من رموز شعراء العامية في ابين
الترحال في شعر أبو قرنين من غزلياته إلى شكاويه دراسة / أحمد مزاحم أحمدتقديم:عرفت الشاعر السيد محمد علوي أبو قرنين عندما كنت طالبًا في الصف الثاني الابتدائي منتصف الستينيات من القرن الماضي، وكان رحمه الله يشغل ما يسمى "الحاكم العُرفي" في منطقتنا _ منطقة المحفد _ سلطنة العوالق السفلى حينها.كنت أسمع أشعاره مما يتردد على ألسنة العامة والخاصة وقتذاك، وكانت سمعته كشاعرٍ غزلي هي الشائعة حينها، وقد أتيحت لي الفرصة لأرى وأسمع هذا الشاعر المتميز في إحدى حفلات الزواج في المحفد.. ورغم مشاركة آخرين من الشعراء في المساجلات الشعرية المعهودة في مثل هذه المناسبات وفي تلك الأزمان الجميلة؛ فإنّ حضور الشاعر أبو قرنين وصورته وهو يتقدم إلى المدارة _ أو ساحة الشرح _ ووقفته المهيبة وسمته الجميل المتميز وطريقته المتألقة في الإلقاء وإشعاله سيجارته ونفثه الدخان وهو يرنو بنظرة متأملة في الفضاء الذي يمتزج فيه إيقاع الطبول بسكوت البلدة الجنوبية القديمة الكائنة في ظلال جبل يقترب في اسمه ورسمه من الحلم.. كل ذلك كان شيئًا لا يُنسى!!وفي أحد الأيام في تلك السنة زارنا إلى المدرسة الابتدائية في المحفد الشاعر محمد علوي أبوقرنين، وكان يومًا احتفاليًا بهيجًا.. وفي اليوم التالي كان الأستاذ القدير مهدي ناصر بن أبوبكر مدير المدرسة يقرأ علينا قصيدة أهداها السيد بو قرنين إلى أبناء المحفد، وقد كتبها الشاعر عقب زيارته لمدرسة المحفد الابتدائية، وما زلت أذكر منها الأبيات التالية :أنا أهدي التحية لهذا الشباب شباب العوالق بنو المحفدِ فأنتم بنو العرب أهل الإباء ولا تخلفون عن الموعدِفعزم الرجال يهد الجبالويحمي الحدود من المعتديوالشاعر محمد علوي بو قرنين من أبناء مدينة أحور عاصمة النمطقة الكازمية وحاضرة المخلاف القديم الذي يحمل اسمها، وأحور هي الوادي المشهور في المحفوظات والمأثورات اليمنية، ولها في المكان والزمان أصداء وارفة تملأ الذاكرة والقلب، أحور هي حوراء اليمن السعيد، ودلتا الخير والعطاء التي تتطلع إلى غدها الجميل بأملٍ جسور لا يتزحزح وثقة بالله والنفس لا تتزعزع.ويسعدنا هنا أن ننشر ما كتبه الكاتب والباحث أحمد مزاحم أحمد وهو من أبناء أحور عن شاعر الوادي.. والبوادي. ( عوض الشقاع )..من يطلع على حياة أبو قرنين فضلاً عن شعره يخيل إليه؛ أنّه يقف أمام شاعر جاهلي عاش حياة البداوة، ترعرع في بواديها وألِفَ أغنامها وإبلها ونال من قساوة العيش وضنك الحياة، رحل من وادٍ إلى وادٍ ومن جبلٍ إلى جبلٍ ينشد الأشعار ويسمر مع السمار، تعريه المصاعب والأخطار وتنجيه الحكمة والأقدار.ومن يقف على أشعاره وما تمتاز به من صدق العاطفة وبراعة في التصوير وحُسن التناسق في الألفاظ وسهولتها مع بساطة التعبير وعمق الفكرة، يدرك المتأمل لذلك أنّ أبو قرنين شاعر متمكن من الصعب أن تجد ما يعيب شعره؛ إلا ما ندر أو أساء الحفاظ حفظه.كما أنّ موضوعاته الشعرية لم يوظفها وفق هواه، بل جاءت مرآة صادقة وواضحة لما عاناه من أحاسيس ومشاعر مزجت عاطفته بفكره، فأثرت في نفسه ووجدانه فهتف بها بملء فيه.ولم يكن أبو قرنين يقول الشعر على أسلوب واحد، بل تتعدد الأساليب وفق الحدث أو الموضوع ويعطي لكل مقام مقال، فهو حينًا يقول شعرًا واقعيًا مجرد من الخيال وحينًا خيالاً عاطفيًا، ما في قصيدته (سلمى) وطورًا يخاطب الناس بالأمثال والحكم والمواعظ وطورًا بالرمز والإيحاء.وما يزيد جمال القصيدة عند أبي قرنين ما تمتكله تلك القصائد من إيقاع موسيقي جذّاب يطرب معه المتذوقون، مما تتحلى به قصائده من ألوان البديع كالجناس والطبق، وهي على الرغم من تزاحمها في بعض قصائده؛ إلا أنّه لا تقل من شأن الفكرة بل تزيدها عمقًا وتأثيرًا.ويمكن القول إنّ قصائد أبو قرنين وخصوصًا مناظراته الشعرية مع كبار الشعراء قد استحوذت على قلوب الناس في أحور الأمر الذي سهّل على سرعة تناقلها بين الناس في أحور وخارجها.ولعل السبب في ذلك أنّ أشعاره كانت تحاكي الناس من معاناة وحرمان وتصور كل ما في نفوسهم من أحسايس ومشاعر سواء في أفراحهم أو أحزانهم؛ ولأنّ الشاعر نفسه كان يحب بلدته ويحب أهلها ولهذا لم ينشد معتزًا بنفسه ومن أجلها بل ينشد معتزًا بمنطقته ومن أجل مصلحتها.أبو قرنين هومحمد بن علوي بن عبدالله بن هارون بن عيدروس بن أبو نمي ويتصل نسبه بالبيت النبوي الشريف.وأبو قرنين هو لقبه، ولقد لصق به أثناء نزاع وقع مع أحد حكام أحور الميمونة _ أيام سلطنة العوالق _ وكان أبو قرنين شديد المنازعة لا يفرط في ذرة من حقوقه فأخذ الناس يراجعون في عدم منازعة السلطان ويحاولون إقناعه تارة ويخوفونه من بطش السلطان تارةً أخرى دون جدوى حتى قال لهم وهو غاضب : لا من يكون هو؟ إنسان مثلي لا غير.أيش زيّده عليّ؟ با يأخذ حقي بالباطل!! ما تدرون أنّ الأرض والعرض ما حد يفرط فيه؛ إلا الجبان؛ فإذا هو قرن فأنا "أبو قرنين".وأبوه علوي بن عبد الله بن هارون أبو نمي سافر إلى حضرموت لطلب العلم، وأخذ عن عدد من علمائها وصلحائها ومنهم السيد عبد الله بن عيدروس العيدروس والسيد عبد الباري بن شيخ العيدروس والسيد علي بن عبدالرحمن المشهور والسيد عبد الله بن عمر الشاطري... ثمّ رجع إلى أحور فكان يجمع بين طلب العلم والاهتمام بأعمله الأخرى وكانت له أرض زراعية يقوم بالحراثة والزراعة ثم يعود ليحضر مجالس العلم.وأخذ أبو قرنين تعليمه من أبيه ومن الكتاتيب فتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب وقرأ القرآن الكريم وأمور الفقه، وكان مثل أبيه يجمع بين العلم والعمل في الأرض التي ورثها من أبيه.عاش أبو قرنين في صباح حياة مترفة يلهو ويعبث مع الشباب فكان ينتقل بين قبائل البلاد ويطوف السواحل والجبال ويجوب.البداوة والحضر بحثًا عن السمر والرقص والشعر والدان متصفحًا للوجوه متأملاً النجوم الأقمار يقول معبرًا عن ذلك فالمرحلة الأولى من حياته التي عاشها في كنف أبيه _ الذي خلف أموالاً طائلة تركها لولديه _ كانت حياة ترف متنقلاً من سمر إلى سمر يسمر مع السمار ويشعر مع الشعار حتى طلوع الفجر وعلى الرغم من حداثة سنه في تلك الفترة؛ إلا أنّ شعره كان قويًا يجذب الشيوخ والشباب لسماعه ما جعل أهل الزواج يرسلون إليه ليحيي لياليهم بأشعاره.ولم تدم حياة الترف طويلاً فقد مات أبوه واصبح مسؤولاً عن أهله _ كونه كبيرهم _ وعليه أن يقوم الأب في العناية بالأرض والجد في زراعتها... وتزداد المأساة إلى درجة الإذلال حيث أخذت منه أرضه التي ورثها عن أبيه عنوةً أثناء حكم الحزب الجبهة القومية وصدور قانون الإصلاح الزراعي 1972م، فأخذ أبو قرنين يدافع ويقاوم لاستعادة أرضه، ولكن دون جدوى تساندهم الحكومة يفرضون قوتهم وسلطتهم فيسجنونه ويعود يهجوهم بأشعاره فيسجنونه مرة أخرى ومرات وينقلونه من سجن إلى سجن، ولكنه ظل يصرخ وينادي بإعادة الحقوق والعدل.وكانت المرحلة الثانية من حياة أبو قرنين حياة ترحال لكنها ليست وراء السمر والرقص بل وراء الحكام يناشدهم ويشكو إليهم بطش المسؤولين في أحور فيجد المعاملة نفسها حتى أُدخل السجن عدة مرات وفي عدة مناطق في أحور وزنجبار وجعار ومن بين القضبان تناثرت دُرر وجواهر ما زالت ساطعة إلى اليوم.عاش أبو قرنين بقية حياته في زهد وورع تاركًا همومه وراء ظهره راجيًا رحمة ربه حتى أقعده المرض الذي أنتهى بموته عام 2001م.شعره :الواقع أنّ حياة أبي قرنين أثرت تأثيرًا واضحًا في تكوينه الشعر فالمرحلة الأولى من حياته، كانت مرتعًا خصبًا لبروز فن الغزل والوصف في شعره والمرحلة الثانية، كانت أشعاره بمنزلة الملاذ الوحيد الذي من خلاله يستطيع أن يبث آلامه وأحزانه، ما جعل الشكوى تسيطر على معظم قصائده في هذه المرحلة، ولهذا نلاحظ أنّ أشعار أبي قرنين تنقسم إلى قسمين :قسم نظمه قبل موت أبيه وقسم بعد موت أبيه وأخذ ممتلكاته.ولعل دقة التصوير كثرة البديع في قصائد أبو قرنين لها أثر كبير في جعل كثير من الشعراء يحفظنها ويتغنون بها في مجالسهم، كقوله في رائعته (البدوية) واصفًا حياة البداوة :وليس عجبًا أن يكون فن الغزل مسيطرًا على قصائده في فترة الصبا فهو ينتقل من قرية إلى قرية يسمر ويلعب فيرى السمار فينشد في ذلك أروع القصائد الغزلية ..ومع أنّ حياة السَمَر واللعب مع الشباب لم تدم، بعد موت أبيه وفقد مملكته فمن الطبيعي أن ترى تغير اتجاهه الشعري وفق تغير مظاهر الحياة التي مرّ بها، ولهذا كان يشكو الظلم والسائد في البلاد بسبب شدة المتسلطين وظلمهم السافر كقوله سجنه وهو سجن أحور :روعة قصتي في السجن يا أستاذ روعةكيف تسجن شخص لا تفرع ولا هدادوهذا ذنب سجنه كيف يأستاذ نوعهمن غريمة قدم الدعوة ومن شهاد يزفونا دفع للسجن دفعة بعد دفعةلا لنا صحة ولا توفير لقمة زادوفي شعر أبي قرنين الروح الوطنية جلية فهو إنسان عربي مسلم معتزًا بعروبته وعقيدته وكثيرًا ما يدعو إلى وحدة الأمة والتحرر من قيود المستعمرين وهو بحق ثائر وناضل بالكلمة والمال، ويعلن بكل صدق بغضه للعملاء والمتآمرين كقوله :ونحن دي لثورتنا قنابل محرقةومن وقف أمامها سنحرقه حرقاومن هو ضد ثورتنا أجل با نسحقهونحن هنا لكل خائن نسحقه سحقالها أرواحنا وأموالنا با ننفقهوكل غالي با نبذله من أجل أن تبقىوإن خنا مبادئها جزانا المشنقةالسجن لا يكفي جزانا الموت والشنقا