غضون
* بعد (49) سنة من ثورة سبتمبر و(48) من ثورة أكتوبر و(44) سنة من الاستقلال سيبدو تاريخ هذه الأحداث الكبرى طلاسم كما كان عليه رغم كثرة ما كتب وما قيل من شهادات وما استنطق من “ثوار”. وإلى الآن لا يتوافر مرجع يوثق به في هذا الباب الكبير، وقد مرت فترة زمنية كافية يفترض أن يكون المعنيون بكتابة التاريخ قد أنجزوا فيها هذه المهمة، ومع ذلك لم يحدث شيء في هذا الجانب، ويعذر هؤلاء لأن “الثوار” و”الأثوار” الذين كتبوا وأدلوا بشهادات وسجلوا سيرهم الذاتية قد صعبوا المهمة على المؤرخين بكثرة اضطراب الروايات وشخصنة الأحداث وادعاء أدوار لم تدر، والاعتماد على الذاكرة، وطمس ما لا يروق..في أمور عادية مثل تحديد اليوم والتاريخ لم يتفق “الثوار” على يوم محدد وتاريخ معين رغم أن أيام الله لم تتغير أسماؤها والتاريخ الميلادي هو هو.. واحد يقول إن ثورة سبتمبر كانت يوم الأربعاء 26 سبتمبر والثاني يقول عشية الخميس 26 والثالث يقول قبيل الفجر.. واحد يقول إن ثورة أكتوبر بدأت بتاريخ 14 يوم استشهد لبوزة والثاني يقول لبوزة لم يستشهد في هذا اليوم.. واحد يقول رحل آخر جندي بريطاني يوم إعلان الاستقلال 30 نوفمبر والثاني يقول 29نوفمبر.* تلك مجرد أمثلة بسيطة على ذلك الاضطراب.. فما بالك عندما يتعلق الأمر بمسائل جوهرية مثل أسباب الثورة وأهدافها ومفجريها ونجاحها وفشلها وما يترتب على ذلك من حكم وعبر، أو على الأقل معارف حقيقية لمن يريد أن يعرف.كنت أقرأ خلال إجازة العيد كتاباً سجل فيه عشرات “الثوار” شهاداتهم وقرأت غرائب وعجائب.. أحدهم شهد لنفسه إن الإمام سجنه وأنه في فترة سجنه كان يمد الثوار الذين يأتون إليه بالأسلحة التي كان أخفاها بين ثيابه، وأشاد بذكاء الثوار الذين كان يناولهم تلك الأسلحة لأنهم تمكنوا من إخراجها رغم تدقيق حراس الزنزانة في تفتيش زوار ذلك الثائر، وآخر يقول إنه مع زملائه في ردفان قتلوا (1700) جندي بريطاني في معركة خاطفة استمرت ساعتين فقط.. قلت لنفسي: (1700) في ساعتين لعل ذلك حدث في الحرب العالمية الثانية، ويأتي أحدهم ليظهر براعته في خداع جواسيس وعيون الإمام فقال إنه كان يعقد الندوات الثورية في ملعب كرة القدم بتعز.. لم يقل هل كان ذلك أمام جمهور رياضي.. وما نعرفه إنه في ذلك الوقت لم يكن في تعز ملعب كرة قدم.* مثل هذا السخف يقال في ندوات “توثيق” لتاريخ الثورة.. وقد لاحظت أنه في إحدى الندوات جلب إليها “ثوار” فقدوا الذاكرة ولا يحسنون الكلام رغم إخلاصهم، و”أثوار” متسلقون يحسنون الكلام ولا يتحرجون من الاستجداء، ومع ذلك كذابون أو إن أحسنا الظن بهم أدعياء.. وكلا المجموعتين تضعانك أمام طلاسم يفيد منها الجاهل ويعجز عن فهمها العالم. قبل سنوات طلب مركز الدراسات والبحوث بصنعاء شهادات “ثوار” وكان من بين الأسئلة الموجهة لهم: “أين كنت عشية الثورة”.. عشرات منهم أجابوا إنهم في تلك الليلة كانوا داخل الدبابة التي هاجمت قصر البشاير.. وقد تندر متندر: كم سعة هذه الدبابة؟!