الصوفية في اليمن .. ظهورها وانتشارها
إعداد/ محمد زكرياشهدت اليمن في تاريخها الإسلامي وتحديداً في عصر ظهور الدول التي تعاقبت على حكم اليمن كالدولة الأيوبية ، والرسولية ، والطاهرية معارك حامية الوطيس بين الفقهاء والسلطة من جانب والصوفية ومشايخها وأتباعها من جانب آخر . وجراء هذا الصراع الحاد أزهقت أرواح ، وزج كثير في السجون المظلمة وفر آخرون من الاضطهاد . ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ الصراع الفكري الذي انفجر في المشهد اليمني في تلك الفترة من يراه يحسبه لأول وهلة صراعاً أو معارك على المعتقدات المذهبية ، والآراء العقائدية أو صراعاً بين الطرائق الصوفية المختلفة حول نفوذها الروحي على الناس . ولكن في حقيقة الأمر ، كان جوهره هو الصراع على أن يكون لها الكلمة العليا على البلاد والعباد ، والتحكم بمقاديرهم . حقيقة أنّ الصوفية أو التصوف على أرض اليمن ، كانت في بدايتها العبادة الخالصة والتخلص من أدران الدنيا وأطماعها ، ونشر القيم المضيئة والمبادئ المثلى بين الناس مثلها مثل الصوفية في بداية بزوغها في الوطن العربي والعالم الإسلامي أو في فجر الصوفية ، ولكن في ضحى الصوفية ( ونقصد في عصر الدول التي تعاقبت على حكم اليمن ) صارت حركة سياسة أقرب منها إلى حركة روحية لها مخالبها الحادة حيث صار لشيوخها الكبار قوة ، ومهابة ، وسطوة يحسب لها السلاطين والملوك والأمراء ألف حساب . ويرجع المؤرخون المحدثون ذلك إلى التفاف مجموعة هائلة من الأتباع، والمريدين الذين كانوا أشبه بالدرع الواقية لحمايته أو بعبارة أخرى كان هؤلاء الأتباع والمريدون يمثلون القاعدة الشعبية العريضة التي يتكئون عليها في مواجهة السلطة القائمة حينئذ ، وأحياناً تندلع مواجهات دموية بين الطوائف الصوفية المختلفة نفسها لتنفرد بالرئاسة والزعامة. وحقيقة الأمر .[c1]مع الدولة الرسولية[/c]والحقيقة أنّ الصوفية في اليمن نشطت نشاطاً ملحوظاً وصار لها قاعدة عريضة تستند إليها في ضحى تاريخ اليمن الإسلامي وعلى وجه الخصوص في عصر دولة بني رسول التي كانت امتداداً للدولة الأيوبية التي ولدت وتربت على حجرها في اليمن أو بعبارة أخرى التي ولدت من ضلعها . وكيفما كان الأمر، فقد عمل بنو رسول بشتى الوجوه على تقريب كبار مشايخ كبار الصوفية في اليمن إليهم نظراً لأن آل رسول أصولهم ترجع إلى الأكراد ، ولذلك اعتمدت عليهم الدولة الأيوبية في كثير من أمورها المهمة وكيفما كان الأمر ، فقد كان من الطبيعي أن يؤكدوا لليمنيين أنهم من أصل يمني وأنّ يثبتوا في نفوسهم وعقولهم تلك المسألة المهمة والحيوية للوصول إلى سدة الحكم في اليمن دون أن يشوب نسبهم شائبة. ولم يجد آل رسول أفضل من كبار شيوخ الصوفية ليروجوا بين الناس أنهم من أصل يمني ويعود نسبهم إلى قبائل غسان إحدى القبائل اليمنية . وتذكر الروايات التاريخية أن عدداً من كبار شيوخ الصوفية ، كانوا يذيعون بين الناس أن اليمن سيتولى أمرها سلطان عظيم ويعيد الأمن والأمان إليها ، وكانوا يقصدون به السلطان عمر الرسولي الذي لقب بعد ذلك بالمنصور . وفي هذا الصدد ، يقول الحبشي (نقلاً) عن أحمد العقيلي : “ عرف ذلك الشاب المتطلع لملك اليمن عمر بن علي الرسولي وهما ( يقصد الفقيه الصوفي محمد الحكمي ، ومحمد البجلي وهما كبار الصوفية في اليمن ) قد تنبآ له بالملك ما يمكن لطموحه المتطلع من الاستفادة من نفوذهما الروحي . . . فأخذا يروجان مقالتهما السابقة بملكه اليمن، ويشيعان ذلك سراً ثم يذيعانه مقدماً لتهيئة النفوس والعقول لوثبته وشاعت كلمتهما فتقبلها الناس بالترقب “ . ويضيف الحبشي : “ إذن فالدولة الرسولية تدين للصوفية بوجودها بعد أن مهدت لها عند الناس وأصبحت مما ينتظر وقوعه “. وكان طبيعيا أن يكون للصوفية ومشايخها حظوة كبيرة لدى آل رسول ـــ كما ذكرنا سابقاً. [c1]مع الدولة الطاهرية[/c] وعندما أشرقت شمس الدولة الطاهرية في سماء اليمن سارت على نهج سياسة الدولة الرسولية في كسب ود الطرائق الصوفية وكبار شيوخها . وكان ذلك بالفعل ، فقد كانت للصوفيةً حظوة كبيرة لدى سلاطينها ، وأمرائها ، وحكامها حيث تقربوا إلى مشايخهم الكبار بالهدايا والعطايا ، والأموال . وكان أبرز هؤلاء السلاطين والملوك الطاهريين السلطان عامر بن عبد الوهاب المتوفى مقتولا سنة ( 923هـ /1517م ) الذي كان لديه مشروع سياسي طموح وهو توسيع رقعة مملكته . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ والحقيقة أن السلطان عامر كان حاكماً قوياً طموحاً . . . فقد أظهر نشاطاً كبيراً منذ توليه الحكم في جمادي الأولى 894هـ ( 1489م )، وعمل على توسيع رقعة أملاكه “ . ، فكانت الضرورة السياسية تحتم عليه أن يبحث عن أنصار أقوياء يساندونه في تحقيق مآربه ، فوجد ضالته بالصوفية ومشايخها الكبار نظراً لما يملكون من تأثير كبير على أتباعهم ومريديهم الذين كانوا يملكون قوة شعبية لا يستهان بها من ناحية ويستخدمهم ضد خصومه السياسيين الذين رفضوا الاعتراف به وبدولته من ناحية أخرى . وعندما خبت جذوة الطاهريين ، وظهر العثمانيون الذين فتحوا اليمن في ( 1538م ) انحازت الطرق الصوفية في أوائل حكمهم إليهم , ولقد أبدى عدد من الولاة العثمانيين الكثير من الاحترام والتوقير الكبيرين للصوفية ومشايخها. [c1]أهل الطريقة[/c]وقبل أنّ نتوغل في تفاصيل تاريخ الصوفية في اليمن نرى أنه من الضرورة بمكان أنّ نتعرف على الأسماء التي سمي بها مشايخ الطرق الصوفية الكبار أو أقطابها . وفي هذا الصدد ، يقول المفكر خالد محمد خالد : “ وقد عرفوا عبرَ التاريخ بأسماء شتى . فتارة نسميهم : (( المتصوفة )) . . وأخرى ((أهل الله )) . و (( أولياء الله )) . . وأهل الطريقه. ولقد وقع بين أيدينا كتابا يحمل عنوان (( الصوفية والفقهاء في اليمن )) ، ويعد النسخة الوحيدة الباقية لكونه لم يطبع مرة أخرى . وفي ـــ رأينا ـــ يعتبر من المؤلفات النادرة التي بحثت بصورة مسهبة في تاريخ الصوفية في اليمن ، وهو للباحث الكبير الأستاذ عبد الله محمد الحبشي . وفي ما يلي بعض مما جاء به:[c1]في صنعاء[/c]ويلقي الباحث عبد الله الحبشي أضواء سريعة وخاطفة على البدايات الأولى لتاريخ الصوفية أو بعبارة أخرى على الرواد الأوائل في تاريخ التصوف أو الصوفية بوجه عام ونقصد بهم الصحابة الأجلاء الذين تخرجوا من المدرسة المحمدية . وتطرق أيضاً إلى عددٍ من كبار التابعين اليمنيين الذين نهجوا طريق الصحابة العظام في كل أعمالهم، أمثال التابعي الجليل طاووس ابن كيسان أشهر رجال اليمن المتوفى ( 106هـ / 725م ) . ويذكر الأستاذ الحبشي أيضاً أسماء بعض المتصوفة أو الزهاد الذين ظهروا في وقت مبكر في فجر تاريخ اليمن الإسلامي ، فيقول أنه ظهر في صنعاء اليمن في القرنين الثاني والثالث الهجريين ( القرنين الثامن، والتاسع الميلاديين) جماعة من زهاد اليمن منهم محمد بن بسطام الصنعاني . [c1]بين الفقيه والصوفي[/c] ثم ينتقل بنا الأستاذ الحبشي إلى القرنين ( الخامس والسادس الهجري ) (11 و12م) والحقيقة أنّ الصوفية في اليمن في هذين القرنين لم يكن لها ملامحها الخاصة بها أو بعبارة أخرى أو هوية متميزة بها أو مستقلة بذاتها ، وإنما الذي نراه هو تداخل وتشابك وثيق بين الفقيه الصوفي ، بعبارة أخرى أنّ المتصوف أو الصوفي ، كان ملماً بعلم الفقه بصورة خاصة، أي كان فقهيا، فضلا عن تعمقه في العلوم الإسلامية الأخرى بصورة عامة. و يعلل الحبشي سبب أو أسباب ذلك ، فيقول: “ ولا تفسير لهذه الظاهرة سوى أنّ التصوفي ( الصوفي ) ظل مندرجا في العلوم الإنسانية الأخرى ، ولم نعرف له تميزًا يذكر إلا عندما أصبح له مصلحة وشعاراته المتميز بها أصحابه عن سائر أهل المذاهب وذلك في القرن السابع الهجري القرن (13م ) “ . وكيفما كان الأمر ، فإنّ الصوفية أو التصوف بصورة عامة في خارج اليمن خطت خطوات واسعة ، وشكلت لنفسها شخصية مستقلة في الحواضر الإسلامية تعود إلى التاريخ الإسلامي البعيد ولكن لا يفهم من ذلك أن الصوفية في اليمن لم تكن في منأى عن التيارات الصوفية الكبرى و المشهورة التي هبت رياحها إليها والتي سنتحدث عنها بشيء من التفصيل بعد قليل .[c1]في تهامة[/c]ويفسر الأستاذ الحبشي سبب أو أسباب انتشار الصوفية أو التصوف الواسع في المناطق السهلية ، والساحلية من اليمن وتحديدا في تهامة والمناطق المحيطة بها لكون تلك المناطق تتميز بالهدوء والسكينة اللذين ينشدهما شيوخ الصوفية وخلصائهم ، وتلاميذهم . ويرى الكثير من كبار شيوخها في المناطق الساحلية بأنها تساعد على تهذيب النفوس ، وتجعل الإنسان في خلوة مع النفس ، وتأمل دائم ، وفي هذا الصدد ، يقول الحبشي : “ أغلب الظن الذين عرفتهم اليمن من الصوفية عاشوا في تهامة حيث كانت هذه المنطقة من البلاد المحببة لهم . فقد وجدوا فيها الأمن والهدوء مؤثرين العزلة والعبادة في سواحلها ، بعيدا عن ضجيج الحياة وقلاقل الحكام . وقد كان أحد صوفيتهم ــــ وهو الشيخ أحمد الصياد ـــ الذي يقع ضريحه في مسجد متواضع بمدينة التواهي بعدن يثني كثيرًا على السواحل ويرى أنها مورد عباد الله الصالحين “ . ومن الأسباب الأخرى التي جعلت الصوفية تزدهر في تهامة أو المناطق السهلية الازدهار الواسع والعريض هو قيام الدولة الرسولية (626 ــ 858هـ / 1228 ــ 1454م ) في تعز والتي كانت عاصمة دولتها في اليمن إبان حكمها الطويل الذي امتد أكثر من مائتي عام . وكان طبيعيا أن تكون للطرق الصوفية وشيوخها حظوة كبيرة لديها بسبب وقوفها بجانبهم في تأسيس دولتهم في اليمن المتمثلة في قضية النسب التي أشرنا إليها في السابق . وقد هيأ أيضا بعض كبار شيوخ الطرق الصوفية الأجواء السياسية لبني رسول ليحلوا محل الأيوبيين، فكان طبيعياً أن يحفظ سلاطين بني رسول للصوفية هذا الصنيع، وإزاء هذا جعلوا لهم مكانة مرموقة في نفوسهم ــ كما قلنا سابقا ــ . ومثلما فعلت الدولة الرسولية بتوثيق علاقاتها مع الطرق الصوفية ومشايخها الكبار من خلال كسب ودهم ، فعلت أيضا الدولة الطاهرية مع كبار شيوخ الطوائف الصوفية المختلفة في نهج سياسة الود والتقرب إليهم لكسب صفوفهم إلى جانبها . وتذكر الروايات التاريخية أنّ السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري ، كان يذهب بنفسه إلى كبار شيوخ الطوائف الصوفية في المناسبات والأعياد الدينية لتقديم التهاني لهم وبذلك يكسب ودهم ويستميلهم إلى صفه ، ويأمن أيضاً جانبهم . [c1]الهوية الصوفية[/c]وما إن بزغت خيوط فجر القرن السابع الهجري القرن ( 13م ) في سماء اليمن حتى ظهر عدد من شيوخ كبار الصوفية الذين كان لهم الأثر الكبير في تثبيت الصوفية وإظهار هويتها الخاصة بها ، كالشيخ علي بن عمر بن محمد الأهدل الذي يقال إن نسبه يرتفع إلى أصول عراقية وتحديدا في البصرة ، ويقول الحبشي إن بيت الأهدل مشهور عنه بأنه بيت علم تخرج منه الكثير من شيوخ الصوفية الكبار الذين ساحوا في كثير من مدن وأقاليم اليمن ونشروا فيها الحياة الصوفية . وأيضاً الصوفي عيسى بن إقبال الهتار الذي احتل مكانة عريضة في خريطة الصوفية في اليمن بسبب ، دوره المهم والكبير في الحياة الاجتماعية في المجتمع اليمني . وما إن بزغ فجر القرن الثامن الهجري القرن ( 14م ) حتى اكتملت صورة الصوفية وتصير لها ملامحها الخاصة بها ، فلم يعد المتصوفون يترسمون خطى الفقهاء أو بعبارة أخرى لم يعد هناك تداخل وتشابك بين الفقهاء والمتصوفة كما كان في السابق ، وصار لهم معتقداتهم وشعاراتهم المتميزة بهم . الجدير بالذكر ان بعضا من المتصوفين اليمنيين في هذا القرن (أي القرن 14 م ) تشربوا من الفلاسفة الصوفيين الذين انتشروا في عددٍ من حواضر العالم العربي والإسلامي أمثال ( الحلاج ) في بغداد ، و ( ابن عربي ) في الأندلس وأضرابهما ولكن كانت تلك أشياء فردية وليست جماعية فلم تؤثر على الحياة الصوفية في اليمن التي استمدت من بيئاتها اليمنية الأصيلة . وتذكر المراجع التاريخية أنّ عددا من المتصوفين اليمنيين ذاعت شهرتهم الآفاق في اليمن وخارج حدودها أمثال عبد الله بن أسعد اليافعي “ وهو الصوفي ( المتصوف ) اليمني الوحيد الذي سارت شهرته خارج اليمن وانتشرت كتبه في مكة ، ومصر ، والشام ، عاش في عدن ، وانتقل إلى مكة ثم ارتحل إلى مصر والشام . . . توفي سنة 768هـ ( 1367م ) “ .[c1]من الأدب الصوفي[/c] ونطوي صفحة القرن الثامن الهجري ، ونفتح صفحة القرنين التاسع ، والعاشر الهجرييــــــن القرن ( 15م ) ، و القرن ( 16م ) وفيهما انتشرت الصوفية انتشاراً كبيراً في كثير من مناطق وأقاليم اليمن بصورة عامة والمناطق التهامية بصورة خاصة كانتشار النار في الحطب وذلك يعود إلى أنّ الرعيل الأول من شيوخ الصوفية الكبار الذين أتسموا بالمصداقية والهيبة والجرأة والشجاعة والنزاهة ، والتقوى ، والورع دفع الناس وخاصة البسطاء منهم إلى الالتفاف حولهم كما يلتف السوار على المعصم. ويذكر المؤرخون المعاصرون في تلك الفترة ، أن هؤلاء الشيوخ كانوا ملجأ المستغيثين ، والخائفين من ظلم الظالمين . وكان الشيوخ من الصوفية الكبار يواجهون السلاطين والأمراء والحكام الذين يذيقون الناس العذاب الغليظ بجرأة وقوة لا يخشون في الله لومة لائم أمثال شيخ الصوفية في عصره إسماعيل ابن أبي بكر الجبرتي المتوفى ( 806هـ / 1404م ) . والمتصوف أبوبكر محمد السراج المتوفى ( 800هـ /1398م ) ، الذي كان من كبار شعراء الصوفية وله ديوان شعر ، وقيل إن شعره ، كان يحمل نقداً لاذعاً للحكام الذين ينحرفون عن طريق الحق ويبطشون بالضعفاء ، وكذلك الصوفي أحمـــــد بن علوان من كبار الصوفية في تعز الذي كان شديداً في الحق في مواجهة الحكام وله بيت شعر ينتقد فيه بقوة السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول المتوفي ( 694هـ / 1295م ) الذي يعد أعظم سلاطين وملوك الدولة الرسولية ومن ثبت دعائم الحكم بعد مصرع والده المنصور مؤسس الدولة الرسولية وفيه يقول : “ عار عليك قصورات مشيدة وللرعية دور كل دمن“. وهذا يقودنا إلى دراسة الأدب الصوفي في اليمن وخاصة الشعر منه الذي كان منتشرًا حينئذ ، وكان له سطوة على تهيج مشاعر الناس في تلك الفترة حتى نتعرف بعمق على سماته الفنية و تأثيره على نفوس الناس على تباين طبقاتهم الاجتماعية ، فالشعر ، كان في تلك الفترة التاريخية بمثابة وسيلة إعلامية وخطيرة للصوفية توضح مبادئ كبار شيوخ الصوفية و أفكارهم ، وأهدافهم ورسالتهم تجسيداً حياً للناس .[c1]متحف الصوفية[/c] ويصل بنا مؤرخنا الحبشي إلى القرن ( 10هـ / 16م) لنطلع على خريطة الحياة الصوفية في حضرموت في تلك الفترة . وتذكر الروايات أن حضرموت وخاصة مدينة تريم كانت منبع الصوفية في اليمن فقد ساح منها الكثير والكثير جدًا من المتصوفة الحضارمة إلى الكثير من مناطق ومدن اليمن لنشر الصوفية بين ربوعها ، على سبيل المثال الوهط في لحج حيث تلاحظ في هذا المدينة الأضرحة والشواهد لكثير من شيوخ الصوفية وتعد مدينة الوهط مدينة الصوفية في لحج وكذلك مدينة حبان التي تحفل بكثير من كبار شيوخ الصوفية علاوة على آثار الصوفية كالزوايا والتكايا ، والأضرحة الكثيرة التي تطفو على وجهها. وقد سرد السيد محمد عبد الله الحوت المحضار في مؤلفه (( ما جادت به الأزمان من أخبار مدينة حبان )) عن تاريخ كبار الشيوخ الصوفية في مدينة حبان وكيف أن أغلبهم ـ إن لم يكن كلهم ـ زحفوا من حضرموت إلى المدينة . [c1]من أقطاب الصوفية[/c] وتذكر المصادر التراثية أن من أقطاب الرعيل الأول من شيوخ الصوفية الحضارمة الشيخ أبوبكر بن عبد الله العيدروس المتوفي ( 914هـ / 1508م)، ومعروف بن عبد الله باجمال المتوفى ( 968هـ / 156م ) الذي تخرج على يديه الكثير من المريدين والأتباع , وتذكر الروايات الصوفية أنه كان صاحب ثراء عريض ، وأنه قد تعرض للأذى من حاكم بلاده بسبب اتساع شهرته وميل الناس إليه. ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ (السادة العلويين ) وهم من كبار شيوخ الصوفية في حضرموت كان لهم الدور الفعال والخطير على مسرح حضرموت السياسي ويكفي أنّ الدولة الكثيرية في حضرموت الداخل قامت على أكتافهم . وإذا زرت مدينة تريم بحضرموت لفت نظرك أنك تشاهد الأضرحة ، والزوايا والتكايا ، والأربطة الدينية ( المعاهد الدينية ) ، ولسنا نبالغ إذا قلنا أنها بمثابة متحف للصوفية ـــ إذا صح هذا التعبير ـــ ومن مدينة تريم خرج الكثير والكثير جداً من كبار شيوخ الصوفية الذين في الهند وإندونيسيا حيث نشروا الإسلام فيها ، وهناك كونوا إمارات عديدة وخاصة في إندونيسيا , ولقد التف السكان الأصليون حولهم لما رأوا منهم العدالة ، والرأفة ، والرحمة ، والنزاهة. والحق يقال ، لقد جسد كبار الشيوخ الحضارمة قولاً وعملاً الإسلام الحنيف الذي يدعو إلى المحبة والسلام والتواؤم ، والتكافل الاجتماعي الذي يساعد فيه القوي الضعيف ، والغني الفقير بصورة غاية في البهاء والروعة .التيارات الصوفية الكبرىومثلما هبت التيارات أو الطرق الصوفية الكبرى والمشهورة على الوطن العربي، والعالم الإسلامي هبت أيضا ًعلى اليمن في ضحى تاريخها الإسلامي وتحديداً إبان الحروب الصليبية على المشرق العربي التي استمرت قرابة أكثر من مائتي عام . وفي هذا الصدد ، يقول الأستاذ عبد الله الحبشي إن الطرائق الصوفية في اليمن تأثرت بشعارات وطقوس، وعادات وتقاليد الفرق الصوفية الكبرى المشهورة التي ظهرت على سطح حواضر الوطن العربي والعالم الإسلامي. وقبل أن يخوض الحبشي في التفصيل عن الطرق الصوفية الكبرى أورد أسماء عدد ًمن الطرق أو الطوائف الصوفية المحلية النابعة من البيئة المحلية كالاهدلية ، والجبرتية ، والحدادية ، والعيدروسية . ويذكر الأستاذ الحبشي أسماء الفرق الصوفية الكبرى التي دخلت اليمن وهي ست طوائف ونظرًا لأهمية ما ذكره عنها نوردها على الوجه التالي : 1 ـــ الطريقة القادرية : وتنسب إلى الشيخ عبد القادر بن موسى الجيلاني المتوفى ( 561هـ / 1166م). دخلت إلى اليمن في حياة الشيخ الجيلاني على يد الشيخ علي بن عبد الرحمن الحداد ، والشيخ عبد الله االأسدي ، ويفهم من هذا أن الطريقة القادرية تعد أقدم الطرق الصوفية التي دخلت اليمن . 2 ـــ الطريقة الشاذلية : نسبة إلى الشيخ أبي الحسن علي بن عبدالله الشاذلي المتوفى ( 656هـ / 1258م ) “ . . . انتقلت إلى اليمن على يد الشيخ علي بن عمر ابن دعسين الشاذلي المتوفى سنة (821هـ / 1418م ) . والجدير ذكره ، أنّ الطريقة الشاذلية كان لها حضور قوي في مدينة عدن القديمة ، وتحديداً في حي حسين الأهدل الذي كان يسمى قديماً بحي الشاذلي نسبة إلى الطريقة الصوفية الشاذلية نظراً لحضورها الكبير في هذا الحي . والجدير ذكره أنّ حي حسين الأهدل أو الشاذلي ظهر في أواخر عصر الدولة الطاهرية التي شهدت عدن في عهدها ازدهاراً عمرانياً واسعاً . ولكن اسم حي الشاذلية مع مرور الأيام والسنين توارى ، وأطل اسم جديد وهو حي الحسين على اسم مؤسس مسجد حسين الحسين الأهدل سمي الحي باسمه، وسكن فيه قبل أكثر من ستمائة سنة .3 ـــ الطريقة المغربية : مؤسسها الشيخ شعيب بن الحسن الشهير بابي مدين المتوفى ( 594هـ / 1198م) ـــ من المحتمل أنها جاءت من الجزائر ــــ على حد قول المصادر التراثية ـــ ، وتذكر المراجع أنها دخلت اليمن عبر مندوبه إلى حضرموت .4 ـــ الطريقة الرفاعية : مؤسسها الشيخ أحمد بن علي الرفاعي المتوفي سنة ( 578هـ / 1183م) ، وتذكر الروايات أنها دخلت اليمن من مصر على يد الشيخ عمر بن عبد الرحمن بن حسان القدسي المتوفى سنة ( 688هـ / 1289م ) . وتذكر بعض المراجع أن الطريقة الرفاعية كانت في فترة من فترات التاريخ شعلة من الحماس والنشاط الكبيرين في ثغر عدن، وكان لها تلاميذ ، ومريدون، وأتباع كثر ، ولكنها مع مرور الأيام والسنين انطفأت جذوتها . وقد تفرع منها في عدن الطريقة الأحمدية والمشهورة في مدينة الشيخ عثمان ، ومازالت تلك الطريقة ماثلة للعيان ولها اتباعها ومريدوها .5 ـــ الطريقة السهروردية : تذكر المصادر الصوفية بأنها تنسب إلى الشيخ عمر بن محمد السهروردي المتوفى سنة ( 632هـ / 1640م )“ لم يعرف شيء من آثار هذه الطريقة في اليمن . . . “ .6 ـــ الطريقة النقشبندية : تذكر الروايات التاريخية بأنها من الطرق الصوفية المتأخرة التي دخلت اليمن، ولقد نشرها تاج الدين بن زكريا الهندي النقشبندي المتوفى سنة ( 1050هـ / 1640م ) . وتقول الروايات إن أحد أتباع الطريقة النقشبندية جاء إلى اليمن“ فأخذ عنه هذه الطريقة الشيخ أحمد بن محمد بن عجيل المتوفى سنة ( 1074هـ / 1664م). والحقيقة أنّ حياة التصوف في اليمن حياة صوفية خالية من الفلسفة العميقة التي تحتويها تلك الطرائق الصوفية الست والتي كانت مشهورة في حواضر العالم الإسلامي كالقاهرة ، بغداد ، ودمشق ، وبلاد المغرب . وأغلب الظن أنّ كبار المتصوفة أو مشايخ الصوفية في اليمن بصورة عامة لم يتوغلوا في فلسفتها الصوفية المعقدة والرموز الغامضة التي تحيط بها , واكتفوا بأخذ شعاراتها المادية أو بعبارة أخرى عاداتها ، وتقاليدها فحسب . وظلت الصوفية اليمنية محتفظة بملامحها الخاصة بها التي تلائم بيئتها المحلية .[c1]الطريق إلى المشيخة [/c]ويلقي مؤرخنا الحبشي الأضواء القوية على نظام انتخابات المشيخة في الحياة الصوفية أو بعبارة أخرى انتخاب الشيخ المقبل الذي سيجلس على دكة الصوفية فنجد أنه نظام غاية في الدقة حيث يقوم على أسس واضحة ، وقواعد صارمة . وتتضح تلك الأمور في الهيكل التنظيمي للطريقة الصوفية . فشيخ الطريقة هو الذي يتربع قمة هرم التنظيم يليه النخبة ( أي حواريه ) المقربين إليه ( من كبار الشيوخ ) ، وبعدهم يأتي التلاميذ، ثم المريدون والأتباع . ومن ينظر في تنظيم الترشيح، سيلفت نظره أسلوب وشكل اختيار الشيخ للمشيخة وهو ــــ في الغالب الأعم ــــ يعود إلى كفاءته وثقة شيخه به ولا يجلس على دكة المشيخة إلا بعد وفاة شيخه. وفي أحيانً يأتي الترشيح بالتزكية بمعنى آخر أنّ شيخ الطريقة الصوفية أثناء حياته يرشح أحد تلاميذه بسبب نجابته، وذكائه، وغزارة علمه في علوم الصوفية وفروعها ، ونزاهته ، وإخلاصه، وتقواه ، ومهارته الكبيرة في إدارة شئون الطريقة ، وقدرته على تحمل مسئوليتها . وسنتحدث عن ذلك بعد قليل بشيء من التفصيل .[c1]أمناء المجلس[/c] وفي نظام انتخابات المشيخة أو بعبارة أخرى انتخاب شيخ الطريقة، يوجد مجلس أمناء يتكون من كبار الصوفية توكل لهم مهمة ترشيحه بناء على الكفاءة في علوم الصوفية وفروعها المتنوعة، والورع ، والتقوى وغيرها من السجايا الحميدة التي يتحلى بها الشيخ المؤهل لترشيحه للمشيخة ـــ كما قلنا سابقاًً ــ وهذا ما أكده الحبشي حيث يقول: “ على أن تولي المشيخة الصوفية لا يأتي في أكثر الأحيان اعتباطا ً أو بدافع ذاتي ، وإنما يكون غالباً بترشيح يقوم به كبار الصوفية في ذلك الوقت للشيخ المرشح للمشيخة “. وهناك أيضاً سبب آخر يتعلق بترشيح الشيخ للمشيخة أو شيخ المستقبل للمشيخة وهي أنّ يكون ، قد انضم إليه الكثير من الأتباع والمريدون إبان حياة شيخه ، فيكون في موقف قوة إزاء شيخه الكبير الجالس على المشيخة، ما يدفع بالأخير إلى أنّ يوصي إلى كبار أمناء الصوفية ترشيحه من بعده وبذلك يكسب ولاءه ولا يسبب له عائقاً أو قلقاً أثناء حياته في إدارته للطريقة . وهذا ما حدث بالفعل مع الشيخ إسماعيل الجبرتي الذي تولى المشيخة بعد أنّ كُثر مريدوه وأتباعه وصار له نفوذ قوي في الطريقة إبان حياة شيخه ، حتى أنه يزاحم شيخه في تولي مسئولية المشيخة . وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ الحبشي : “ أنه عندما حانت تولية الشيخ إسماعيل الجبرتي مشيخة الصوفية وذلك بعد أن كثر أتباعه واشتهر أمره ، اجتمع الصوفي الكبير رضي الدين أبوبكر سلامة الموزعي بالشيخ أبي بكر بن محمد السراح صاحب قرية السلامة فأشار إليه أن ينصب الجبرتي فقبل منه ذلك “ . [c1]وصية الشيخ[/c]ومن الصور الأخرى في ترشيح المتصوف أو التلميذ ليتولى مسئولية المشيخة أن يوصي شيخه أتباعه ومريديه وكبار الصوفية بعد موته ، وصية يجب أن يلتزم بها تلاميذه ، وأتباعه ، ومريدوه في ترشيح تلميذه الذي أختار أن يكون خليفته بعد موته في الجلوس على دكة المشيخة حيث يترسم فيه النبوغ، والنجابة ، والنزاهة وحسن التصرف في إدارة دفة سفينة الطريقة الصوفية في وسط الأمواج العاتية ليوصلها إلى شاطئ الأمان ، وذلك مثلما حدث مع أحد كبار الصوفية في عدن.