الليبرالية اليوم هي أحدث موضة فكرية في السعودية، ولأن رفضها بالنسبة للبعض بات يعني الانضمام إلى فرق التخلف أو الرجعية فقد قام العديد من المثقفين والمثقفات باعتناق هذا التيار الانفتاحي، اعتنقوه حتى صارت الليبرالية تعبق بكل سطر من أسطر مقالاتهم المتخمة بمعاداة التشدد والانغلاق. أما مشاركاتهم في الندوات والمؤتمرات وملتقيات الحوار الوطني فصارت فرصة للإعلان عن مطالبهم التغييرية بما في ذلك نبذ التقوقع، ورفض التطرف والمطالبة بتحرير المرأة.....وقد تحولت المطالبة الأخيرة وهي تحرير المرأة، بطريقة ما ، إلى شعار يمكنه أن يميز الإسلامي من الليبرالي، لكنه من جانب آخر بات يميز بين الصادق والكاذب، بين الليبرالي الحقيقي ومدعي الليبرالية. تتعالى صرخات مدعيي الليبرالية مطالبين بإخراج المرأة من عزلتها مستنكرين عدم مشاركتها للرجل في التنمية، لائمين كل امرأة تجهل حقوقها ولا تشاركهم تمردهم وثورتهم على كل تقليد عتيق. إن تساءلنا: لمن توجه هذه الدعوات الثورية؟ لعلمنا أنها موجهة لجميع النساء السعوديات عدا رافعي ورافعات شعار الحرية. ومن السهل الكشف عن أولئك الذين يدعون الليبرالية دون أن يؤمنوا بها أو يطبقوها على أنفسهم، فحياتهم الخاصة مليئة بالمفاجآت التي تعكس ازدواجية بالشخصية أو نفاقاً للمسؤولين أو مجاراة للموضة السائدة. ذهلت مؤخرا حين علمت أن أكثر مثقفينا تحرراً وأكثرهم سخرية من واقعنا، من ظلمنا لأنفسنا، من ظلمنا للمرأة، هو رجل ظالم متزوج من أربع نساء وينتقد في كتاباته التعدد وينتقد الخيانة الزوجية. وبعيدا عن التعدد والظلم، هناك الليبرالي الذي ينادي بخروج المرأة واختلاطها بالرجل، مطالبة واقعية ومنطقية ومفرحة، لكن لنسأله: أين زوجتك أو زوجاتك؟ أين أخواتك؟ أين بناتك؟ هل يخرجن فعلا ويختلطن بالرجال لتكون أنت القدوة الأولى أمام مستمعيك؟ أين نساء عائلتك عن الندوات التي تعقدها مع غيرك من المثقفين، وعن تجمعاتكم الليبرالية المتحضرة؟- ماذا؟ نسائي لم ولن يكشفن على مخلوق غيري.- لمن إذاً توجه دعوات التمرد؟ - إنها لنساء الغير، لزوجات الغير وبنات الغير.فلتبق نساؤه خلف الأسوار محروسات تحت ظله تحميهن العادات والتقاليد التي يدافع عنها سرا ويحاربها جهراً.أما العنصر النسائي في حزب مدعيي الليبرالية، فالأمر يستحق التندر. إن أشد الكاتبات السعوديات جرأة في الدعوة إلى التحرر ترفض أن تنشر لها صورة إلى جوار مقالها. وسيفاجئك رأيها: عاداتنا وتقاليدنا، أنا لا أحب أن تستغل صورتي، يكفيني الهجوم الذي أتعرض إليه بسبب قلمي...إلى آخر الموشح المعهود. الكاتبة صاحبة الرأي السابق هي نفسها التي أثنت على عمل السعوديات كمذيعات، وهي نفسها التي تطالب بقيادة السيارات، وهي نفسها التي تطالب بحرية ارتداء الحجاب أو نزعه، وتناشد المسؤولين بإصلاح المناهج التعليمية. وفي بعض من كتاباتها قد تجد دعوة صريحة للنساء للخروج عن طاعة أولياء أمورهن.- لمن يوجه قلمها؟لغيرها من النساء، فلتتحرر الأخريات، أما موجهة الدعوة فستبقى في كنف ولي أمرها، بكنف التقاليد التي يحاربها قلمها. إنها في السر الحارس الأمين على كل جمود سائد. إنها الحارس الحقيقي على المعهود أكثر حتى من الإسلاميين أنفسهم.والسؤال هو: كيف تم السماح للنفاق بالتغلغل بين صفوف التحرر الحقيقية، وكيف دخل الخوف إليها؟ أقول الخوف لأنه حتى حملة الأفكار الليبرالية الحقيقية في السعودية يخجلون من الإعلان عن ليبراليتهم.- أنا لست ليبراليا، أنا عربي أو أنا مسلم.وفي هذا تكريس للمفهوم الذي يود المحافظون تكريسه: إن الليبرالية تهمة، كما العلمانية تهمة، وكما كانت الحداثة من قبلهما تهمة. لم يخلق أحد من المحافظين أو الإسلاميين تلك التهم. بل خلقها الخوف الذي يغلف قلوباً لم تعتد على البوح بل على الكتمان، حتى حين جاءها القرار الملكي بالحوار والبوح قررت الكتمان. الفكر الليبرالي في السعودية ينقصه الإيمان وتنقصه الجرأة للإعلان عن وجوده. وهذا يصب في صالح الإسلاميين الذين لا يخجلون من البوح والمفاخرة بأفكارهم، ببساطة إنهم يؤمنون بها، ويطبقونها.ماذا سيحدث لو أنك أشهرت ليبراليتك ؟. هل سيأتي عوض القرني جديد على غرار (قرني التسعينات) ليطالب بمطالبه القديمة بحق المثقفين ؟ماذا سيحدث لو أننا استغللنا كل دقيقة حرية منحنا إياها اليوم، ولم نكن نملكها بالأمس ؟. لا نستطيع أن ننكر ما لغير الليبراليين من مكانة في بلادنا لا تقارن مع مكانة الليبراليين. لكننا نعلم أن الحوار الوطني كان مفتوحاً للجميع، للنساء والرجال وللسنة والشيعة وللإسلاميين والليبراليين وللعلمانيين أيضاً. قد تكون الكرة اليوم، ولأول مرة منذ عقود، في ملعب الجميع وليست في ملعب المحافظين أو الإسلاميين وحدهم. إنها فرصة للكشف عن النوايا الإصلاحية، وفرصة أخرى للكشف عن نوايا المثقفين المطالبين بالإصلاح.مع الأسف حتى النشاط النسوي السعودي (إن صح التعبير) الداعي لتحرير المرأة غير مستعد لهذا التحول ولذلك التغيير، فلا يزال نشاطا مخجلا ومزيفا في معظم أحواله، محاولات للظهور ولإشهار الاسم دون الوجه، فالوجه تحكمه قوانين العائلة والقبيلة وقوانين صاحبته المحافظة في داخلها، لم نغير شيئا إذا، ما أسهل أن تطبع الكلمات وترسل للنشر، لا يكلف الأمر عناء، ما أسهل المشاركة في المؤتمرات والترويح عن النفس بعض الشيء هنا أو هناك.أما النشاط الحقيقي فهناك على ضفاف الخليج، في الكويت والبحرين، صحيح أن الحرية ممنوحة بقدر أكبر للنساء، والمجتمع في تلك الدول قد تخطى المفاهيم الاجتماعية التي ما زالت تكبلنا، لكنه يبقى مجتمعا خليجيا محافظا يسيطر به البعض على مقاعد لا بأس بها في البرلمانات ويستغلونها لمحاربة حقوق النساء ولإضعاف الناشطات برفع الدعاوى عليهن. إلا أن الناشطات هناك على أهبة الاستعداد للمشاركة برأي أو الإدلاء بصوت، فممارساتهن تعكس أفكارهن. الناشطات هناك مؤمنات بقضيتهن ويدخلن في سجال مع المجتمع ويدخلن في محاكمات دون خشية أو خجل. قالت لي الناشطة البحرينية غادة جمشير إنها دخلت في 17 محاكمة خلال 5 سنوات فقط.من منا في السعودية مؤمنة بقضيتها ؟، ربما واحدة أو اثنتين، ربما لا أحد. نقلا عن / جريدة "الوطن" السعودية
موضة أم نفاق؟
أخبار متعلقة