في إحدى الأمسيات الأكتوبرية من عام 2005م عندما عدت إلى بلاط صاحبة الجلالة مديرا لتحريرها مرة أخرى، بعد إقصاء قسري له قصته، لم أتورع عن الذهاب إليه - وكان حينها سكرتيرا للتحرير - بسريرة صافية وثقة عالية.. وقلت له:تعال يا عمر نعمل معـا ماكيت الصفحة الأولى.قال : مالك يا أبو النجب.. لا يفتى ومالك في المدينة!قلت له : أي مسافة قصيرة أو طويلة المدى تفقدك شيئـا من حساسية قرن استشعار موهبتك، وجرأة إقدامك وبعض التفاصيل الصغيرة، حيث يكمن الشيطان.واجهني بابتسامته الرضية والبريئة وأخذنا نتشارك العمل على الورقة البيضاء دون أدنى تعال من لدنه أو توجس من لدني، وعلى هذه الورقة ولمرة وحيدة وجديرة بالإشارة خلعنا عن كاهلنا أية مظاهر للتراتب المهني وسطرنا حروفـا مضيئة من الشراكة العملية والإنسانية نادرة الحصول مع زملاء آخرين.فلولا العنصر الدمث في شخص الزميل عمر باعشن، والشعور الأخوي الذي نتشاركه طوال السنوات العشر الماضية، منذ أن عمل في بلاط (14 أكتوبر) متعاقدا سواء في إدارة الأخبار أو السكرتارية وأنا أتنقل من إدارة الثقافة والملحق الثقافي وسكرتارية التحرير حتى الوصول إلى منصب مدير التحرير للمرة الأولى عام 1999، لولا ذلك لركب رأسي الكبر وتملكتني المكابرة عن الاستعانة به في زمن تتخطف فيه بعض النفوس الروح النرجسية والحسد الوظيفي، رغم ما يتطلبه العمل الصحفي من الاشتغال في مطبخ صحفي واحد. كثيرا ما تتغلب على المرء رغبة في إخفاء أي مظهر من نقاط ضعفه أو عجزه أو حاجته للآخر، وذلك شعور طبيعي في الإنسان وبالخصوص في مجال عمل وظيفي يتطلب إظهار التماسك والمقدرة على إنجاز العمل بجواره. أنت لا تجازف بالذهاب إلى أحد، وعلى كتفك ذرة ضعف أو عجز أو حاجة؛ إلا إلى من تحب وتثق!وجود أناس أنقياء السريرة خالين من عقد التظاهر أو الاستغلال لمصالح شخصية يجعلك في منطقة الأمان وأنت تذهب إليهم طلبـا لاستعانة أو حاجة لاستشارة أو دعوة للمساعدة والتشارك في العمل، ولا يأخذك التردد في طلب ذلك أي مأخذ لأنك في حضرة إنسان يتمتع بقيم الزمالة المهنية والأخوة الإنسانية والترفع عن الصغائر والسلوك المتسامي عن أية مآرب نفعية أو استغلال مواقف، وهي قيم تشربها القليل من أبناء مهنة الصحافة من دنان أساتذة الصحافة والإعلام.كان عمر باعشن، ذلك النوع النبيل من الصحفيين والإعلاميين، الذي عكس أفضل ما أخذه وتعلمه من أساتذة وأعلام الصحافة والإعلام في عدن وغيرها من المدن.لم يكن الالتزام المهني الخلاق كافيـا لإكمال الصورة إن لم يعززها ذلك التوافق بين هذا الالتزام وبين الداخل الإنساني الطيب والبريء الذي كان يتخلق يوميـا في معاملاته المرنة والرصينة ومكارم الأخلاق المتجسدة في الأفعال والابتسامات و(الصفاط) في قلب العمل اليومي وفي غمار ضغطه المتواصل.لا أريد في هذه اللحظة سوى أن أسجل مشاعر المحبة والامتنان لزميل يرقد اليوم في فراش المرض، ويكابد معاناة الإهمال واللامبالاة، في أيام تزخر بالتشاحن والتصارع ومملوءة بالمتغيرات المتسارعة تجعل من الالتفات لمعاناة هذا الرجل الصامت بشموخ (مطلب إبليس في الجنة).وهذا حق علي إزاء واحد كانت ساعات عملي معه ومع آخرين تفوق ساعات مكوثي مع أسرتي وأبنائي فتكونت بيننا وشائج قربى مهنية وإنسانية أقوى من أن تزيلها قوة في الأرض، لعل الكلام الجميل يبرئ شيئـا من معاناته، ويرفع من قامة معنوياته حتى تشارف مستوى قدرته على النهوض من كبوته المرضية العارضة، وما هي بقادرة على فعل ذلك!! إن هي إلا محاولة امرئ يعمل بأضعف الإيمان بالقول الضئيل على إبداء أقوى معاني التعاضد والتشارك مع ألم الزميل عمر باعشن، والوقوف معه على قارعة الأمل، والارتفاع بجراحه القاهرة إلى سماء فجر جديد متعاف من هذا الذي نلقاه نحن أبناء صناع الكلمة، وهم يعانون صنوفـا من اللامبالاة والتجاهل والقسوة، برمي الكوادر الإعلامية إلى الهامش كما يرمى حصان (الميدي) في لحظة عثرته بمسدس قتل جامد القلب.سلمت يداك يا صديقنا عمر، معافاة من الارتعاش، وسلم جسدك الطهور من سقم الوهن، ورأسك من ضغوطات الحياة القاسية، ولا أراني إلا أن أتمنى أن أراك قبالتنا ومعنا تواصل نشر قيم الزمالة المهنية، وتفرش أنبل معاني المعاملة الإنسانية الرؤوم، وأصفى روح مملوءة بالبشاشة كما كنت معي ومع غيري ممن زاملوك أخـا وزميلا ورفيـقا وأستاذا معلمـا في قسم الصحافة والإعلام كلية الآداب بجامعة عدن، وشريكـا في صناعة الكلمة الصادقة في بلاط صاحبة الجلالة : الصحافة.أنت أعلى من أن تهملك مؤسسة عملك أو منظمة مهنتك، وأنت أسمى من استجداء الشفاء والعافية من أي جهة كانت، لأنك أيـها العزيز عمر باعشن معدن أصيل لا يستحق إلا الخير والكرامة، فانهض من فراش مرضك، واستنهض قواك لكي تسمو على سأم انفرادك بالألم، فإنك قادر بمشيئة الله على الرجوع إلينا تغمرنا بابتسامتك البريئة المنسوجة من براءة الأطفال.نحن بانتظار ذلك الطفل الذي ينط من صدرك، وذلك الرجل الهادئ الرصين والصلب الذي يمشي على قدميك.
أخبار متعلقة