محاولة لفهم العقل الطائفي
أحمد غلوم حسينلطالما شكلت ثنائية التراث والسياسة عاملين أساسيين في تشكيل وبلورة العقلية الطائفية وتعيين أدوارها ووظائفها, فارتباطها الوثيق بالاثنين جعلها تتجاوز اي مراجعة تقييمية لهذه العلاقة فخلت هذه العلاقة من اي نظرة نقدية وموضوعية في طبيعة تعاطيها معهما.فالتراث الذي شكلت بعض مفاصله سياسات أهل زمانه كان دوما الرافد الذي تتغذى منه الطوائف في بناء عقلياتها الندية للآخر المغاير مذهبيا, فكان التراث بمثابة الإجازة الشرعية لممارسة التنكيل مع الآخر, وكان التراث جملة من البراهين والحجج لإسكات الآخر, وكان التراث تاريخ فضائح وعيوب للآخر, وكان التراث بديلا من العقل في استصدار الأحكام والقرار على الآخر.والسياسة أيضا كانت غالبا البوصلة التي تهتدي بها العقلية الطائفية, ولم تكل السياسة يوما عن ممارسة هذا الدور, فهي لطالما وجدت في توظيف الطائفية مكسبا وربحا مغريين, ولعل ما يغلق العين الثانية للعقلية الطائفية عن ممارسة أهل السياسة إذا ما تلبست الأخيرة لباس الشرعية, فتكون أحكام السياسة جزءا من الدين وواجبا وطنيا وإسلاميا.لكن ليس الخلل في التراث الذي هو أصالة الشعوب والذي يشكل خلاصة قيمها ومثلها, والذي فيه حكايات مدرسية أكثر بكثير من حكاياته المأسوية, والذي يعبر عن تجارب أكثر مما يعبر عن أحكام مسبقة, فالخلل إذاً ليس بالترث وإنما هو في العقلية التي تتعاطى معه, وهكذا الأمر مع السياسة التي تبحث بطبيعتها عن مصالح أهلها, فالخلل ليس في السياسة ومكرها وإنما في العقلية التي تولي أهلها قادة عليها.وفي المقابل, ليست المشكلة في العقل الذي هو أهدى خلق الله تعالى وإنما في السمات والصفات التي ممكن أن تتطبع بعقل ما فيكون عقلا طائفيا, من أبرز تلك الصفات:الظاهرية, فنظر وفهم هذا النوع من العقل يقف عند ظواهر الأمور ولا يتعداها, فهو يولي اهتماما زائدا بالقشور, ويمارس تسطيحا في فهمه, فجل همه سب الصحابة أو تمجيد معاوية ويزيد أو التبرك بالقبور... فهو في الواقع يعتبر هذه الأمور قطب رحى وجوده وقضيته ومكمن تخلف الأمة وتأخرها, لذلك هو يهتم بالمظاهر الخارجية أكثر من لب سلوكه وقيمه الداخليين, فاهتمامه بالمستحبات والمكروهات الظاهرية من اللحى والتختم والتسبح والصلوات يعتبره الجوهر والأساس!الأحادية, تشكل جزءا مهما من عقليته ومن دونها يفقد اتزانه ويختل وجوده, فالنظرة الأحادية التي تتسم بها هذه العقلية تجعله لايرى صحيحا وصوابا غير نفسه وممارساتها, فلا يعتقد بالتعدد ليس في التدين فقط بل في العقلانية أيضا, فيصف الآخر بالجهل والقصور, ويجد فهمه أرقى الفهومات وأنضجها, لهذا يمارس تحقيبا أحاديا في التراث بما يتلاءم وقناعاته وأحكامه, لذلك تجده يرفض دوما النقد ويستهجن الفهم الآخر.الكلية, فالعقل الطائفي يمارس دوما إصدارا للأحكام الكلية على الآخرين من دون تمييز وتصنيف وتنقيب, فالكفر والجهل والرافضي والناصبي وغيرها تعبر عن أحكام كلية تحرق الآخر بجريرة فعلة صغيرة أو خطيئة متواضعة, فالبدعة حكمها ضلال ونار, لهذا تكون أحكامها سريعة غير متأنية وسهلة غير مستعصية.اسقاطية, لذلك فهي تحاول دوما ممارسة اسقاطا للآخر وبالتحديد المغاير مذهبيا, فلا تتقبل منه رأيا أو شرحا, وبطبيعة الحال أن ممارسة الاسقاط تستدعي التفكير والتخطيط والترتيب وهو ما يوقعها بشرك الخبث والمكر, ومن جانب آخر لا يمكن ممارسة هذا التسقيط إلا بفصل الآخر عن كل ما هو حميد ومجيد, فأهل البيت ليسوا فقط أهل علي وفاطمة, والصحابة الصالحين هم فقط حواريو علي.اللاخلاقية, لا تتسم العقلية الطائفية بأخلاقية, فهي إن كانت التزمت بأبسط أبجديات مكارمها لما وجد قاموس لمصطلحات الطائفية أقبحها مشرك وأخفها ضال, بل لكان الحوار هو أساس التعامل مع الآخر ولكانت الكلمة الطيبة هي وسيلتها الأولى للخطاب مع الآخر.المؤامراتية, هي من نتاج السياسة, فالخطر لم يعد يقتصر على المعتقد والانحراف وإنما هو الاعتقاد بأن الآخر يحمل عليه مؤامرة كبرى تبيده وتغير ملامح المنطقة بأكملها فتستأسد بها دولة شيعية أو دولة سنية, ولعل أسوأ ما في الأمر أن المؤامراتية عقلية تشرع التعاون مع من كان حتى ولو مع اسرائيل!العنفية, لذلك تعتبر هذه الصفة تحصيلاً حاصلاً للسمات السابقة, ولعله نادرا ما نجد خطابا بين الطرفين لا يحمل الوعيد والتهديد, ولسنا ببعيدين من عنف السلاح والدم في العراق بين الطائفتين والذي ينعكس بصورة أو بأخرى في الخطاب والتعاطي.اللامقصدية, ولعله من أهم الصفات السلبية للعقلية الطائفية, فهذه العقلية لا تملك أدنى رؤية مقاصدية لمتبنياتها وخطابها وأفعالها, ولو كانت كذلك لفعلت أولوية المخطط الغربي والتغريبي لدولنا ومجتمعاتنا, لذلك هي لا تدرك معنى للأولويات والمقاصد بل لعلها لا تعلم أن خطر احتلال أراضينا ونهب ثرواتنا من دول لاتعتنق ديانتنا هو أخطر من تشييع سني أو تسنين شيعي!المشكلة الرئيسية أن العقلية الطائفية مركبة, فهي طائفية من الدرجة الأولى لكنها لا تعلم أنها كذلك فقط وإنما تعتقد أنها أساس الوسطية الدينية والتسامحية الاسلامية, والمشكلة الأفقم إن سايرنا ذلك لم يعد لدينا طائفي واحد.[c1]*عن / جريدة «السياسة» الكويتية[/c]