قصة قصيرة)
عارف الضرغام: ما أن اطل الفجر برأسه وأذن المؤذن وفرغ المصلون من أداء صلاة الصبح في المسجد الذي تقبع في جواره المقبرة .. إذا بالقبار يرفع صوته قائلاً” يامن رزقنا فيهم .. يارب تفنيهم” .. هكذا ظل هذا القبار يردد كل صباح طالباً من المولى تعالى أن يفني الناس كي ينتفع هو بقيمة الحفر والدفن .. وما أن تتم مراسيم الدفن حتى يهرول مسرعاً إلى ذوي الميت كي يقبض خمسة آلاف ريال رسوم الدفن . كان قصير القامة ممتلئاً ليس له مصدر رزق سوى المبالغ الكبيرة التي يتلقاها من أهل الموتى الذين يأتون بموتاهم إلى المقبرة ليودعوهم هناك حتى قيام الساعة .. أما هو فيتلقاهم بصوته الأجش وبفيه الذي يتطاير منه الرذاذ هنا وهناك وصورته المنفوخة التي تخفي ابتهاجاً بوصول النعوش يتوارى خلف عينيه وينحبس في صدره.. طالباً تصريح الدفن. “ يامن رزقنا فيهم .. يارب تفنيهم” كلمات لم يزل صداها يتردد بعد كل فجر رغم أن النعوش تتوارى إلى المقبرة يومياً وفي أوقات شتى مابين صباح وظهر وعصر وليل. لم يتوقف القبار عن حمل مجرفته قبل الحفر ولاعن تنكة الماء بعد الدفن ..مادامت المجرفة والتنكة هما من أدوات العمل الرئيسية لديه فانه لايفتر عن حملهما والعمل بهما كي يحظي بالرزق المأمول.الموتى يتتابعون والناس يأتون بموتاهم ويودعونهم في المقبرة ثم يرحلون، والقبار هو المستفيد الوحيد من ذلك كله. القبار يتحدث بكل فخر أن يديه هما آخر يدين تلمسان الموتى قبل رحيلهم ودفنهم تحت الثرى ، ويروي انه دفن بكلتا يديه سكان احد الأحياء واحدا بعد الآخر ويعد لدفن المزيد .. لان هؤلاء هم رزقه وانه لم يأت إلى هذه المقبرة إلا لهذا الأمر. مرت الأيام ولم يعد يسمع الناس صوت القبار بعد صلاة الفجر .. ولم تعد تلك العبارة” يامن رزقنا فيهم يارب تفنيهم “ تصل إلى مسامعهم ، لان لكل شيء نهاية ، وان نهاية القبار قد حانت وأصبح احد سكان القبور الذين لن نسمع لهم صوتاً بعد الآن.