أضواء
قامت جمعية الدفاع عن حقوق المرأة السعودية بإنتاج فيلم وثائقي وضع مؤخراً على الفضاء الإلكتروني عبر اليوتيوب عن ظاهرة زواج الصغيرات. الفيلم بواقعيته المؤلمة والموثقة لا يمكن إلا أن يجعلك تبكي مرة وتشتاط غضباً مرات أخرى لهذه المأساة البشعة التي تحدث أضراراً عميقة ليس لدى الأطفال الذين يتعرضون لهذه الممارسات بل وفي المجتمع كله ولا تتوافق مع معطيات العصر الذي نعيشه. ولا يكاد المرء يصدق ما يقرأ ويشاهد ونحن نواجه مآسي طفلات وفتيات حرمن من الاستمتاع بطفولتهن البريئة، ولكنها بكل الأسف تظل حقائق وقضايا تطرق رؤوسنا وتدفعنا لأن نتخذ موقفاً صارماً ضدها.المتابع لموضوع زواج الصغيرات في مجتمعنا وما يدور حوله من فتاوى متسرعة وما يستتبعه من قضايا يخرج بنتيجة أساسية واحدة وهي تحول الزواج إلى صفقة من طرف واحد يحصل فيها الرجل على حقه في ممارسة الجنس شرعياً بغض النظر عن المقاصد الكبرى من الزواج وقيمه ومبادئه الأساسية في تكوين أسرة مستقرة متوازنة تحقق الهدف الأسمى للزواج ألا وهو السكنى وعمارة الأرض.وبنظرة سريعة لما أثير حول هذا الموضوع في إعلامنا تبرز بعض الحالات التي تم فيها بالفعل توثيق عقود زواج رجال من قاصرات لا يتجاوزن الرابعة عشرة من أعمارهن بل وفي حالات يصل الأمر إلى زواج طفلات في سن العاشرة والثامنة بل وحتى الخامسة من العمر. وأسوق هنا عينة من العناوين التي حملتها لنا الصحافة مؤخراً حول قضايا زواج القاصرات: زواج طفلة عنيزة والقاضي يرفض فسخ عقد النكاح؛ زوج طفلة عنيزة يضيف اسمها إلى دفتر العائلة؛ إرغام طفلة عمرها ثماني سنوات على الزواج من رجل يبلغ الثامنة والخمسين؛ محامي سعودي يتبرع للدفاع عن طفلتين قاصرتين أرغمتا على الزواج. وغير هذا كثير من العناوين التي تجاوزت الصحافة المحلية لتجد طريقها إلى الصحافة العربية والعالمية.أما على صعيد الموقف من هذه الزيجات فلم يقتصر الأمر على كونها تمت بشكل رسمي، أي أنها مرت بقاضٍ ومحكمة شرعية وثّقتها وأجازتها رسمياً، بل تأتي بعض الفتاوى داعمة لها مما يعطيها بعداً أكثر خطورة. و(على سبيل المثال) هذا مأذون من جدة يصرح: “يمكن الزواج برضيعة والدخول بها في التاسعة”!! ربما يكون هذا المأذون قد استند إلى جزء من الرخصة الشرعية التي نوه لها سماحة المفتي والتي قيدها سماحته “بتحمل تبعات الوطء”. ومن المعلوم أن تبعات الوطء هذا تتغير بتغير الأزمنة. كما أنه من المفهوم لنا جميعاً أن الرخص الشرعية يمكن للحاكم أن يمنعها لاقتضاء المصلحة كما نعرف من سيرة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي عطل حد السرقة وكما نفهم من إلغاء الرق في العصر الحديث رغم وجوده وممارسته في عهد النبوة، وغير ذلك الكثير من الأمثلة، إلا أننا لسنا هنا بصدد المناقشة الشرعية، والتي لها أهلها واختصاصها، بل نحن بصدد الممارسات الاجتماعية التي باتت تؤرق ضمير المجتمع وتضع شرخاً عميقاً في قيمه الإنسانية. إن عقد الزواج هو عقد شراكة بين طرفين. ومن البدهي أن أطراف أي اتفاق لا بد أن تمتلك الأهلية الكاملة لفهم الاتفاق الذي يلزمها وأبعاده وتبعاته، ولا يمكن لنا أن نقبل عقلاً أو منطقاً أن الطفلة ذات العشر سنوات تتحقق فيها هذه الشروط، كما أنه من المعروف قانوناً أنه لا يمكن لصغير أن يبرم عقد شراكة في القضايا التجارية والمالية، والتي هي أقل شأناً من مسألة الزواج وبناء الأسرة وتربية النشء، فما بالك بعقد زواج يفترض فيه الديمومة والالتحام لتكوين نواة أسرة متكاملة. ومن ناحية ثانية، فإن اتفاقيات حماية الطفولة والتي تلتزم بها المملكة تقتضي عدم الاعتراف (في الجانب المدني طبعاً وليس الشرعي) بمثل هذا الاتفاق الذي يكون أحد طرفيه قاصراً. ولا يعتد هنا بوالد الطفلة أو ولي أمرها، خاصة إذا كانت له مآرب أخرى من إبرام صفقة الزواج، إذ إنه ليس هو من يتحمل تبعات عقد الزواج، بل إن تلك التبعات تقع عاجلاً وليس آجلاً كاملة على الطفلة وليس على ولي أمرها. ويحمد لسماحة المفتي أنه قنن جواز مثل هذه الزيجات من القاصرات بقوله: “يجوز الزواج بالصغيرة متى استطاعت تحمل الوطء وتبعاته”! فالزواج، وإن رآه البعض محصوراً في الوطء، إلا أن تبعاته متعددة ومتشعبة وعميقة في ذاتها وفي مقاصدها، كما أنها تتغير بتغير الأزمنة. وربما استطاعت هذه الصغيرة “تحمل الوطء” تحملاً جسدياً (هذا إذا كانت بنيتها الجسدية قد اكتملت) ولكنها وبكل تأكيد لن تكون قادرة على تحمل تبعاته النفسية والعاطفية والاجتماعية. فمن الجانب النفسي: يحتاج الطفل إلى مرحلة يكتمل فيها بناؤه العاطفي والنفسي. ولا شك أن تجربة الزواج في عمر الطفولة سوف تترك آثاراً نفسية مدمرة على الطفلة/ الزوجة من ناحية شعورها بالأمن النفسي والاستقرار وقد انتهكت طفولتها في عالم الكهول الغرائزي. أما من الجانب الجسدي: فزواج الصغيرات يؤدي إلى أمراض جسدية لهن، هذا بالإضافة لما يسببه في زيادة نسب الإجهاض وإنجاب أجنة مشوهة جسدياً وذهنياً. ولا يفوت العاقل أن يدرك أن الطفلة تحمل عواطف بريئة بعيدة كل البعد عن عواطف الرجل الذي يكبرها بعقود، فهي في حاجة إلى الحب والرعاية واللعب أكثر من حاجتها لحب غرائزي يشوه تصورها الفطري للمحبة ويفسد ما في خيالها من تصور لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة. كما أن هذه الطفلة لن يكون بمقدورها تفهم تبعات الزواج من الناحية الاجتماعية من تأسيس أسرة وتربية أطفال. إن زواج الصغيرات هو انتهاك لبراءة الطفولة، وهو جريمة ينبغي أن يعاقب عليها القانون. ولقد آن الأوان لمعاقبة المتورطين في مثل هذه الزيجات وتفعيل القوانين التي تحمي المرأة وهي طفلة وتحميها وهي مراهقة وتحميها في كل مراحل العمر. فالأطفال لهم علينا حق الحماية ولهم علينا حق الحياة الخالية من العنف ومن الزواج القسري الذي ينتهك أمنهم النفسي والعاطفي.وبعد كل هذه التساؤلات يظل الأمر مستعصياً على كل ذي عقل في فهم رغبة رجل عاقل كبير أو كهل مسن في الزواج من طفلة إلا إذا أخضعناه لمبضع المحلل النفسي ليعالج ما ألمّ به من أسقام نفسية! [c1]*عن / جريدة ( الوطن ) السعودية[/c]