أضواء
مازلت مصرا أن موضوع الدعاة يجب أن يناقش على المستويات كافة.. أعادني للقضية مقال كتبه الاستاذ منصور النقيدان يوم الأحد الماضي في هذه الجريدة. تناول فيه البعد التاريخي لهذه الوظيفة. في كل مرة أفكر في الإرهاب أو أفكر في الترويج للسحر أو دمج الحياة بالقبور أو كراهية الآخر واحتقار المرأة أو الرقاة أو الطب البديل والعسل والحبة السوداء والحجامة وغيرها اختصرها كلها في كلمة (الداعية).. بالتأكيد هناك عدد من الدعاة مارسوا دورا مفيدا بصورة أو أخرى. لكننا نتحدث عن الظاهرة التي تشكلت مع الصحوة ولم تكن معروفة في ثقافتنا الإسلامية من قبل.عندما أعلن الفنان الراحل فهد بن سعيد اعتزاله الفن واطلق لحيته اسبغ عليه لقب داعية على الفور. قس على فهد بن سعيد عشرات الألوف. أعرف كما يعرف الكثير عددا كبيرا من لاعبي الكرة البسطاء والتائبين من قضايا جنائية والعائدين من مشاكل إدمانية تحولوا إلى دعاة( طلبا للأجر والتوبة!). منطقة الداعية كانت منطقة جذب. تشكل في داخلها طبقات تختلف في مستوى تعليمها وتتفق عند مستوى واحد من الوعي.دور الدعاة كان خطيرا. شكلوا وعي العامة في فترة الصحوة. كانوا أكثر تأثيرا من الفقهاء وعلماء الدين. في الواقع جلسوا في المنطقة الواقعة بين علماء الدين وبين الناس، صاروا أداة الارتباط. الطبقة المتعلمة من الدعاة لعبوا دورا والطبقة العامية لعبت دورا آخر ولكنهما في النهاية تكاملا بشكل يثير الإعجاب. رفضت كثيرا نظرية المؤامرة الخارجية، لكن السؤال يلح علي: من كان يبرمج هذا الجيش الجرار ويوجهه ويمنحه قوة الدفع التي يحتاجها. من يربط بين وظيفة تكريس السحر والجن في نفوس الناس وبين الحرب على أمريكا مثلا. لكي أفهم هذه الظاهرة تابعت واحداً من أشهر الدعاة ودرست معظم إنتاجه. قست النتيجة التي توصلت إليها على مجموعة أخرى من الدعاة. تكشف أمامي شيء خطير. لعب الداعية في عالمنا نفس الدور(الفني) الذي لعبه المهندس في الحضارة الغربية.أحد أهم أسباب تفوق الحضارة الغربية على الحضارات الإنسانية التي سبقتها اختراعها لوظيفة اسمها المهندس. كان العالم في مختبره والفلاح في حقله والصانع في مصنعه. لم يكن بينهم اتصال. تطوير المحراث على سبيل المثال احتاج إلى قرون طويلة. جاءت وظيفة المهندس لتربط بين الفلاح في حقله والصانع في مصنعه والعالم في مختبره فعرفنا المحراث المميكن. في الواقع المهندس هو عالم تطبيقي وصانع علمي. يترجم النظريات العلمية إلى عمل ويترجم الاحتياجات إلى نظريات. بفضل المهندس تداخل العلم مع الإنتاج مع الصناعة فتفوقت الحضارة الغربية. لكي تعرف دور الداعية الهندسي أقترح أن تقرأ واحداً من كتب الأخوان المسلمين التنظيرية. سيد قطب أفضل مثال. كانت مفاهيم سيد قطب الثورية والتآمرية مخزنة في كتبه وجامدة وبعيدة عن العامة، لا يعرفها سوى نخبة من المثقفين والباحثين في الشؤون السياسية. كان سيد قطب في حاجة إلى مهندس. توصل الدعاة إلى ربط نظريته ونظريات مشابهة بالحياة اليومية. ألبسوها ثياباً محلية ووقعوها بأسماء شيوخ محليين. منحوها الحياة التي تحتاجها لتمشي على قدمين. إلى جانب تطبيع الملفات الجهادية وتحويلها إلى برامج فتحوا وسوقوا ملفات إرباك العقل: ملفات الجن والسحر و القبور... الخ وأكسبوها حياة. رأيي هذا سبق أن قلته وأردده: مستحيل التخلص من مشكلة دون التخلص من رجالها و أدوات إنتاجها. إغلاق هذه الوظيفة.[c1] صحيفة (الرياض) السعودية