لم تعد الحياة سهلة فكريا وأخلاقيا ـ على الأقل ـ بالنسبة للمثقف المنتمي إلى الفكر الأصولي الإسلامي في تعبيراته السياسية المختلفة بين الاعتدال والتشدد، وبين اليمين واليسار، وبين تنظيمات الإخوان المسلمين والتنظيمات «الجهادية» المتنوعة. ولمن لا يعلم من قراء هذه الصفحة ـ ومن كتابها أيضا ـ فإن أصل الأصولية هو العودة إلى المنابع الأولى والوثائق الأساسية ذات الصفات المقدسة؛ وفي هذا لا تختلف الأصوليات الإسلامية عن غيرها من الأصوليات الدينية والأيديولوجية المختلفة. ولكن الاختلاف يأتي في السياق التاريخي، وفي الأهداف والوسائل السياسية التي تتبعها حركات اجتماعية ويدعو لها كتاب ومثقفون.فالأصولية الدينية الإسلامية ليست مجرد دعوة محافظة تعود للأصول من أجل صلاح الناس في الدنيا والآخرة، وإنما هي حركة سياسية ثورية لقلب دولنا ومجتمعاتنا رأسا على عقب، أو على الأقل وقف تطورها التاريخي في اتجاه دول ومجتمعات مدنية وعصرية من خلال عملية تعبوية دائمة. وبهذا الشكل فإن الأصولية الإسلامية لا تختلف كثيرا عن الفلسفات الشمولية المختلفة من حيث إدارتها للدولة والمجتمع من خلال التدخل الإداري والاقتصادي وبالطبع الأخلاقي من جانب، ومن جانب آخر فإنها تقف موقف «الممانعة» إزاء كل المؤثرات الخارجية التي تغير مثل هذا المسار مثل تحقيق السلام في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو إقامة علاقات وثيقة مع دول العالم الليبرالية ـ الديمقراطية أو حتى تلك المتمتعة باقتصاد سوق حقيقي، أو تلك الداخلة بقوة في حركة «العولمة» في العالم.ولو سألت مثقفا مناضلا أصوليا عن دول العالم التي يفضلها لكانت دولا مثل فنزويلا ـ شافيز، أو كوريا الشمالية، أو كوبا حيث «الممانعة» مستمرة إزاء النظام الدولي وتدخل الدولة المستمر في حياة الناس، وبالطبع شكل من أشكال الديكتاتورية الشعبوية التعبوية التي تضع الدول والمجتمعات على أطراف أصابعها ليس من أجل التنمية أو المنافسة، وإنما من أجل أهداف كونية مثل تغيير النظام العالمي. وبالطبع فإن المثقف الأصولي المناضل سوف يشعر بحنو شديد على تجارب الأصولية الإسلامية المتنوعة التي جرت خلال العقود الأخيرة في أفغانستان وإيران والسودان وفلسطين ولفترة قصيرة في الصومال حيث تحولت النظرية إلى تطبيق، والكلام إلى واقع، والحركة إلى مستقر من نظم وقوانين.وفي الحقيقة فإن المثقف المناضل الأصولي لم يشعر بمأزق إزاء ذلك كله حتى عندما وضح لكل من له عينان أن التجربة فاشلة من ألفها إلى يائها، فلا تنميةٌ حدثت، ولا تحريرٌ جرى، ولا وحدةٌ تمت المحافظة عليها. فما دخلت الأصولية بلدا إلا قسمته وعمقت من انقساماته القبلية (أفغانستان) والعرقية (السودان) والدينية (السودان أيضا) والسياسية (فلسطين ولبنان)؛ وما دخلت بلدا إلا وضعته في حالة حرب مع طرف أو أطراف في العالم فجمعت ما بين حالات الحرب الأهلية والحروب الدولية والإقليمية في آن واحد.كل ذلك لم يضع المناضل الأصولي في مأزق، فقد كانت لديه طريقته في تجاوز الأحداث والعبور عليها بعدد من الطرق منها ـ وأهمها في الحقيقة ـ إلقاء اللوم على الآخرين في العالم، سواء روسيا أو أوروبا أو الهند أو الصين؛ وما لم يكن لدى كل هؤلاء نصيب وحظ فإن في الولايات المتحدة وإسرائيل ما فيه الكفاية من أول صراع كشمير وحتى صراع حزب الله مع الحكومة اللبنانية. وإذا كانت الحالة فجة كما هو الحال في دارفور وفلسطين فإن اللوم سوف يقع فورا على الجانب الآخر من الأصولية، فالحركات السياسية في دارفور ـ حيث يوجد شيعة وسنة ـ سوف يقع عليها اللوم حتى ولو كان عدد القتلى من أهلهم قد وصل إلى عشرات الألوف. وكل اللوم سوف يقع على عاتق منظمة فتح رغم أن الحكومة واقعة في يد حماس التي كانت أول حكومة في التاريخ تخلق لنفسها مليشيات خاصة وهي في الحكم، بالإضافة إلى ما كان لها في المعارضة. وبينما يتوزع اللوم في الفشل بين أطراف أخرى غير الطرف الأصولي، يجري رسم صورة مثالية لمنجزات الجماعة الأصولية بحيث تبدو إيران على رأس دول العالم في التنمية البشرية والإنسانية والتكنولوجية. أما عندما يكون الفشل حادا ولا لبس فيه مثل أفغانستان فإن المناضل الأصولي لديه دعوة دائمة للتفهم سواء كانت للظروف القبلية أو الفكرية. ولم يشغل المثقف الأصولي باله أبدا بنقد ما جرى ولا تقييمه، بل أن هناك قلة قليلة من المثقفين الإسلاميين فعلت ما فعله مثقفون أوروبيون شيوعيون إزاء التطبيقات الشيوعية المختلفة في الاتحاد السوفيتي والصين وألبانيا، وهذه القلة القليلة كانت في معظمها خارج العالم العربي، أما الأصوليون العرب فقد ظلوا مناصرين لكل نظم وحركات «الممانعة» مهما ارتكبت من جرائم إزاء مواطنيها، ومهما ارتكبت حماقات إزاء وطنها.ولكن المناضل الأصولي يشعر بمأزق حاد الآن لم يكن يشعر به من قبل، وظهر هذا المأزق خلال المؤتمر الذي عقد في الدوحة أخيرا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وما أعقبه من زيارات لعدد من المثقفين الأصوليين إلى طهران لتقريب وجهات النظر. كما ظهر هذا المأزق ـ وكل المآزق متصلة ومرتبطة ـ عندما انفجر الموقف في العراق بالمواجهات بين «أصوليات» سنية وشيعية انطوت على القتل والتهجير وانتهاك المقدسات الإسلامية على الطرفين والذبح الفردي والجماعي لرجال دين على الطرفين. وكانت واقعة إعدام صدام حسين وما نتج عنها من أفراح في إيران وفي دوائر حزب الله في لبنان من ناحية، وحزن ومأتم واعتبار الرجل بطلا وزعيما سنيا للأمة وقائدا لها في دوائر الأصوليات السنية المختلفة بما فيها حتى منظمة حماس من ناحية أخرى، معبرة عن مأزق أخلاقي وسياسي وحتى ديني من الطراز الأول.فقد بات واضحا للمناضل الأصولي أنه لا توجد أصولية واحدة وإنما أصوليات متعددة كثيرا ما ترتبط بأوضاع جيو ـ سياسية تنتزع من الأصولية صفاتها المقدسة وتغرقها في مصالح دنيوية بحتة. ولأول مرة كان على الأصولي السني أن يستمع إلى ما يقوله الأصولي الشيعى حول التفرقة بين السنة والشيعة في بلدان الأغلبية السنية؛ ويشاهد الاندهاش من تمجيد قائد سياسي قضى حياته في ارتكاب الجرائم وعمليات القتل الجماعي والتعذيب ضد السنة والشيعة والأكراد والعرب. وفي نفس الوقت كان على الأصولي السني أن يكتشف الأوضاع المزرية للسنة في ظل دولة شيعية، ويرى بعين رأسه ما الذي يمكن أن يفعله مقتدى الصدر الذي صفقت له دوائر «الممانعة» في السابق عندما يتمكن من فرصة محاكمة وإعدام سجين أعزل.وفي مثل هذا المأزق فإن المثقف المناضل الأصولي الممانع يكتشف فجأة أن مرجعيته الأصولية لا تحل مشكلة، ولا تخرج من مأزق، ولا تسترد حقوقا، ولا تفلح معها كثيراً نداءات الوحدة والتضامن في وجه العدو المشترك. ولا تحل المشكلة تلك الأوصافُ التاريخية المطلقة للمثقف الأصولي السني أن الشيعة قد عاشوا في «كنف» السنة في سلام ودعة، والعكس يقال من قبل الشيعي على السني، وكما يقوله كلاهما عن المسيحي وأصحاب العقائد والملل والديانات والأعراق الأخرى. ومن هنا يصير مأزق الأصولي أكثر من مأزق لأنه سوف يعاني من أزمة مصداقية دينية مع نفسه ومع الآخرين من أصوليات أخرى، ومن أزمة مصداقية سياسية بين الفكر والواقع. وهنا تبدأ مآزق من نوع جديد ؟!.[c1]❊ مفكر مصري[/c]
|
فكر
مأزق المناضل الأصولي !
أخبار متعلقة