهي من الأماكن التي يتحقق فيها الكيف. وبوسع المرء أن يقرأ روايات رحالة من زمن آخر ويجد أن المقاهي على الأقل لا تتبدل ويصفها نيبور الذي زار الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر.ليس للكثيرين من العمال الأهليين منزل وهم يفترشون العراء أو ينامون في هذه المقاهي.وأما الصوماليون فيلعبون مباريات الدومينو الصاخبة التي لا تنتهي والزنوج هناك جميعهم يشبهون سكان مرسيليا أو طولون.ويردد الأطفال في المدارس الإسلامية الآيات في غرف دراسية مفتوحة مثل الدكاكين ولا يبدو أن ذلك يزعجهم. وينتقل الشحاذون، وفي كل مكان تتم صفقات صامتة، إذ هناك شفرة من إشارات بالأصابع التي تلتقي تحت ثوب ولا تأتي الصيحات إلا بعد إتمام الصفقة.وفوق هذه الحياة تطفو رائحة فاسدة حادة معطرة بالبخور .. تلك هي رائحة الشرق الرائعة التي لا تنسى.ويعمل البيض والهندوس المختبئون في أوكارهم الصحية تحت مراوح في مكاتب حيث يمشي أهل البلدة حفاة فيما بين الطاولات وتبقى الآلات الكاتبة ترسم أبداً عدداً صغيراً من العلامات السوداء الصغيرة - وحياة الأوربيين تتألف من ربط هذه العلامات وتفكيكها أو إعادة ربطها.إنها لعبة للمجانين، وفي الخارج وتحت الشمس المحرقة، يتوجه قطيع من الأغنام إلى المرفأ برؤوس سوداء وحمراء ولكل منها ذيل قصير عريض مليء بالشحم).بهذه الصورة تظهر عدن في واقع أمرها، مدينة تجمع بين صفات عراقتها مع التاريخ والعالم وبين الحالة البريطانية التي تفرض عليها مسارات جديدة من مناحي الحياة، فالمدينة ما زالت في بداية تشكل ملامحها الحديثة، وعنفوان صدامها مع تحديات الغرب الاقتصادية والسياسية، وهي في هذا الموقع الجغرافي الفاعل لا يمكن أن تترك دون إدخالها في توازنات الأحلاف والمصالح بل ورغبة التسيد المطلق عند القوة البريطانية التي جعلت من عدن في مرتكز السياسة الدولية وكانت السياسة البريطانية قد أخذت ذلك في عملها الذي لا تقف خطوطه عند حدود عدن بل امتد نحو كل مناطق الجزيرة العربية، وهذا الاتجاه كتب عنه المقيم السياسي البريطاني ميجر سكوت الذي شغل هذا المنصب من عام 1920م حتى 1925م في تقريره قائلا: (بودنا لو تطورت المؤسسات الإنتاجية البريطانية في اليمن. والبلد مدروس في بعض مناطقه فقط، ولكنني واثق من أن فيه إمكانيات كبيرة، ولا نحبذ أن يمتلك الأجانب هذه الثروة التي من شأنها أن تساعد على ازدهار إمبراطوريتنا).كانت عدن عبر مراحلها التاريخية موقع صراع وتنافس بين القوى العالمية حسب الموازين التي تفرض أهداف كل مرحلة، ولم تكن أمريكا خارج هذه الدائرة، حيث افتتحت القنصلية الأمريكية في عدن عام 1895م في التواهي، ولكن قبل هذا العام كانت حكومة الولايات المتحدة قد عينت في عام 1879م أحد التجار الأمريكيين في عدن واسمه المستر وليم لوكرمان ممثلاً لها.كانت القنصلية الأمريكية في عدن عين الدولة الأمريكية في منطقة جنوب البحر الأحمر بأسرها، وقد تحملت مسؤولية رعاية المصالح الأمريكية القائمة ومن يعمل لحساب هذه المصالح، وكذلك العمل على إدخال عناصر جديدة في العلاقات التجارية بين عدن واليمن والجزيرة العربية، وفتح قنوات جديدة لدخول البضائع الأمريكية إلى تلك المناطق.إن القاعدة العسكرية البريطانية في عدن قد جعلت من هذه المدينة خط مواجهة في صراعات تلك الدولة التي حكمت أكبر المساحات من قارات العالم، وفي الداخل رسمت بريطانيا حدود عدن مع مناطق القبائل والدويلات المجاورة حتى يصبح لعدن كيانها الخاص الجغرافي والسياسي والاقتصادي، وما التعدد في الأجناس والمذاهب والقوميات إلا عملية تشكيل لطابع عدن الإنساني القادر على الالتقاء مع كل الأطراف.يصف بول نيزان حركة الحياة التجاري في عدن قائلاً: (في الميناء المفتوح الكبير فيما بين التواهي والمعلا حركة عظيمة وبواخر البينو والخطوط البحرية الفرنسية تختط لنفسها طريقاً وسط تشابك من سفن الشحن العتيقة وناقلات النفط وقوارب بمحركات والقوارب العربية الشبيهة بالمراكب الشراعية السريعة ولها سلوقيات زرقاء أو خضراء جميلة تنسحب ظلالها على الماء مثل الحيات. وعندما تأتي بواخر الركاب إلى الميناء فالاستعماريون يصعدونها: النساء يتوجهن إلى الكوافير والرجال إلى البار.وينساب النفط في أنابيب مركبة كبيرة موضوعة تحت سطح الماء وكأنها حيات مائية إنها الحيات الحقيقية الوحيدة والنفط يغذي خزانات البواخر.قبل وقت ليس ببعيد كانت عدن محطة فحم. وأتى النفط بالمكاتب والمرافئ والخزانات السوداء للشركة الانجلو فارسية وشركة النفط الآسيوية ومؤامرات تثير مشاعر الحكام المحليين الصغار الذين قد أصبحوا بائعي نفط.تتكدس حتى السقوف مخازن المعلا وصومال يعملون في أكياس السكر والأرز وبآلات جلود الماعز وبراميل الزيت المختومة بدب أو غزال، ويغني العمال العرب وهم يعملون في صناديق الشواء هذه لأنه بدون إيقاع أغاني العمل سرعان ما سينسون ما الذي عليهم عمله.إن عدن عقدة تربط بين خيوط كثيرة ولم تلزمني شهور لأستنفذ مناظر وأصوات الشرق الجميلة وأتعرف على القوى التي تمسك بالخيوط وتشدد من ضغط العقدة.إن عدن هي مفترق الطرق لخطوط بحرية عديدة تحددها الفنارات وجزر صغيرة مدججة بالمدافع.إنها إحدى الحلقات في السلسلة الطويلة التي تحافظ على أرباح رجال الأعمال اللندنيين في أنحاء العالم.إنه ميناء مليء بالرموز القاتلة وهي رفيقة جبل طارق).كانت عدن في تلك الحقبة من يشارك في صناعة القوة الاقتصادية لمكانة بريطانيا، فلم تكن تقف عند خطوط التقاطع في العلاقات الدولية، بل أصبحت عبر منافذها البحرية نقطة تواصل مع اقتصاديات الصناعات الغربية المتنافسة على الممرات البحرية ومحطات الوقود وأسواق تصريف البضائع.فلا غرابة أن يكون الطابع الغربي هو ما يغلف بعضاً من مناطقها مثل التواهي التي عرفت باسم “الحي الأوروبي” حيث الميناء والحركة الاقتصادية المعتمدة على حركة الاتصالات، ومع العقول المتحركة مع هذا المد الذي يربط المال بالمصالح السياسية، وذلك ما جعل بول نيزان يرى في هذا العمل حقيقة الدور البريطاني في هذا المكان، جغرافية توجدها السياسة وتقود الأهداف الاقتصادية، عالم إنتاجه من خلال تكريس القوة المنتجة في هذا الموقع.يقول واصفاً الشارع العدني: (من حيث أنا يمكنني رؤية طريق العيدروس متوجهة نحو مسجد العيدروس الكبير ذي اللونين الأخضر والأبيض ومن قمته في مطلع الصباح ينادي المؤذن للصلاة المؤمنين من رياح الأفق الأربعة بينما تردد المساجد الأخرى من أطراف كريتر الأربعة.وتبدأ الأغنام النائمة أمام الأبواب، والأهلون النائمون فوق أسرتهم من الحبال وكأنهم موتى البسوا البياض بالتململ قليلاً.وينتهي الطريق عند انقسامه بدعامات صخرية ويضيع في ممرات تؤدي إلى المسلخ وبرج الصمت الذي هو دار الموتى).قدم لنا الكاتب الفرنسي بول نيزان في هذا الكتاب بعض الصور لمدينة عدن في حقبة غاب الكثير من معالمها عن مشاهد حياتنا في الحاضر، فهذا النوع من المؤلفات يشكل ذاكرة لمن يسعى إلى استعادة تاريخ عدن في عشرينات القرن الماضي، مدينة تأخذ فيها صفات التغير ملامحها من خلال توسع مركزها في النفوذ البريطاني وعلاقته في السياسة الدولية، وبول نيزان يكتب عن مدينة جاء إليها عبر المخيلة، غير أن واقع الأمر جعله يعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب، ومن عدن تعلم بعض فصول القراءة، فكانت هذه المدينة من المعالم التي تعلم الإنسان أوليات الأبجدية في معرفة سفر التكوين الحضاري.