هاشم علي.. سيرة اللون يعتبر الفنان الكبير هاشم علي رائد الفن التشكيلي في اليمن، وأحد الأعمدة المُؤسِسة لهذا الفن في الوطن العربي حيث ولد الفنان « هاشم علي عبد الله بن عوض مولى الدويلة « في أندونيسيا عام 1945، وكان ترتيبه الخامس والأخير بين أشقائه (آخر العنقود). كان الأب الطيب «علي عبد الله» يعمل تاجراً بسيطاً مترحلاً. وعاش «هاشم علي» جزءاًً من طفولته في اندونيسيا، ونال هناك بعضاً من تعليمه الابتدائي؛ والأمر المميز عن طفولة هذا الفنان في اندونيسيا أنه تعلم هناك اللغة الإنجليزية، وتعلمها بدوافع ومجهودات ذاتية بواسطة المذياع والمجلات وبعض الكتب التعليمية الخاصة بالمبتدئين، واستمر حتى شبابه يتعلم اللغة الإنجليزية ذاتيا.ًبعد أندونيسيا، عاد مع أسرته إلى حضرموت، وتابع دراسته في الكُتاب (المعلامة). وفي هذه المدينة اكتشف «هاشم علي» ذاته في البيئة حوله وفي وجوه الناس، وباكراً تجاوز ولعه والحلم بهكذا عوالم فارهة إلى محاولاته بإعادة إنتاج تلك الرفاهية؛ وقد اختار باكراً الرسم. والبداية كانت في عمر الثامنة، مع الأستاذ «علي علوي الجفري» مدرس الرسم الذي تعلم منه «هاشم علي» النحت لفترة لا تتجاوز الثلاثة الأشهر، وكان أستاذاً منضبطاً وصارماً كما يصفه «هاشم علي.» إذاً، منذ الثامنة بدأ «هاشم علي» الرسم، فصار يجسد الطبيعة وبعض الأعمال الفنية التي أمكنه مشاهدتها، ولم يكن ما يمارسه حينها سوى تقليد، ودون وعي بمعنى الفن وحقيقته؛ وهو أمر طبيعي من طفل في مثل عمره، إلا أن المميز في حالة «هاشم علي» هو أن اختياره للرسم لم يكن اختياراً عادياً، نظراً لانعدامه في ثقافة المجتمع آنذاك، فأكثر من عدم الإكتراث لفن كالرسم، كان غير موجود تقريباً، ليس فقط عند العمال والفلاحين، بل لم يكن حاضراً بجدية حتى عند النخبة المسئولة والمهمومة، هذا إلى جانب رفض التشدد الديني حينها للرسم كنشاط إنساني طبيعي. ولذلك كانت هذه البداية بحد ذاتها نقطة جادة في تجربة الفنان، إذ أن تلك الأعمال، بكل تأكيد، لا تصلح كمادة لتقييم تجربة الفنان، إلا أنها تعبر عن الروح الجميلة والمغايرة التي أمتلكها «هاشم علي» منذ الطفولة، وأمدته بطاقة غير عادية وخلاقة للنهوض لاحقاً بدور المؤسس للفن التشكيلي في اليمن، ومبدعاً لم تلهه مهمة التأسيس هذه عن تقديم نتاج فني متجاوز.[c1]الهم الفني[/c]ومنذ عام 1975 تقريباً، مرّ الفنان «هاشم علي» بمجموعة من التحولات الحرجة في حياته وفنه، فبعد وفاة والده، أضطر أن يترك دراسته ويتعلم باكراً الإعتماد على نفسه لكسب القوت؛ عمل أول الأمر صبياً في ورشة نجارة وكان يتقاضى 5 شلن كأجرة، ثم في مطعم، وعمل «شاقي» (عامل بناء)... مارس هذه الأعمال وغيرها من الأعمال البسيطة. وخلال حوالي ستة أعوام تنقل من عمل إلى آخر، ومن محافظة إلى أخرى (حضرموت، أبين، عدن، الحديدة وتعز). كانت هذه السنوات قاسية جداً، وعانى خلالها «هاشم علي» كثيراً. إلا أنه رغم تلك المعاناة لم يتخل عن خياره الفني المبكر، إذ حصل لديه نضوج قوي في علاقته مع الرسم، وكان لهذا النضوج شقان، متلازمانالشق الأول: أن معاناته زادته قرباً من الناس وتحسساً لأحزانهم وأفراحهم، ومنه ازداد إحساسه بالأشياء حوله، وبالتالي رغبة شديدة بالرسمالشق الثاني: تمثل في تحول الرسم إلى هم يقتضي التزود لأجله بالمعرفة: فهم جوهر الفن وهدفه وأدواته. وهكذا منذ عمر الثاني عشر تقريباً، ابتدأ التجريب المقترن بالكثير من المعاناة والمكابرة، سواء في الهم المعيشي أو في همه الفني، إذ كانت إمكانات التعلم والتحفيز معدومة. إلا أنه واصل الرسم كلما وجد وقتاً لذلك، والتعلم الذاتي بواسطة البحث والتأمل.كما ينبغي.. القمرية بحاجة للضوءعام 1963، إستقر «هاشم علي» في مدينة تعز، وكانت البلاد تعيش عامها الجمهوري الأول، ويبدو أن المناخ العام أعقاب ثورة 1962 واستقرار الفنان إلى حد ما في تعز قد أعطياه فرصة لا بأس بها للتعلم والتجريب والابتكار، ففي تلك المرحلة حدث انفتاح نسبي ومشجع للمبدعين بشكل عام. ولم يمضِ وقت طويل حتى أقام الفنان «هاشم علي» معرضه الأول في مدينة تعز عام 1967، وكان هذا المعرض أول معرض تشكيلي يقام في اليمن. ويعلق «هاشم علي» على هذه التجربة واصفاً إياها بالرائعة رغم تواضعها، كما أنه كان مسروراً جداً ومندهشاً من الإقبال الذي حظي به المعرض من الناس، نظراً لأن الفن التشكيلي لم يكن محط اهتمام الناس آنذاك.[c1]ابتسامة مكسورة [/c]ورغم أن الواقع كان لا يزال مأساوياً حينها فيما يتعلق بغياب الوعي والاهتمام بالكثير من العلوم- خاصة الإنسانية والإبداعية، ومنها بشكل خاص الفن التشكيلي، فلم يكن ثمة ملامح لمؤسسة فنية (رسمية كانت أم مدنية، أو حتى تجمع نخبوي محدود الأثر) لتعليم الأسس الأولية للرسم وأدواته وفلسفته، وتقديم ولو حد أدنى ومتواضع من التشجيع والنقد. رغم ذلك الموات العام الخانق، ورغم الحياة القاسية التي أخذت من «هاشم علي» الكثير من الوقت والجهد لتوفير الضروري من شروط المعيشة والبقاء، إلا أنه لم يدخر جهداً بغية التعلم والتثقف والتجاوز, وقد بذل بهذا الخصوص مجهودات ذاتية وجبارة في شبابه، قرأ الشعر والأساطير خاصة الأساطير الشرقية، وقد تعلق كثيراً بأسطورة «جلجامش» وظل يعاود قراءتها من وقت إلى آخر وبشغف متجدد دائما.ًوإلى جانب تأثره بسمو الفلسفة العميقة التي تزخر بها الأساطير, خاصة أسطورة جلجامش, المتجاوزة لحديها الزمني والمكاني، التي استطاعت قهر شراسة وعبث الوحش « أنكيدو» لمصلحة إنسانيته، تأثر بالأفكار التي منحته إياها قراءة سير ومآثر مجموعة من المعلمين، حكماء وفنانين وفرسان. يقول هاشم إن دور المعلم ليس فقط في تلقين تلاميذه معارفه وأسرارها، بل إن أهم ما يجتهد بتعليمه لهم هو التركيز على المعنى السامي للمعرفة الإنسانية، فإذا لم يكن هم العلوم وجوهرها احترام الإنسان والطبيعة، فإنها بهذه الإعاقة/ التشوه/ العلة القاتلة تنتهي إلى الفناء، وتصيب الإنسان بخسارة وانتكاسات كبيرة، إن لم تقض عليه.[c1]اشتقاق[/c]ومن محصلة هذه القراءات، صارت لديه مفاهيم عن الإنسان والحضارة والإبداع واضحة وتنسجم مع الانفعالات المبهمة التي كانت تعتريه- سابقاً- عند تعاطيه لهذا الثالوث. ووفق هذا المفهوم، أدرك «هاشم علي» باكراً الشرطين الأهم والجوهريين ليستحق إنسان ما صفة «فنان»، وهما أولاً المزاج المميز للفنان، وثانياً سيطرته على أدوات فنه.فيما يتعلق بالمزاج، فـ»هاشم علي» منذ طفولته يتمتع بمزاج فنان، إحساس مرهف بالأشياء وتعاطي دافئ مع التعابير يتمكن من ملامسة دلالاتها المضمرة والمتوارية، قلق ورغبة في البوح؛ أضف إلى ذلك تجاربه النفسية التي زادت إحساسه بالأشياء والبشر رهافة، وكثفت شعوره بالإنتماء إلى أحلامهم وانكساراتهم، خاصة المتعبين مثله، ثم إن الراءات الواسعة والجادة للعديد من القضايا والأنماط الإبداعية وفلسفات الجمال والفن والوجود، أضافت إليه الكثير؛ وهكذا كان لِـ»هاشم علي» روح وحواس فنان، صقلهما مع الوقت بالقراءة والالتحام اليومي بهموم الناس ورائحة وجغرافيا الأمكنة، فكان- وحتى اليوم- يخرج كل صباح لتفقد المدينة والناس، في الأسواق والحارات والشوارع والبيوت، يتحسس نقوشها السرية، ويعتني بالغبار وشظايا الضوء، أما الناس فله معهم شجون لا ترتد إلا مضاءة باللون.. باختصار شديد، إنه يحب الناس كثيراً: العمال، صبي المقهى، الأطفال في كل أحوالهم، الشعراء، الشيوخ (الفكهين) جالسين أمام المحال لاصطياد الأصدقاء، أو أولئك المتقاعدين الماضين بنشاط داخل البدلات الكاكية الواسعة كأنما تنتظرهم الوظيفة التي التهمت أعمارهم، الصيادين، الحطابين، الحمالين، المواطنين المبتسمين في وجه السواد الذي يطحنهم، الحرفيين (صانعي الجنابي المداع والفخار والـ...)، الأبال (من يرعى الإبل ويبيع حليبها)، الصبريات أمام سلالهن يساومن المتسوقين على شراء بضائعهن التي دائماً ما تكون مغرية كنوافذ مزروعة بالنعناع والمشاقر؛ وهو حب لم يفقده انتباهه لما يزخرون به من معطيات فنية صالحة لأن تكون مادة للوحاته.وحتى عام 1970، كان «هاشم علي» قد قطع شوطاً كبيراً في تطوير قدراته كفنان بالإحساس بما حوله والتعاطي معه وفق فلسفة وسلوك جماليين شديدي الصدق والرهافة، مما أثرى ذاكرته الفنية والجمالية، وزاده إيماناً بالفن وبموهبته الفنية اللذين أعطاهما كل وقته وطاقاته، بل إنه بهذه الرؤية والإيمان بلغ، إضافة للقدرة الفنية، حالة من الطمـأنينة والرفاهية التي تورثها الفنون عادة لعشاقها، جعلته حتى اليوم يزهد بكل الإغراءات، ابتداء من البهرجة الإعلامية وحتى شغل مواقع الصدارة أو منصة أي كيان، وانصرف كلية للفن. ووفق هذا السلوك يبدو جلياً اعتناؤه بذاته لامتلاك قيمة الجلال القادرة على اكتشاف وصنع الجمال؛ يقول «هاشم علي»: عند الإنسان استعداد فطري وبهذه الخاصية تميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية الأخرى، وهذه الميزة أيضاً هي التي تجعله كائناً قادراً على أن يستخلص الجمال من الموجودات وتلك هي استجابة طبيعية لما تقتضيه غريزته الجمالية الكامنة في داخله، وبسبب ذلك يبدع الإنسان. وهكذا فالإبداع هو فعل من خلاله يسقط الإنسان قيماً جمالية متجددة في الأشياء وذلك انعكاساً وتأكيداً لغريزته الجمالية الكامنة في جوهره. ويمكن القول هنا بأن القيم الجمالية هي زاد جوهري نقي يقدمه الفنانون للمجتمع، وهم الذين تقع على عاتقهم المهام بالتخصص منذ القدم ومنذ أن عرفت المجتمعات البشرية على هذه الأرض، وذلك بعد تقسيم هذه التخصصات الاحترافية مثلها مثل التخصصات الأخرى داخل المجتمع لتكون أدوات له.
|
ثقافة
حكاية فنان
أخبار متعلقة