أضواء
عبد العزيز العلي :سبق الحديث في مقال سابق عن منطلقات ثلاث ينطلق منها كثير من العلماء والدعاة المحرمين لكثير من الأمور المتعلقة بحياة المرأة، وذكرت فيها أولى تلك المنطلقات وهي قضية التشبه بالغرب والكفار. وفي هذه المقالة سأتطرق لثاني ذلك الثالوث الذي يحاصر المرأة لدينا وهو قضية الاختلاط، فأي امرأة تقوم بدورها بالمشاركة والمساهمة في بناء المجتمع على كافة المستويات والأصعدة، أو تقوم بالممارسة لكافة الجوانب الحياتية الطبيعية لها، فسرعان ما يتم إطلاق نواقيس التحريم والتجريم على ذلك كله بحجة وقوعها في الاختلاط مع الرجال.إن الاختلاط كمصطلح في الفتاوى المحرِّمة له تدعو للفصل بين الجنسين مطلقا في جميع مجالات وميادين الحياة، وأن تكون كافة الأدوار والأنشطة النسائية بمعزل عن الرجال كائنا ما كان، وذلك لأن الاختلاط في منظورهم وحصول اللقاء بين الرجل والمرأة هو أعظم طريق للفتنة وللوقوع في المحرم والمحذور! وهذه المعاني هي أول ما يتبادر إلى أذهانهم عند ذكرهم للاختلاط، فقد قال أحد الدعاة وهو الشيخ خالد الشايع في مقال له بعنوان “الاختلاط وآثاره الشنيعة” نشر في جريدة الاقتصادية بتاريخ 25 جمادى الأولى 1429هـ: “ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة، فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا، بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات”.إنني غير معني في هذه المقالة بالحديث عن حكم الاختلاط في الشرع بإسهاب، فقد تطرق الكثيرون إلى ذلك ما بين محلل له وما بين محرم، وكلا الفريقين يستدل بأدلة وقواعد شرعية تدعم رأيه، ولا أظن أن مزيدا من البحث الشرعي في تناول هذه القضية سيكون سببا رئيسا لمعالجتها في مجتمعنا، ولكن يجب أن ندرك وبكل وضوح أن المغالطة الشرعية والتاريخية تكمن في الادعاء بأن الإسلام أقام أسوارا عالية للفصل بين الجنسين، بيد أن الحقيقة التي يتجاهلها علماؤنا ودعاتنا أن الإسلام لم يحرم الاختلاط في عصر النبوة، بل كانت كافة أرجاء المجتمع يوجد فيها الجنسان، وكان كل منهما يمارس حياته الطبيعية فيه من بيع وشراء وتعلم وسؤال، وفقا لما ورد في عدد ليس بالقليل من الأدلة والحوادث التي تصور واقع الحياة في ذلك المجتمع النبوي والتي قد يتيسر الحديث عنها في موضع آخر. ولكن ما يهمني في هذه المقالة هو الاستعراض لكيفية تعاطي المفتين والدعاة في مجتمعنا خصوصا لقضية الاختلاط، فلقد أسهب المفتون لدينا في تحريم كافة صور الاختلاط، فقد صدرت العديد من الفتاوى بتحريم اختلاط النساء بالرجال في دور التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات، واختلاطها بالخدم في البيوت، واختلاطها في العمل كالمستشفيات والشركات والمؤسسات والبنوك وكذلك في المؤتمرات والمنتديات والمناسبات الاجتماعية والزيارات العائلية والذهاب للأسواق والحدائق والمتنزهات العامة، وحتى لو كانت المرأة محتشمة ملتزمة بالحجاب الشرعي في ذلك كله فاختلاطها بالرجال محرم عليها لأنهم يقولون حيث وجدت المرأة مع الرجل فقد ترتبت تلك المفاسد التي يتحدثون عنها، بل بلغ ذلك الهوس التحريمي للاختلاط بالانتقال من الناحية الحسية إلى الناحية المعنوية، وذلك بتحريم الاختلاط حتى في منتديات الإنترنت، فقد نشر موقع الإسلام سؤال وجواب فتوى تحت عنوان “منتدى يستضيف نساء ورجالا ويسألهم الكتَّاب أسئلة عامة” حيث جاء في الفتوى “أي حاجة للرجال لاستضافة امرأة وسؤالها عن مسائل شخصية؟ وأي حاجة للنساء لمعرفة ذلك عن رجل أجنبي عنها.. لذا فإننا نرى أن مثل هذه الاستضافات، والحوارات، والأسئلة، تكون لكل جنس مع جنسه، فالمرأة مع بنات جنسها، والرجل مع الرجال، على أن تكون الأسئلة بعيدة عن الأمور الشخصية. ومفاسد الاختلاط في الحديث والمشاركات سواء الكتابية، أو الصوتية لم تعُد تخفى على أحدٍ، وما ذُكر في السؤال من طريقة في الكتابة في تلك الاستضافات لا نراها جائزة”.لقد سعى العلماء والدعاة طيلة السنين التي مضت لترسيخ حرمة الاختلاط وخطورته في المجتمع وتصويره كشبح قاتل، وتحذير المرأة خصوصا من مغبة الاختلاط في التعليم أو العمل، ومنع كل السبل المؤدية إليه، لذلك أفتوا ابتداء بأن المرأة لا تخرج من البيت إلا للضرورة! ويحسن بي أن أشير هنا إلى أن الشيخ محمد الهبدان المشرف على شبكة نور الإسلام والمعروف بمواقفه تجاه قضايا المرأة قد أصدر بيانا توضيحيا لبعض ما أثير عنه في وسائل الإعلام، وذلك على خلفية الحوار التلفزيوني المثير والذي أجرته معه قناة المجد في رمضان الماضي، وكان مما ذكره في بيانه أن كلامه قد تعرض للتحريف ويا ترى ما هو الكلام الذي تعرض للتحريف؟! قال: “لقد قلت بأن خروج المرأة من بيتها يكون للحاجة، ولم أقل لا تخرج إلا للضرورة، فلم تفرق الكاتبة بين الضرورة والحاجة، وهذه آفة من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب” وأحب أن أهدي الشيخ الهبدان فتوى أحد أبرز كبار العلماء لدينا والذي أفتى بأن المرأة لا تخرج من بيتها إلا للضرورة، فقد سئل الشيخ عبد الله بن جبرين كما في الفتوى رقم (11892) عن حكم خروج المرأة إلى الأسواق والأماكن العامة من غير محرم؟ فقال: “على المرأة أن تقر في بيتها ولا تخرج إلا لضرورة شديدة ولو للمسجد، فبيتها خير لها، ومتى احتاجت إلى الخروج حرصت على استصحاب أحد محارمها حتى لا تتعرض للفسقة”.وكذلك يفتون بأن المرأة لو بقيت أمية وجاهلة لا تعرف القراءة والكتابة فهو خير لها من أن تعلم أو تتعلم في الأماكن المختلطة، وقد سأل الشيخ عبد الكريم الخضير أحد أبرز تلامذة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وأكثرهم علما وفقها ومكانة وحضورا عن اختلاط المرأة بالرجل فكان من ضمن ما قاله: “اختلاط الرجال بالنساء الأجانب محرم.. ولو تبقى المرأة في بيتها عامية لا تقرأ ولا تكتب، وجل نساء المسلمين في جميع العصور على هذه الحال! وقد تخرج من هذه البيوت التي رعاها نساء أميات -لم يرين الرجال ولا رأوهن- العلماء والقادة والدعاة، وجميع أصناف الرجال ممن يستحق أن يطلق عليه اسم الرجل وهن أميات”.وقد نشرت مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن دار الإفتاء في العدد السابع عشر في بحث بعنوان مجال عمل المرأة في الإسلام ما نصه “ونحن نحذر من مغبة التوسع في تدريب النساء على البرامج الآتية: (الحاسب الآلي، إدخال البيانات، مكتبات، نسخ إعدادي، شئون الموظفين..) لخريجات الثانوية، وذلك “أملا في أن يتطور التدريب ليشمل برامج التدريب للأعمال المكتبية، ثم برامج التدريب للإدارة العليا”.وقام الدعاة وخطباء المنابر كذلك بدورهم في تأجيج المجتمع ضد الاختلاط، وتوصيف بعضهم لبعض الأماكن التي يحصل فيها الاختلاط الطبيعي، وكأنها غابة القوي فيها يأكل الضعيف.فقد قال الشيخ سعد البريك في محاضرة له بعنوان “مهلا دعاة التحرير” عندما سألته طالبات من جامعة الملك فيصل عن تدريس رجال لهن، وقد تحصل بعض التجاوزات فقال: “ينبغي للطالبات أن يخرجن من الفصل جميعا، وأن يذهبن إلى العميدة أو إلى المسؤولة، فإن لم يجدوا امرأة مسؤولة أو قاضيا أو عالما من العلماء يرفع إليه الأمر، فليرفعوا مسؤوليتهم، أو شكايتهم إلى أمير المنطقة أو إلى وزير الداخلية، أو إلى خادم الحرمين حفظه الله، أما المرأة تجلس والدكتور يكلمها ويشافهها هذا أيضا أمر غير مقبول، من واجبها أن تترك القاعة لكي يشرح للماصات والكراسي والجدران، وحينئذٍ يشعر المدرس أنه منبوذ، فإن لم يكن في قلبه غيرة لكي يحترم هؤلاء البنات، فإن البنات في أنفسهن غيرة على أعراضهن وأنفسهن، فيخرجن ويتركن له القاعة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا”.وقال الشيخ سفر الحوالي في محاضرة له كانت بعنوان مقومات المجتمع المسلم وهو يصف واقع المستشفيات: “بعض الأزواج أو المحارم يرمي بمحارمه عند باب المستشفى ويذهب ولا يعلم ماذا يُصنَع بها، عجيب! إلى هذا الحد، فإذا رخصت عندك امرأتك أو عرضك إلى هذا الحد، فما الذي تعظم؟ وما هو أغلى شيء عندك؟ وأعني بعد إيمانك” وكأن المرأة ينتظرها في مستشفياتنا وحوش كاسرة ستغتال عفتها وحياءها!.بل إن الشيخ خالد الشايع ذكر في مقالته آنفة الذكر ناقلا عمن تقدم “ولولي الأمر (الإمام) أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، ولا سيما إذا خرجت متجملة”.وفي عصرنا الحاضر ازدادت شراسة المحرمين للاختلاط بكافة صوره وأشكاله، وذلك بإصدار العديد من البيانات الجماعية التي تقف ضد مشاركة المرأة في كافة الميادين الحديثة بحجة الاختلاط، وذلك كمشاركتها في انتخابات الغرف التجارية والمنتديات الاقتصادية الكبرى، والمشاركة في العمل التلفزيوني، وقرار بيع المرأة في محلات الملابس النسائية وحفلات التخرج الجامعية، بل إن مجموعة من العلماء وطلبة العلم أصدروا قبل عدة أشهر بيانا انتقدوا فيه مسيرة الخريجين والخريجات في جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية والتي كانت برعاية وتشريف خادم الحرمين الشريفين، ومع ذلك كله فلا تزال المرأة تسعى وبجدية للمشاركة والتواجد، والحضور بفعالية واضحة في المشهد السعودي رغم الكثير والكثير من المعوقات تارة بما يفرضه الديني عليها، وتارة أخرى بما تفرضه عادات وتقاليد المجتمع والتي لا تمت للإسلام بصلة من قريب أو بعيد.[c1]*عن/ موقع “العربية.نت”[/c]