أضواء
الثورة كثيرا ما أخفقت في صناعة الحرية. هذا ما قرأناه في الثورات الفرنسية والروسية والإيرانية، كلها تضمنت عاطفة هوجاء أدت في فرنسا إلى المقاصل وفي روسيا إلى إعدام القيصر وأسرته، وفي إيران الى محاكم خلخالي.فعلى المديات المتوسطة أو البعيدة لهذه الثورات نشأ نظام معاد للحرية. ففي فرنسا انتهى الأمر الى نابليون، وفي روسيا أصبح ستالين سيد الشرق، وفي إيران تكونت ولاية الفقيه بشخص رجل الدين.هذه الثورات ايضا قتلت ابناءها، وتمكن احد زعمائها، بعد فترة وجيزة من نجاحها، في القضاء على الآخرين. فكل قادة الثورة الفرنسية اعدموا بمقاصل الثورة، واغتال ستالين كل رفاق الدرب، وايران اعدمت وهمشت وشردت شخصيات بارزة بل واحزاب وتيارات كان لها دور مؤثر في مقارعة نظام الشاه.لهذا ليس متوقعا من «ثورات» العالم العربي ان تنتج حرية، ولا ان تؤدي الى نهايات سعيدة في القريب العاجل، خصوصا مع تربص التيارات الاصولية واستعداداتها وترقبها، ومع غياب الوعي الشعبي بالحرية باعتبارها مفهوما ساميا لا يتجزأ. والتمسك بالحديث عن الواقع العربي المعقد والمتخلف وكأنه واقع مثالي لمجرد حصول الانتفاضات رأي لا يساعد عليه مجرى الاحداث واتجاهاتها.ان اول خرق لمبدأ الحرية في الحراك الشعبي هو «قوائم العار» الصادرة في اكثر من بلد عربي والتي تضمنت اسماء نخب قيل انها ضد الثورات. هذه القوائم تدل على عمق الهوة بين الثورة والحرية. وهي هوة ما تزال بعيدة عن التأشير او النقد، في ظل عاطفة جياشة تمنع النقد او على الاقل محاولات لفت النظر الى الاخطاء والانحرافات، فكل من يرفض هذه القوائم يخشى على نفسه من اتهامه بخيانة مباديء الشعب وموالاة الانظمة. ولم يميز الثائر بين اثنين من المثقفين، مثقف اصطف مع النظام ليكون طرفا في الصراع بين المنتفضين والانظمة، وبهذا يصح عليه ما يصح على تلك الانظمة، ومثقف اخر عبر عن مخاوفه ونقد التجربة باعتبارها تجربة تمس كل شيء في وطنه، دون ان يتمترس. القسم الثاني من المثقفين واجه اتهامات بالتخوين ومعاداة الشعب. ويوضح هذا الاتهام تلك الهوة الكبيرة بين ان يكون المرء ثائرا وان يكون مدافعا عن الحرية.ومن المؤكد ان شرارة ما شهدته مصر وتونس كان بفعل افراد آمنوا بالحرية فعلا، ولكن اين هم الآن؟ ومالذي حل بهم؟ ولماذا غابوا عن المشهد الذي اصبح ممثلا بالوجوه الكالحة التي اعادت انتاج نفسها، من حليقي اللحى اومطلقيها؟اولئك الشباب الذين قضوا ليالي شباط الباردة في ساحة التحرير بالقاهرة، او ذاك الشاب الذي احرق نفسه ليؤجج روح الكرامة لدى زملائه التونسيين، كانوا بلا ايدلوجيا، كانوا من كل الشرائح والمناشيء، كانوا صادقين في رفض الظلم والفساد والفقر والتجويع وانتهاك حق الانسان.لكن هذا لا يكفي لتحقيق الحرية، لانها بحاجة الى وعي واسع، وادراك عميق بانها ليست مجرد تحرر من نظام سياسي بعينه، انما هي شرط مختلف لبناء وجود اخر، شرط لا ينفصل ابدا عن احترام كل الخصوصيات، وليس فقط الخصوصيات الطائفية والعرقية، لان الخصوصية هي ميزة الافراد قبل ان تكون ميزة الجماعات.فهل هذا الشرط متوفر؟ لا اظنه كذلك الآن، لان عملية الاقصاء وجبروت الثورة ورفض توجيه النقد اليها، وعدم احترام الاختلاف، وروح الثأر، والنعرات الطائفية... امور تمنع دون تحقق شرط الحرية.كما ان رفع صور صدام حسين من قبل بعض الثوار او المنتفضين على مبارك والقذافي وصالح والاسد، يكشف عن غياب الوعي بالحرية ورفض الظلم في تحركات البعض. و«فتاوى الحرية» التي تنظر بعين واحدة الى الاحداث، وتراها مبررة في بلد وغير مبررة في آخر، ترسم اكثر من علامة استفهام.لذلك فان اخضاع الثورات، وهي في اوجها او بعد تحقيق هدفها، للنقد مسألة في غاية الاهمية والتأثير، اولا لتشخيص المشكلات وهي ما تزال في بدايتها لينة وقابلة للعلاج، وثانيا لعدم اعطاء اي فرصة للثوار ان يعتقدوا في انفسهم وعملهم فوق النقد، وكي لا يظن احد منهم ان ما قام به هو منة ثمنها ان يكون جزء من مرحلة تتحكم في مصير الانسان بحسب الاهواء والقناعات.ويفترض اخذ المخاوف التي يطرحها بعض المعنيين على محمل الجد، ليس من اجل ايقاف زخم الحراك الشعبي بل من اجل تصحيح اخطائه، ومنع غلواء اولئك الباحثين عن طغيان اخر يخلف طغيانا سابق. فليس كل ما يطرح من مخاوف ووجهات نظر ناقدة وحذرة هو موال للنظام وضد المنتفض، لان المعادلة ليست ثنائية، انما ذات اطراف عدة. ومن حق المثقف ان لايكون طرفا في معادلة ثنائية، يمكن ان يجد نفسه بحاجة لاختيار او رسم طريق ثالث او رابع او خامس، هذا خياره، ولا يبرر ذلك توجيه التهمة اليه على انه موال للنظام او معاد له، ضد الثورة او معها.وليس بالضرورة اذا آمن البعض بالخيار الثوري ان يؤمن الاخرون به، هناك مساحة كبيرة جدا للاختلاف حول الثورة والامة والوطن والدولة، وحول كل المفاهيم والقناعات، وهذه المساحة قد لا يدركها من يتحرك على الارض رافعا شعار اسقاط النظام ولا الذي في السلطة وهو يرفع شعار الامن اولا. ولأن احداث المنطقة وتجاربها في كثير من الاحيان متقاربة يبدو ان من المهم اعادة العرب قراءة تجربة العراق منذ انتفاضة 91 وحتى سقوط النظام في 2003 بشكل جيد، وبدون الحساسيات التي قرأت بها سابقا، هذه التجربة تقول ان تغيير نظام دكتاتوري لن ينتج بالضرورة حرية، لان اداة التغيير والبناء ليست حرة.ان الحراك الشعبي اليوم هو بمثابة نهاية لمرحلة من الخوف، وهذا بحد ذاته تطور لافت ومهم، ولكن يجب العمل بشكل دؤوب كي لا يصنع هذا الحراك في المستقبل خوفا اخر.[c1]*عن/ موقع ( إيلاف ) الالكتروني[/c]