قراءة على ما حدث
ما سأتناوله تعليق على رواية من مشهد كبير كان أبطاله رجالاً آمنوا بالقيم الثورية في أنصع جوهرها، وكانوا مثاليين في هذا الفهم إلى الحد الذي يجعلهم يقطعون المسافات ويتنقلون من مدنهم صوب صنعاء المحاصرة، وبالخصوص من مناطق جنوب الوطن ومنها عدن بعد أن لامسوا أطراف الكرامة الوطنية إثر نيل الاستقلال الوطني، أو من تعز أولئك الفارون من بعد هزيمتهم ومطاردتهم حتى خارج سلطة الاستقلال الوليد.ذهبوا فرادى أو من خلال تعبئة تنظيمية أو شعبية .. وكلهم يعبرون عن جوهرهم في أعماق الحقيقة المثالية.وهذه الرواية تمنحني الفرصة لأتناول شيئاً طالما يذهب مع أول نقطة حبر في كتابة التاريخ .. ذلك التاريخ الذي عادة ما يكتبه المنتصر أو الحائمون على أطراف دائرته متفرجين لا صانعي أحداث، يختلقون البدايات والنهايات ولايعبأون بالمتن الأصيل لكل حكاية.لطالما كانت كلمة “الفدائي” تثير في زمن طفولتي رائحة لا أشتم منها سوى معانٍ عرفتها فيما بعد، ترتبط بعنصر قيمي ينتمي إلى النبل والتضحية والبطولة، إلى صورة مثالية لبطل يجسد كل هذه المعاني.إنها رواية الفدائي المهزوم في معركة التناحر على استلام السلطة، والمهزوم معنوياً بانحراف الأخلاقية الكفاحية عن مضمونها الجوهري: قتال الاستعمار لا قتال الأخوة.ولأنه خارج السلطة، بل وطريد منها ومن جغرافيتها في تعز سيدخل في امتحان جوهر ذاته كفدائي حين يتناهى إلى سمعه حديث الدفاع عن الثورة السبتمبرية وعاصمتها المحاصرة. [c1]تعليق على ما حدث :[/c]الذين فروا من عدن ومناطق الدولة الشطرية الوليدة بعد الاستقلال بعد خسارتهم النصر المزيف الذي ناله الطرف الثاني في الحربين الأهلية بين الجبهة القومية وجبهة التحرير قبيل الاستقلال بأيام، وصار فيه الغلبة لطرف الجبهة القومية على حساب جبهة التحرير .. هؤلاء الفدائيون المنبوذون من كعكة السلطة الوليدة ضربوا مثالاً لايمتحن جوهره إلا في لحظة الفرز التاريخي.فهؤلاء الذين تركوا معركة النصر من أجل السلطة من معركة رفاق السلاح ذهبوا مباشرة بعد أن تجمعوا في تعز إلى معركة نبيلة أخرى تنتظرهم وهم المنبوذون من سكناهم ومن غنائم كانت على مرأى من أعينهم إلى جوهر معنى الكفاح الذي يتقلده المناضلون الحقيقيون ولايمكن أن يختاره إلا فرد أو قيادة تربت على القيم الكفاحية الأصيلة.هؤلاء الذين انتقلوا من أرض معركة إلى أرض معركة ثانية .. ومن قتال رفاق السلاح إلى قتال مرتزقة يحاصرون العاصمة صنعاء .. وفي ظروف خيبة وانكسار بسبب عدم قطفهم ثمار الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني لنيل كعكة الاستقلال .. هؤلاء هم ليسوا جنوداً مرتزقة يجندون لأية حرب لأنهم بالأساس ليسوا كذلك وهم يعانون الانتماء والعقيدة الكفاحية، وليسوا ايضاً من رواد نظرية جيفارا حول الثورية العالمية والانتقال بالثورة من موقع إلى آخر .. وإن كانوا يحملون في تحركهم ظلال ذلك التأثير الجيفاري للذهاب إلى الثورة اينما كانت.ولكن ما يرجح هذا الذهاب من أرض معركة في عدن إلى أرض معركة في صنعاء هو الجانب القيمي المثالي الذي كان يحمله الفدائي .. ذلك الفدائي الذي بقدر ما كان يحمل جسارة مواجهة الاستعمار الدخيل الذي يدنس أرضه بحكم عدالة قضيته ونصاعة رؤيته التي تحدد خروجه لقتال الانجليز وخوض كفاح مسلح بكل شرف ونبل .. فإنه كان ذلك الذي يحمل نبل المفاهيم الكفاحية التي لاتفرق بين أماكن خوض الكفاح طالما أنه يماني الرؤى في عدن أو صنعاء.زد على ذلك أن الثورة السبتمبرية التي كانت ملهمة الثوار في الجنوب في الحصول على كرامة سيادية ثورية يمكن أن تكون واقعاً بعد أن كانت حلماً.الفدائي الذي خاض معركة الكفاح من اجل الاستقلال ـ والحديث عن الفدائي الفرد .. الفدائي العضوي الفكر والمنهج ـ الذي حمل السلاح وخرج به من أجل قضية سياسية نبيلة هو خروج الاستعمار ونيل الاستقلال ـ بعيداً عن التجاذبات السياسية التي كانت تلتف حول عنقي الفصيلين المقاومين للاستعمار: الجبهة القومية وجبهة التحرير.هذا الفدائي كان نبيلاً في خروجه ضد الاستعمار ـ وكان يملك من الرؤية معقدة أو بسيطة، أو عفوية، التي تجسد قضيته الكفاحية، وهذا الخلق الثوري الذي كان يتمتع به الفدائي اينما وفي أي جبهة، وفي أي مرتبة دنيا أو قيادية، هو الذي يجعلنا نميز تحرك تلك الثلة من موقع حمل السلاح في عدن إلى صنعاء، لا من منطق المرتزق الذي يوجه بندقيته اينما يتوجه نحو المال والغنيمة بل من منطق كفاحي المؤمن بقضية ثورية .. كانت في عدن أو صنعاء.هؤلاء الثلة الذين تركوا حرب رفاق السلاح وخرجوا من عدن مهزومين بلا سلطة، خائبي الرجاء وحاملين أعناقهم من فجأة الموت.. موت يجز الأخوة الأعداء في حرب أهلية كانوا هم وقودها بالرغم من مشاركتهم فيها بوعي أو بدون وعي .. هؤلاء كانوا في دواخلهم يحملون اخلاقيات الفدائي الذي كان يتوقد شرراً في جبهات القتال في عدن أو الضالع أو أي منطقة من مناطق اليمن.وتتلخص هذه الاخلاقية بأن الكفاح له معنى واحداً مهماً اختلفت جغرافية موقعه على أرض الوطن المجزأ عدن أو صنعاء هو التضحية من اجل قيم سامية ترسخت في دواخل الفدائي الأصيل، ولعل الدفاع عن الجمهورية السبتمبرية هي إحدى القيم المترسخة في عقلية الفدائي الذي كان يذرع شوارع الشيخ عثمان أو كريتر أو دارسعد أو حالمين أو الضالع أو المكلا بحثاً عن شهادة تقربه من يوم النصر.ومهما كان اختلاف العدو في عدن أو في صنعاء استعمار هنا ـ أو ملكية هناك فإن الرؤية الكفاحية الملازمة لهذا الفدائي الذي خلف وراءه بيته وأهله وغنيمة سلطة على مرمى عين وعانى هزيمة عسكرية وهزيمة اخلاقية في حرب أهلية، المنتصر والمهزوم فيها مهزومان بالمعنى الثوري الكفاحي.إذن أولئك الفارون من عدن وتجمعوا في تعز .. الخارجون من أرض كفاحية مهزومي القيم والمعنوية الكفاحية .. وجدوا في صنعاء المحاصرة ترميماً لهذه الهزيمة: قضية تستحق الكفاح الذي يضيء ما بداخلهم، رغم تورطهم في حرب أهلية قذرة تهزم دواخلهم الفدائية الاصيلة، قضية تجعل منهم رجالاً يستعيدون رجولتهم، ومناضلين يستعيدون نضاليتهم التي خرجت فجأة من جيوب بزتهم الفدائية، وكان الدفاع عن سبتمبر الثورة والجمهورية مثلما كان الدفاع عن أكتوبر الثورة والاستقلال المأمول.هكذا أداروا ظهورهم لغنيمة السلطة التي كانت تراود مخيلتهم وهم يرونها بيد غيرهم من إخوة السلاح، واكملوا مما كان وراءهم: جوهرهم الأصيل .. جوهرهم الفدائي والكفاحي المعبأ بأفكار الثورة .. وبإيمان واحديتها في القضية والهدف.وكان حصار صنعاء فرصة تاريخية لهم لترميم ما افتقدوه في لحظة الاحتراب الأهلي الذي لطخ اصالتهم الثورية سواء بسواء مع إخوتهم من رفاق السلاح في فصيل الجبهة القومية.ولذا أتجهوا من تعز إلى نقيل يسلح ليس كانتقال المرتزق الذي لايفارق البندقية أو رائحة البارود والجثث لأنها مصدر عيش وجاه بل كانتقال الثوري الذي يحاول أن يظهر بخروجه نحو صنعاء جوهره النضالي الكفاحي ولاينتقص منه ماجرى في عدن .. لأنه كفدائي كان قبل ساعات يجسد عدالة قضية برغم نهايتها بفوز جبهة على جبهة، ولكن النتيجة الأسمى كانت نيل الاستقلال .. وهو الهدف السامي الذي قامت عليه قيمته الكفاحية.. إلى مواصلة المشوار الفدائي في الدفاع عن صنعاء وعن القيم السبتمبرية التي كانت تسنده وتلهمه في أصعب ظروف المواجهة مع المستعمر.أداروا ظهورهم للدولة التي تحققت ونالها الفصيل السياسي الخصم وتوجهوا إلى الثورة أو الدفاع عن الثورة، وفي ذلك الخروج كانوا يشبهون جيفارا من كوبا الدولة إلى جبال المواجهة مع العدو في جبال بوليفيا، مع اختلاف في وجه المقارنة تلك، إذ أنهم ليسوا من المؤمنين بعالمية الثورة ضد الاستعمار والرأسمالية وما شابه، الثورة التي تتحرك خارج الحدود الجغرافية للدول، وإنما كانوا على نفس القدر من الإيمان بثورتهم الوطنية الواحدة، بواحدية الثورة اليمنية، وواحدية النضال والكفاح الذي تشكلوا به ومن خلاله في خروجهم ضد الاستعمار الاجنبي المغتصب، أو خروجهم الآن في الدفاع عن الثورة السبتمبرية، تلك الثورة الملهمة لهم ولاخيلتهم بتحقيق كرامة وطنية على أنقاض ذل ومهانة، وأحلام ثورية في تحقيق العدالة والمساواة.. دولة وطنية تحكم من أبناء الوطن أنفسهم باختياراتهم.وهاهي ثورتهم الملهمة تواجه الحصار فكان لابد لهم أن يخرجوا فخرجوا يلبون نداء الدفاع عن صنعاء وعن ثورتها السبتمبرية في نقيل يسلح أو على طريق الثورة الحديدة - صنعاء.هذه هي كانت أخلاقيات الثوار والفدائيين الاصيلين .. وهذه هي الافكار الثورية والقومية التي تربوا عليها في كنف مدينة عدن المتوهجة بضياء الانفتاح الوطني المؤمن بواحدية الوطن والثورة، وتفاعل الافكار الوطنية والقومية والإنسانية التي شكلت الفدائي المؤمن بعدالة قضيته وواحدية ثورته .. وبالانتماء الوطني المؤمن بالتعددية والمواطنة والمدنية والنابذ لأية افكار طائفية أو مذهبية،رغم سيف الاستعمار المصلت على رقابهم. كانوا يرمقون السماء كامل السماء اليمنية دون تفرقة بين موقع عن آخر في جغرافيته.الثقافة الفدائية للفدائي بقدر ما كانت جوهرية في النضال والكفاح فإنها ايضاً صلبة وقيمية .. لم تنته بانتهاء الموقع الجغرافي الصغير لاجتراح الفدائية طالما وجزء من الوطن، من صنعائه السبتمبرية التي تواجه الحصار.لذا هبوا إليها بإرادة الفدائي التي في حربه ضد الاستعمار الأجنبي وبتفكير وطني يدفعه للتضحية ضد عدو آخر وإن كان ليس اجنبياً الآن، وهذا فارق اساسي في معرفة جوهرية فهم الفدائي للكفاح المسلح الذي يراه اينما كان ضد تطلعات الثورة “سبتمبر ـ أكتوبر” وانما ضد عدو آخر هو الملكية التي تريد اختطاف الثورة ـ السبتمبرية ـ الملهمة لكل فدائي خرج ضد الاستعمار البريطاني.وهكذا خرجوا للدفاع عن صنعاء بعفوية المقاتل المدافع عن قيم كفاحية لا عن سلطة مأمولة، فاستشهد من استشهد وجرح من جرح ونجا من نجا ..ولكنهم في الأخير جسدوا واحدية نضال وكفاح ورؤية .. وتركوا وراءهم أخلاقيات ربما تناساها المتنافسون على كتابة التاريخ الوطني بإدعاء البطولات واجتراح الملاحم وأهمها أخلاقية الفدائي الأصيل الذي لم يتلطخ بسلطة وكان دائماً نجمة تلمع في سماء الوطن بأصالة القيمة الكفاحية التي تسترشد بهدف نبيل.لم يكن ذلك النفر من فدائيي جبهة التحرير الذين فروا إلى تعز بعد هزيمة جبهتهم إلى صنعاء فور سماعهم لحصارها، من صنف المقاتلين المرتزقة الذين أدمنوا القتال ولايستطيعون التخلي عن مهنة الموت، ولم يكونوا ايضاً من الجيفاريين المؤمنين بعالمية الثورة والبحث عن جغرافيا جديدة لها، لم يكونوا كذلك وإنما هم من صنف المقاتلين الذين جسدوا المعنى القيمي والارادة الاصيلة والصورة المثال لتسمية الفدائي الذي عرفته جبهة القتال وشوارع عدن بمقاتلة المستعمر الأجنبي. الفدائي المجبول بالروح الكفاحية، والاستعداد للتضحية حتى الموت وقبل ذلك كله الإيمان الراسخ بقضية الوطن وأهداف الثورة.الدفاع عن صنعاء كان فرصة تاريخية لأولئك الشباب المهزومين لترميم ما افتقدوه في لحظة الاحتراب الأهلي بين “إخوة السلاح” من أصالة ثورية ومن شعور بالذنب من انحراف القيم الكفاحية لصورتهم كفدائيين، فكان الدفاع عن الثورة السبتمبرية الثورة الملهمة لعقولهم دفاعاً عن روح الفدائي وإصالته .. ولهذا ذهبوا إلى صنعاء المحاصرة.