نبض القلم
عندما تتردد كلمة “المحبة” بين الناس يفهم منها بعضهم معنى التجاذب الحسي أو الميل الجنسي الذي يقع بين الرجل والمرأة، وهذا المعنى للمحبة ليس المراد في مقالنا هذا، وإن كان المعنى اللغوي العام للمحبة يشمله.إن المراد بالمحبة في مقالنا هذا هو تلك الصفة النبيلة والفضيلة الجليلة التي تدفع صاحبها دائماً إلى حب كل جميل، وإلى حب كل خير والميل إلى عظيم الأشياء والانجذاب إلى جليل الأمور وأعظمها. والقرآن الكريم يشير إلى هذا الميل الطاهر والسامي عند أهل المحبة ، في قوله تعالى: “ والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلكم ، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا “الحشر،9”وعامة الناس لا يميلون إلى هذا الوجه الجميل الرائع من المحبة، وأكثرهم لا يبلغون هذا المستوى الرفيع من صفات الخير ، بل يظلون في الدرك الأسفل من منازل الحب، لأنهم لم يتشبعوا بثقافة المحبة ، وهؤلاء سرعان ما تشيع فيهم ثقافة الكراهية . وفي أمثال هؤلاء قال القرآن الكريم: “الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، أولئك في ضلال بعيد” “إبراهيم،3” والمحبة المستحبة هي محبة الله تعالى ، ثم محبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم محبة الناس المستقيمين على الصراط المستقيم ، ثم محبة كل ما هو جميل وطهور في الكون . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار”.وتستقيم المحبة إذا كانت بغير غرض أو مرض ، أو كانت خالصة لوجه الله ، لأن ما كان لله دام واتصل ، و ما كان لغير الله أنقطع وانفصل ومن فضل الله تعالى علينا نحن اليمنيين أن هدانا إلى الإيمان ، وبالإيمان قويت أواصر المحبة والمودة بيننا وصرنا بفضل الله إخواناً نحب بعضنا واستطعنا بعونه وتوفيقه أن نزيل عوامل الفرقة والشتات ، ونقضي على دواعي التمزق ، بقيام الوحدة المباركة في الثاني والعشرين من مايو 1990م . وبذلك استطعنا أن نغرس شجرة المحبة في بلادنا ، ونزرع بذور المودة في مجتمعنا ، ونجني ثمار التراحم من دوحات حقولنا ، غير أن دعاة الفرقة وهواة الفتن ومحترفي الحروب لم يرضهم أن تكون ثقافة المحبة هي أغلى ثمار دوحة الوحدة اليانعة فأرادوا قلع الشجرة قبل أن تؤتي ثمارها، وعمدوا إلى تغذيتها بدماء أحقادهم النتنة ،في محاولة منهم لاقتلاع جذور المحبة الراسخة في وجدان هذا الشعب المؤمن.لقد عمد أعداء الشعب اليمني إلى نشر ثقافة الكراهية في محاولة منهم لمحو ثقافة المحبة المتجذرة في أعماق الشعب المؤمن ، الذي يحب لله، ويبغض لله ، ويعطي لله، ويمنع لله، ويذود عن وطنه إرضاء لله ، ويصون وحدته ويدافع عنها من المرتدين والحاقدين امتثالاً لأمر الله في قوله “يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم” “ المائدة،54”.ومحبة الوطن والوحدة والدفاع عنهما من محبة الله ، فإذا أحب الله قوماً وفقهم إلى عمل ما يرضيه ـ والله سبحانه وتعالى يقول لموسى عليه السلام ، حين امتثل لأوامر الله ولقد ألقيت عليك محبة مني ، ولتُصنع على عيني “ طه، 39” فالله هو الذي أحب موسى وألقى المحبة عليه ، لأنه أراد لبني إسرائيل الرفعة ، وأراد لهم النجاة من الأخطار المحدقة بهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:” يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى”(طه)، 81-82”.ومحبة الله لعباده هي كنز الكنوز وغضبه عليهم هو السقوط والمذلة والهوان في الدنيا وفي الآخرة ، ولقد عرض الله علينا في كتابه الكريم صفات الذين يحبهم، وصفات الذين يكرههم.أما الذين يحبهم الله فهم الذين يتحلون بمكارم الصفات ، ويتسمون بمحامد السلوك ،ومن هؤلاء الأشخاص الذين يحبون الناس ويحسنون التعامل معهم، ويتفانون في خدمتهم . قال تعالى: “ إن الله يحب المحسنين” “ المائدة ،13” . كما يحب الله الأشخاص الذين يصححون أخطاءهم أو يتراجعون عن ارتكاب المآثم والجرائم ، ويعودون إلى رشدهم بالكف عن السير في طريق الغواية والضلالة،قال تعالى “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين” البقرة، 222”ويحب الله كذلك الأشخاص الذين يتقون الله في السراء والضراء، ولا يقدمون على أفعال تضر بالعباد والبلاد ، قال تعالى : “ إن الله يحب المتقين “ آل عمران ، 76” ويحب الله كذلك الذين “ يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص” (الصف،4).الذين لا يحبهم الله ولا ينظر إليهم ، هم الذين يتصفون بصفات مذمومة ، كالذين يكرهون الناس ويؤذونهم ويعتدون عليهم، قال تعالى: “ ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ( البقرة) “190” كما لا يحب الله تعالى أولئكم الناس الذين يهلكون الحرث والنسل ويعيثون بالأرض الفساد من قطاع الطرق ومختطفي السياح والمتمردين على النظام والقوانين النافذة ، أولئكم الذين يتذرعون بمحاربة الظلم ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة، وهم في حقيقتهم دعاة فتنة ومروجو إشاعات ، وناشرو ثقافة الكراهية في المجتمع ، وقد وصفهم الله تعالى بقوله “ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ، ويشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد” (البقرة” 204-206).وعليه فإنه من واجبنا أن نعمل على نشر ثقافة المحبة ونسعى جاهدين لمحاربة ثقافة الكراهية ، فالمتحابون في الدنيا تحت لواء الوحدة والإيمان والتقوى يجمع الله بينهم في دار النعيم حتى لو تفاوتت منازلهم . والرسول الكريم يقول: “ يحشر المرء مع من أحب” وقال صلى الله عليه وسلم “ المؤمن آلف ومألوف ،ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف”.[c1]*خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]