نجمي عبدالمجيد عند أية نقطة من الالتقاء يكون التواصل بين التاريخ والكتابة الأدبية؟.عندما تسعى هذه الثنائية، التاريخ كأحداث تشكلت في أطر من المفارقات والصراعات الزمنية، والعمل الأدبي الذي يعيد تأسيس الرؤية من منظور الحاضر، هذا النوع من التقارب الفكري لايظهر مستقلاً عن المرجعية في سجل الحدث الذي على أسسه تبنى فكرة الموضوع الأدبي. الكاتب الروائي الأستاذ عبدالرحمن منيف، عندما تعامل مع التاريخ كعمل إبداعي ـ روائي لم يجعل من المخيلة هي المرتكز الوحيد لقيام رواية (أرض السواد) التي تتحدث عن فترة من تاريخ العراق، وهي فترة (داود باشا) الذي سعى لإقامة دولة في أرض الفرات على غرار مشروع محمد علي باشا في مصر. وهي المرحلة التي شهدت تراجعاً كبيراً لمكانة ونفوذ الخلافة الإسلامية (الدولة العثمانية) واتساع التغلغل الغربي في كيان الوطن العربي وبالذات البريطاني، الذي هدف حضوره إلى إعادة تشكيل صورة المنطقة العربية جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وعقائدياً.يقول الأستاذ عبدالرحمن منيف في كتابه (العراق هوامش من التاريخ والمقاومة): “أثناء تحضيري لرواية (أرض السواد) تكونت لدي، من خلال قراءاتي الكثيرة في كتب التاريخ، والمذكرات والسياسة، هوامش واسعة حول فترة داود باشا وما بعدها.ولما قررت أن تقتصر الرواية على فترة داود، لم يكن لدي تصور واضح حول كيفية الاستفادة من هذه الهوامش، مع تقديري لأهميتها وضرورة أن تكون في أذهان الناس، لأن وجود ذاكرة تاريخية من شأنه أن يعلم ويحرض، ويجعل التاريخ ليس سجلاً بارداً للموتى وإنما حياة موارة تعج بالامثولات الحية والمعارف والمقارنات.طبيعي أنه لايمكن من خلال التاريخ وهوامشه أن نكرر ما حصل ولأن لكل حادثة وواقعة الظروف والعناصر التي كونتها وأعطتها هذا المسار، وبالتالي فإذا تشابهت حادثة سابقة مع حادثة راهنة فلا يعني ذلك أن نصل إلى النتائج نفسها، لأن ظروف كل حادثة تختلف عن ظروف الأخرى، ولأن العناصر التي كونت الأولى ليست هي بالضرورة التي ستكون الثانية، ولذلك لابد أن تختلف كل حادثة عن الأخرى، لكن اختلاف الوقائع والأحداث بين الماضي والراهن، لايلغي اشتراكها في الامثولات والاستنتاجات، حيث يمكن القياس على ما سبق، ويمكن الاستفادة من التجربة كي لاتتكرر الأخطاء ولتجنب دفع ثمن سبق أن تم دفعه.هذا هو معنى التاريخ بمفهومه الحي والمؤثر، والذي يقدم كل يوم دروساً سخية، شريطة أن تستوعب هذه الدروس، وتصبح جزءاً من ذاكرة الإنسان.أما أن تتراكم الوقائع دون القدرة على استخلاص النتائج والدروس، فإنها مثل حال المكتبة الكبيرة التي لايعرف ما فيها من كنوز وكيفية الاستفادة منها، وبالتالي فإن وجودها أو عدم وجودها لا يغير في الامور شيئاً).التاريخ هو تجربة تمر بالإنسان عبر الحدث، فهو في حاضره مواجهة وفي رحيله دروس وعبر، وعندما تسعى الذاكرة الإبداعية لإعادة القراءة والصياغة لذلك الكم من الأحداث والمراحل، يصبح التعامل مع الوقائع وما جرى منها منسوجاً في إطار الرؤية الفنية التي يرتكز عليها النص الأدبي.لذلك تكون عملية قراءة التاريخ في أكثر من مصدر هي الجانب الأصعب من حيث اختيار الحدث والمكان والشخوص، وربط كل هذا في سياق متسلسل يعيد تشكيل ذلك التفاعل في هذا المتن الإبداعي الذي ينقل النص من كتابة تاريخ الحدث إلى مستوى الشعور الإنساني والذوق الفني.والكاتب عبدالرحمن منيف أدرك أن قراءة التاريخ بحثاً عن مادة أدبية لاتقف عند حدود المساحة الزمنية التي تقف عندها رؤية الكاتب، فالمراحل بما تسحب من تفرعات وتواصلات في مسيرة الزمن لا تتساقط حلقات أزماتها، فالماضي لايسكن عند بوابة الأمس بل تمتد دروبه إلى عتبة اليوم وربما تصل طرقه إلى أطراف الغد، بالرغم من اختلاف العوارض، والأسباب وحتى النتائج بين مرحلة وأخرى، وفي ذلك ما يعرف ذاكرة الإنسان بما جرى وبما هو قادم، وفي هذا صيرورة الحياة البشرية المتأصلة في جوهر الحياة. من صفحات ذاكرة التاريخ العراقي الحديث، وفي أدق فترات الانتقال من حكم الخلافة العثمانية إلى مرحلة الانتداب البريطاني وتأسيس العراق الحديث، وفي سجل الوقائع يقدم لنا الحدث عدة مواقع هي من الأهمية بمكان، في عام 1914م احتل الانجليز البصرة، عام 1916م استسلام الانجليز في كوت العمارة بالعراق، عام 1917م الانجليز يحتلون بغداد، وفي عام 1921م يتوج الملك فيصل الأول ملكاً على العراق.وعن تلك الحقبة يقول الأستاذ عبدالرحمن منيف: (بعد أن تم الاستيلاء على العراق بكامله، ودخل القائد البريطاني، الجنرال مود بغداد في آذار 1917م قال كلمته المشهورة مخاطباً الشعب العراقي (لقد جئتكم محرراً لا فاتحاً).منذ ذلك الوقت أخذ الإنجليز يقيمون في العراق حكماً مباشراً، وتولوا بأنفسهم الإدارة والسيطرة على الثروة، بما في ذلك إقامة الجهاز الإداري وفرض الضرائب وتعيين حكام للمناطق وفي محاولة لاختصار نفقات قوات الاحتلال، وعدم تحميل الخزينة البريطانية أعباء إضافية، وأيضاً لمعاقبة المشاغبين والمتمردين من شيوخ القبائل، لجأ الانجليز ليس فقط إلى مطالبة هؤلاء الشيوخ بما هو مستحق عليهم من ضرائب ورسوم، وإنما مطالبتهم أيضاً بضرائب سنوات سابقة، ومن لا يدفع يهدد بالعقاب.كان من أوائل الذين عوقبوا بالاعتقال لامتناعهم عن دفع ضرائب سنوات سابقة: الشيخ شعلان أبو الجون زعيم عشيرة الظوالم، لكن أفراداً مسلحين من العشيرة ذاتها هاجموا في اليوم نفسه سجن الرميثة وأطلقوا سراح الشيخ السجين، وكانت هذه الحادثة بداية ثورة العشرين، التي امتدت إلى سائر أنحاء العراق، واستمرت شهوراً طويلة، ودللت على أن العراق كان معبأً ومحتقناً نتيجة الحكم البريطاني القاسي والظالم، والذي كان يهدف إلى إذلال العراق، وإلى جعله تابعاً للحكم البريطاني المباشر.عند ذكر الحدث لايمكن اغفال الشخصيات المهمة والمؤثرة في صناعة ما جرى من وقائع، فلا يوجد تاريخ دون أفراد كان لهم المحور المهم في قيادة اتجاه السياسات وصنع القرارات ووضع صور المعالم التي تقود نحو الهدف المعين. ومن مكانة الشخصية في صناعة تاريخ العراق الحديث، يقدم لنا الأستاذ عبدالرحمن منيف نماذج رسمت ذلك المسار الذي سار عليه مشروع الدولة العراقية الملكية في مرحلة كانت فيها الأمور تعاد صياغتها من جديد في هذا الشرق، وبقدر ما يبدو على الشرق الأوسط من حالات سكون، فهو يحمل في داخله لحظات من الانفجارات العنيفة والهزات المدمرة، ما يجعل الآخر يعيد الحسابات والتصورات في هذا المكان المتمرد.من هنا لا تكون حسابات العقول متطابقة دائماً مع مفارقات الأزمان وما يتغير في المراهنات والانتماء وحساب المصالح في السياسة.من الشخصيات التي لعبت عدة أدوار في تشكيل العراق الحديث، يقف عبدالرحمن منيف أمام النموذج البريطاني الذي يعد المحور الأهم واللاعب على مربع السلطة والانتداب وتكون شخصية رجل الدولة من المنظور البريطاني، مس بيل المرأة التي أنشأت دولة ونصبت ملكاً، والشخصية التي لعبت دوراً محورياً في سياسة بريطانيا في العراق، فهي صاحبة حضور قوي بالغ الأهمية فذة في قدرتها على إدارة الأوضاع في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م) يوضح عبدالرحمن منيف توسع مكانة هذه المرأة في الحياة العراقية قائلاً: (من خلال وجودها في العراق، وبحكم ما تملك من معرفة وإمكانيات ومواهب، ونظراً للموقع الذي احتلته، بدأت رحلتها الكبرى، وبدأت في صناعة الممالك وتنصيب الملوك واختيار الوزراء وتقسيم النفوذ والارزاق، بحيث لم تمر فترة إلا واصبحت (الخاتون) التي تضفي على الاشخاص والأشياء شكلها وأهميتها، واصبح التقرب إليها وكسب ثقتها ورضاها هدفاً لكثيرين من الساسة والمتطلعين إلى المناصب والنفوذ أما من يعاديها أو يختلف معها، حتى لو كان من أبناء جلدتها والعاملين معها في الإدارة، فإن مصيره النفي أو النقل، إن لم يكن أكثر من ذلك!).كذلك يسعى الكاتب إلى خلق حالة من المطابقة من قراءة التاريخ بين ما جرى في الماضي وحالة الراهن العراقي، ذلك الامتداد من زمن الدولة العثمانية في أواخر عهدها، وصولاً إلى حال اليوم من دمار وانقسام وتصدع، والسعي المتواصل لنهب الأرض وقهر الإنسان.عند هذا المفترق تقف نظرة المبدع إلى ما جرى، ومستوى الاستفادة من كل ذلك في صياغة النص الأدبي، أما الهوامش التي تتراكم عبرالقراءات فهي تصبح إحدى الحلقات المضافة إلى وعي الذات في سجل الأمة. فالعمل الروائي المستند إلى المرجعية التاريخية، هو في المقام الأول كتابة فنية ـ إبداعية وليست تحليلاً ومحاكمة لما حدث، وربما تكون الحياة العامة والذاكرة الشعبية خير مرجع في التعامل مع هذا النوع من الكتابات التي تؤرخ لمن لا تاريخ لهم، العامة من الناس.رواية (أرض السواد) في أجزائها الثلاثة هي محاولة لقراءة التاريخ ولكن من منظور إبداعي، هي عملية بحث عن تجارب وأشكال تقارب بين الأمس والراهن والخروج بزاد من المعرفة تساعد على تحدي أزمة القادم ورفض واقع الدمار المرعب، والتعامل مع الموت كحالة تأتي في ظرف ولكنها لاتقهر إرادة الشعوب.يقول ناشر رواية أرض السواد (بعد أن قضى داود باشا على تمرد البدو، ثم على المؤامرات التي حيكت ضده في الشمال، بقيت أمامه الحلقة الأصعب، والتي تمثل الرسالة الأقوى: إنهاء التدخل القوي للامبراطوية البريطانية في شؤون بغداد.وريتش قنصل انجلترا الذي احس بالخطر الشديد، بعد القضاء على القوة التي كان يراهن عليها لاسقاط دواد باشا، حاول عن طريق الاستعانة المباشرة بالقوات البريطانية، أن يوجه للوالي رسالة تجبره على التفاوض لضمان مصالح بريطانيا.على هذه الخلفية يرسم عبدالرحمن منيف مدى كره العراقيين لأي تدخل أجنبي في شؤونهم فنرى حتى الذين كانوا مترددين باتوا مستعدين لبذل الغالي والنفيس في سبيل طرد الأجنبي، الذي طالما بهرهم بالاستعراضات التي قدمها، وطالما أثار فضولهم وطالما تعاملوا معه كضيف.ومن خلال صور كثيرة أبرزها صورة تضامن العراقيين في مواجهة فيضان النهر، وصورة تضامن أهل صوب الكرخ لاخراج الحاج صالح العلو من حزنه، نرى إلى أي مدى يصل هذا التضامن في مواجهة الأجنبي.وهكذا تصل الرواية إلى رسم صورة غير مسبوقة عن العراق، عبر رسم مصائر شخصياتها التي مرت في مراحل كثيرة وطويلة، كان همها الأول أن ترسم الشخصية العراقية قبل أن تعمل على رواية تشكل الأحداث ذروتها.الحدث في أرض السواد، هو العراق). رواية (أرض السواد) من الاعمال الأدبية التي تقارب ما بين ما جرى في الأمس وحالة اليوم، العراق بين الاحتلال وعزيمة التحرر وقوة المقاومة.ان العمل الأدبي في مثل هذه الحالة يصبح تاريخاً في ذاته ولكنه يقوم على إعادة الصياغة والرؤية، بل يرتقي إلى وضعية رسم معالم الذاكرة العامة للناس وتذكيرهم بأن الأحداث لاتقف عند فواصل ومفارقات معينة. ومن هنا يصبح دور الكتابة في مستوى الانذار والحذر مما يأتي في القادم وليست عملية اجترار للماضي، دون التأمل في ابعاده ومكوناته ومدى كونيته في الزمن الإنساني.[c1]المراجع:[/c]العراق ـ هوامش من التاريخ والمقاومة، عبدالرحمن منيف، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع ـ الدار البيضاء ـ المغرب الطبعة الأولى ـ 2003م.رواية: أرض السواد 3 أجزاء، عبدالرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت الطبعة الاولى ـ 1999م.
|
ثقافة
الروائي عبدالرحمن منيف .. هوامش التاريخ والكتابة الأدبية في رواية (أرض السواد)
أخبار متعلقة