في زمن قديم قبل أن يظهر التاريخ إلي الوجود،كان هناك مستشار لأحد الملوك يتسم بالحكمة ويؤمن إيمانا عميقا بقوة وعظمة طاقة الخير الأسمى في الدنيا وداخل قلوب البشر. هذا الإيمان القوي بطاقة الخير أعطاه القدرة علي مواجهة الكوارث والأخطار بقلب ثابت وأعصاب هادئة فكانت الجملة الوحيدة التي يرددها تعليقا علي كارثة ما هي: خير.. خير بإذن الله. هذه النظرة الفلسفية العميقة غير المفهومة كانت تضايق الملك وتشعره بالغضب في أحيان كثيرة من هذا الوزير المستشار الذي لا يري في المصائب سوي الخير. وذات مرة حدث أن أصيب الملك في إحدى المبارزات بجرح في إصبعه وأهمل علاج الجرح فتلوث ودبت فيه الغرغرينا فقرر الأطباء قطع إصبعه إنقاذا لحياته. شعر الملك بالفجيعة غير أن مستشاره قال له في لطف: خير يا مولاي.. خير بإذن الله. لم تكن اللحظة مناسبة لهذه الجملة فصرخ فيه الملك: أي خير علي وجه الأرض يأتي من قطع إصبعي أيها المستشار المخرف.. ألن تكف عن هذا العبط.. إبعدوا عني هذا العجوز المخرف.. ضعوه في السجن. هجم عليه رجال الحرس واقتادوه إلي السجن بينما هو يغمغم: خير.. خير بإذن الله. فصرخ فيه الملك وقد أوشك علي الجنون: هاتوه.. تعال يا راجل أنت.. هل أنت واع لما تقول.. أنت ذاهب إلي السجن الآن لتقضي فيه ما بقي من عمرك.. أي خير تراه في ذلك؟ أجاب المستشار: لا أعرف يا مولاي.. لا أحد يعرف الخير إلا بعد أن يتجسد أمامه واضحا علي الأرض.. وحتي في هذه الحالة هناك من يعجز عن رؤيته.. ما أعرفه فقط هو إني علي يقين من أن الخير قادم لا محالة.. هو بداخلي يا مولاي.. ولابد أنه يحيط بي أيضا. إجابته أشعرت الملك بنوبة أخري من الجنون فصرخ في حراسه: خدوه.. وما يخرجش من السجن لأي سبب. ومرت أعوام وذات مرة خرج الملك في رحلة صيد وقنص مع مجموعة صغيرة من حاشيته فابتعد عنهم وفقد طريقه إليهم وتاه في الغابة المظلمة، وفجأة طلعت عليه جماعة من قبيلة مازالت تمارس عادة التضحية بالبشر إرضاء لآلهتهم فقرروا أن يكون هو القربان المنتظر. وقبل أن يذبحوه علي الهيكل أمام الآلهة كان لابد لهم أن يعرضوه علي كهنتهم ليقروا بصلاحيته قربانا. خلع عنه الكهنة ثيابه لمعاينته جزءا جزءا وعضوا عضوا فاكتشفوا للوهلة الأولي غياب أحد أصابعه، هو إذن جسم بشري ناقص والتضحية به تمثل عملية غش للآلهة لا شك أنه سيغضبها أشد الغضب فأفرجوا عنه وأعطوه حصانا وطعاما وقربة ماء فغادر أرض القبيلة غير مصدق بنجاته. بمجرد دخوله من بوابة القصر أحاط به رجاله وقد استولت عليهم فرحة عظمي فصاح فيهم: ها تولي الراجل المستشار بتاعي من السجن. فأفرجوا عن الرجل وجاءوا به إلي القصر فرحب به الملك وهش في وجهه وبش وحكي له ما حدث له ثم قال له: الآن فقط أدركت ما في قطع إصبعي من خير وهو ما كان من المستحيل علي أن أتصوره قبل ذلك.. ولكن اسمح لي أن أستفسر منك عن أمر لا أفهمه.. عند دخولك السجن قلت، خير.. خير.. ما هو الخير الذي تحقق لك من وضعك في السجن؟ فأجاب المستشار في هدوء ورقة: الا تراه يا مولاي.. لقد حماني من الموت، فوظيفتي هي أن أكون إلي جوارك كل الوقت، أن ألازمك كظلك.. بالتأكيد كانت هذه القبيلة المتوحشة ستقبض علينا معا.. وبعد أن يكتشفوا أن جسمك ينقصه شيء من المؤكد أنهم كانوا سيتخذون مني قربانا بدلا منك.هذه الحكاية التي لا أعتقد أن أحدا دونها من قبل، قصها علي صديقي عبد الرحمن وهو مثقف غير محترف يعمل في تجارة الأسماك في سوق التوفيقية وهأنذا أقوم بتسجيلها علي الورق بعد أن تعلمت منها الكثير. ومن هذا الكثير الذي تعلمته، أن طاقة الإيمان بالخير الأسمى داخل البشر، تمكنهم من مقاومة الشر وتحفظ عليهم صحتهم الجسدية والنفسية وتبعد عنهم الإحساس بالتعاسة. يا لعبقرية اللاوعي الجمعي الذي أبدع هذه الحكاية ويا لقدرته الفنية العالية علي رسم الشخصية وخلق الموقف وصنع الفعل ثم تحويله في تكثيف وتركيز شديدين إلي مشاهد كل منها يؤدي إلي الآخر في نعومة وحتمية ليصل بالحكاية إلي تأكيد مقولة يهدف إليها وهي حتمية إيمان الإنسان بالخير الأسمى، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك كما يقول المتصوفة.وإذا كان الهدف من الفلسفة هو الوصول إلي الحكمة فلابد أن أعلى مراتبها هو البحث عن أفضل السبل لإطلاق طاقة الخير الكامنة داخل البشر لتشع في الدنيا جاعلة منها مكانا أفضل لسكني البشر. هؤلاء الذين يتصورون أن الحياة ليست سوى سوبر ماركت كبير امتلأت رفوفه بالشرور هم أكثر الناس تعاسة علي الأرض، والتعاسة شرط لازم لتحقق الشر غير أنه من حسن حظنا جميعا أن هناك قوانين في هذا الكون أقوى بكثير من تلك التي نقوم نحن بصنعها، ومن هذه القوانين أن المكر السيئ ـــ خلاصة الشر ــ لا يحيق إلا بأهله.-------------------[c1]* كاتب مصري [/c]
خير بإذن الله
أخبار متعلقة