ماذا يمكن ان تقول عن كتاب ضخم يستعرض تاريخ الفكر العربي الاسلامي على مدار ستة عشر قرنا: اي منذ الجاهلية وحتى اليوم؟ بالطبع يستحيل عليك تلخيص اطروحاته في مقالة واحدة او حتى في عشر مقالات. ومع ذلك ينبغي ان نقول عنه كلمة لأنه يتحدث عن فكرنا وتاريخنا وهمّنا الاساسي في هذا العصر: اي كيفية التوفيق بين التراث المتراكم والحداثة الوافدة من الخارج. وهذا التراث المكبوت أخذ ينفجر من الماضي السحيق انفجارا الآن ويصيب بشظاياه وجوهنا ووجوه غيرنا. وسوف يظل الامر كذلك ما دمنا لا نتجرأ على النبش عنه، على الحفر عن جذوره الدفينة، على دراسته دراسة علمية تاريخية رصينة. اقول ذلك وانا افكر بمسألة الطائفية والمذهبية التي تشتعل الآن في كل ارجاء المشرق العربي من العراق الى لبنان الى الخليج العربي. واذا كان المثقفون العرب ـ أو معظمهم ـ لا يتجرأون على مواجهة الوضع صراحة او على تسمية الاشياء بأسمائها خوفا من المجتمع، فإن المثقف الفرنسي يستطيع ان يفعل ذلك لأنه يتحدث من الخارج ويكتب بلغة اجنبية تقيم بينه وبين الواقع المشتعل مسافة ما. يضاف الى ذلك انه يعيش في بلد يؤمّن له الحماية وحرية البحث والتفكير. من هنا اهمية البحوث التي تصدر عن التراث العربي الاسلامي باللغات الاجنبية وبخاصة الانجليزية والفرنسية والالمانية. انها لمأساة ان تكون مضطرا لقراءة أعمال المستعربين والأكاديميين الأجانب من أجل فهم تراثك العربي الاسلامي بشكل تاريخي، واقعي، دقيق! وهذا الكتاب الذي لم أنته من قراءته حتى الآن يلقي اضاءات لا يستهان بها على كل مراحل تاريخنا الفكري. فمن يريد ان يعرف كيف حصل الانتقال من الجاهلية الى الاسلام ينبغي ان يقرأه. ومن يريد ان يعرف كيف ظهرت الفرق او الانقسامات الاولى في الاسلام ينبغي ان يقرأه. ومن يريد ان يعرف كيف ظهرت الفلسفة والفكر العلمي ابان العصر الذهبي ثم افولهما بعدئذ والدخول في عصر الانحطاط ينبغي ان يقرأه. ولا أقصد بذلك انه كتاب معصوم او جامع، شامل، مانع، ولكنه يمثل اجتهادا ويشكل ثمرة بحوث طويلة لمؤلفه «دومينيك اورفوا» استاذ الفكر والحضارة العربية في جامعة تولوز بجنوب غرب فرنسا، وكان قد نشر سابقاً عدة كتب عن ابن رشد والحياة الثقافية في الأندلس بالإضافة إلى كتاب لفت الانتباه عن المفكرين الأحرار في الاسلام الكلاسيكي من أمثال ابن المقفع، وحنين بن اسحاق، والمعري، وابي بكر الرازي، وابن الراوندي، الخ. وهم بالإضافة الى المعتزلة والفلاسفة يمثلون «المرحلة التنويرية» من تاريخ الفكر العربي الاسلامي. ولكنهم مدانون من قبل الأصولية التي سيطرت على الساحة بعد موت ابن رشد عام (1198). لكن لنعد الى موضوعنا الاساسي. الفصل الأخير من هذا الكتاب الضخم مخصص للتيارات الحامية السائدة في الفكر العربي. وهنا يناقش المؤلف أطروحات المثقفين التحديثيين الذين يريدون تجديد التراث او نفض الغبار عنه او مصالحته مع قيم العالم المعاصر. بمعنى آخر فإنه يريد ان يتحدث عن مشاريع نقد التراث التي ازدهرت في الآونة الأخيرة على يد الجابري، واركون، ونصر حامد ابي زيد، وحسن حنفي، ومحمد سعيد العشماوي، وطيب تيزيني، وصادق جلال العظم، ومحمد طالبي، وعبد المجيد الشرفي، الخ.. هذا دون ان نتحدث عن أسلافهم الذين فتحوا معركة التراث منذ عصر النهضة كشكيب ارسلان، وفرح انطون، ومحمد عبده، ومحمد اقبال، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وعبد الرحمن بدوي.. الخ. ولا ينسى المؤلف ان يتحدث في نفس الوقت عن ممثلي التيار المضاد للتحديث: اي تيار أبو الاعلى المودودي، والخميني، وسيد قطب، وكل الأصوليين المعاصرين. وهو يطرح الإشكالية بشكل ذكي منذ البداية، اذ يقول: جميعهم يتحدثون عن أمجاد التراث ولكن ليس هناك اتفاق على نوعية هذه الأمجاد. فهل تتمثل في ابن تيمية أم في المعتزلة؟ هل تتمثل في القاضي عياض بطل المذهب المالكي في القرن الثاني عشر أم في ابن رشد بطل الفلسفة العقلانية؟ هكذا نلاحظ انه يوجد انقسام بين المثقفين العرب حول هذه المسألة. فإذا كنت من أتباع الأصوليين اخترت الحل الأول بدون تردد، وإذا كنت من أتباع التحديثيين اخترت الحل الثاني. فالواقع ان للتراث وجهين لا وجهاً واحداً. والمعركة الدائرة حول التراث حالياً تخص الحاضر بالدرجة الأولى وليس فقط الماضي. او قل انها معركة تستخدم فيها أسلحة الماضي من اجل الحاضر والعكس صحيح أيضاً. يستعرض دومينيك اورفوا مشروع الجابري بسرعة ويقول بانه يريد احياء فكر ابن رشد وتجسيده في شخصه، من هنا الجاذبية التي مارسها على المثقفين العرب. ولكنه يظل مشروعا تبسيطيا او غير مقنع في نهاية المطاف على الرغم من ميزاته التي لا تنكر. نقول ذلك وبخاصة انه يعتقد بان العقلانية حكر على المغرب الاسلامي في شخص ابن رشد، واللاعقلانية حكر على المشرق الاسلامي متجسدة في ابن سينا. فهذا كلام تبسيطي لا يصمد امام الامتحان ولا يشرح لنا سبب تخلف المغرب والمشرق على السواء. وهنا تكمن محدودية مشروع نقد العقل العربي، بالاضافة الى نواقص اخرى عديدة. اما محمد اركون. صاحب نقد العقل الاسلامي فمشروعه مختلف وان كان ينسب نفسه تراثيا الى نفس المرجعية العقلانية: اي مرجعية ابن رشد. فهو يقدم مشروعا ضخما لتجديد الدراسات الاسلامية والقرآنية من خلال تطبيق مناهج العلوم الانسانية عليها. ولكن المؤلف يعيب عليه انه يظل في مرحلة التنظير والتخطيط لبرامج الدراسة وورشات العمل اكثر مما ينتقل الى مرحلة التنفيذ العملي. وهذا كلام غريب الشكل وغير مفهوم بالنسبة للمطلع جيدا على مشروع اركون. فقد اكثر من ضرب الامثلة العملية المحسوسة من خلال قراءته الدقيقة جدا لسورة الفاتحة، او سورة اهل الكهف، او مفهوم العقل والعقلانية في التراث او مفهوم النزعة الانسانية ابان العصر الذهبي للفكر العربي الاسلامي، الخ.. باختصار فان تقييم هذا الباحث الفرنسي يبدو مبتسرا احيانا وغير دقيق وربما هو متسرع اكثر من اللزوم. يضاف الى ذلك انه يطالب المثقفين العرب باحداث قطيعة مطلقة مع التراث او مع الرؤية التقليدية والتقديسية المتشكلة عنه منذ مئات السنين والراسخة في الوعي الجماعي الجبار. وهذا شيء مستحيل في المدى المنظور. ــــــــــ[c1]كاتب سوري
|
فكر
محاكمة فرنسية لمثقفي العرب والإسلام
أخبار متعلقة