قصة قصيرة
مدت الجدة يديها في لهفة وحنان لتحتضن رأس حفيدها وهو يقترب منها ليطبع على جبينها قبلة الصباح وقال الشاب : يجب أن أسرع يا جدتي فقد تأخرت، ولا أريد أن تفوتني المحاضرة.وارتسمت على وجه الجدة العجوز ابتسامة تحمل كل معاني الحب، وقالت وهي تتحامل على نفسها لتقف وتمشي معه حتى باب البيت الخارجي : “في سلامة الله يا بني!”.وخرج يعدو إلى حيث كانت تقف السيارة في ركن الحديقة.. وفتح الباب ودخل وجلس بجوار جده الشيخ الذي ما كاد يراه حتى بادره بتحية الصباح والدعاء له بالتوفيق والنجاح.ومضت السيارة في طريقها.. الطريق نفسه الذي تعودت أن تسير فيه صباح كل يوم منذ أن التحق الشاب الصغير بالجامعة قبل أشهر قليلة ليدرس الطب.. واقتربت السيارة أخيراً من مبنى الجامعة، فنزل منها بعد أن ودع جده بقبلة على يده، ثم عاد الشيخ يتمتم بالدعاء لحفيده.هكذا كانت حياة الشاب الجديدة بعد أن دخل الجامعة.. ثمة شيء كان يثير اهتمام زملائه به.. ربما كان هدوءه وأدبه ومسحة الحزن التي كانوا يرونها في عينيه، وربما كان وجه الشيخ الطيب العجوز الذي لم يفته يوماً أن يحييهم كلما رآهم يقتربون منه وهو جالس في سيارته.. المهم أنهم كانوا جميعاً يحبونه.. وكثيراً ما كان يتأخر الشاب في الخروج فيتطوع البعض بالذهاب لإخطاره بأن السيارة وصلت وأن جده في انتظاره.كان من الممكن أن يكون مثل أي شاب آخر.. ألا يثير كل هذا الاهتمام، لولا تلك النظرة الحزينة التي كانت تكسو وجهه وتبدو من خلال حديثه مع زملائه وأساتذته.. إلى أن جاء يوم، وقف فيه الشاب يبكي، كان بكاء صامتاً لم يشعر به أصدقاؤه إلا عندما رأوا الدموع تملأ عينيه.. ماذا حدث؟!.لقد سبق هذه الدموع حديث بين الزملاء - وكان واحداً منهم - عن دور الآباء في توجيه الأبناء ورسم مستقبلهم. وسأله أحدهم : “ هل كانت رغبة والديك أن تدرس الطب؟!”.ولم يجب ثم ما لبث أن ابتعد في هدوء، ووقف في ركن قصي في ظلال شجرة وارفة وبكى. لقد أيقظ الحوار في نفسه ذكريات طفولته التي أمضاها وحده مع جدته التي حاولت أن تعوضه عن حنان أمه ورعاية أبيه..ترك الكلية وهرول عائداً إلى البيت، ودخل الفتى على جدته العجوز التي كانت تؤدي صلاة الظهر، فجلس قريباً منها حتى انتهت من صلاتها، ثم اتجه إليها وارتمى بين ذراعيها وراح يبكي كما لم يبكِ من قبل في حياته.. أما هي.. تلك السيدة الطيبة القلب التي تقدم بها العمر، واحنت الهموم ظهرها، فقد هالها أن تجد حفيدها على هذه الصورة، فصرخت: ماذا حدث؟ قل لي يا بني.. ما الذي يبكيك؟.وقال الشاب وهو جالس على الأرض بجوارها:جئت أسألك عن أمي وأبي.. أين هما؟!.. ماذا حدث لهما؟!.. أريد أن اعرف الحقيقة!.. من أنا؟!، ومن أين جئت؟!. ما هو سر هذه الغرفة المظلمة المغلقة التي تدخلينها وحدك وتخرجين منها وقد امتلأت عيناك بالدموع؟!.قامت الجدة، وأمسكت بيد حفيدها، وفي صمت وهدوء اتجه الاثنان إلى باب الغرفة الذي كان يتمنى لو أنه فتحه مرة واحدة ليرى ما وراءه.وقف الاثنان أمام الباب برهة، ثم مدت الجدة يدها إلى سلسلة طويلة حول عنقها وأخرجت منها مفتاحاً صغيراً، وانقضت بضع لحظات قبل أن تدفع السيدة المفتاح في ثقب الباب، وقالت أخيراً :سأروي لك كل شيء يا بني.. لقد حاولنا أن نخفي عنك الحقيقة لفترة من الزمن، فقد كنت ما تزال طفلاً.وفتحت الجدة الباب، وتسمرت قدما الشاب، وهو يقف على عتبته مذهولاً!!..فقد كان كل شيء نظيفاً ويبدو جديداً، كما لو كان ساكنها قد تركها لتوه.. وراح يسأل نفسه : كيف يمكن أن تظل الغرفة مغلقة كل هذه السنين، دون أن يعلوها التراب وخيوط العنكبوت؟.وكأن الجدة أدركت ما يدور في رأس حفيدها، فقالت : كنت أتردد عليها يا بني عندما ينام كل من في البيت.. كنت أدخلها وأغلق الباب ورائي وأنظفها بيدي ثم أعود إليها وأصلي فيها الفجر، ومدت الجدة يدها وأمسكت بيد حفيدها، وقالت:أدخل يا بني لترى أمك وتعرف أباك.ودخل.. ووقف أمام صورة كبيرة لسيدة شابة وجميلة.. قالت الجدة : هذه أمك يا بني.. لقد كانت فتاة أجنبية أحبها والدك عندما أوفده جدك للدراسة وإدارة أعماله في الخارج.. أما هذه الصورة الثانية فوق المكتب فهي لأبيك.. لأبني الوحيد الذي فقدته في الغربة..وخفق قلب الشاب وهو ينقل بصره بين الصورتين وانهمرت دموع الأم غزيرة وهي تتأمل وجه حفيدها الذي كان يقف بجوار صورة أبيه.. إنها أول مرة ترى فيها هذا الوجه الصغير قريباً من صورة أبيه.وجلس الشاب.. وبدأت الجدة العجوز الطيبة التي خط الشيب شعر رأسها وامتلأ وجهها بالتجاعيد رغم أنها لم تتجاوز عامها الخامس والخمسين.. بدأت تحكي لحفيدها قصة أبنها الوحيد الذي فقدته منذ ستة عشر عاماً.“ كان أبوك يا بني كل شيء في حياتنا.. كنا نعيش له ومن أجله.. لم نبخل عليه بشيء، ولم نرفض له طلباً.. حتى عندما جاء يقول لنا : “ أريد أن أسافر لأكمل تعليمي الجامعي في الخارج!”.. رغم أن الجامعات موجودة في بلادنا. لقد تحملت فراق ابني الوحيد لكي أسعده! وسافر والدك إلى أوروبا بعد أن أتم هنا تعليمه الثانوي.. سافر ليحصل على درجة علمية من جامعاتها.. وعاش ست سنوات بعيداً عنا.. ست سنوات كاملة كنت أراه خلالها لفترة لا تزيد على شهرين كل عام أثناء العطلة الصيفية.. إلى أن تخرج وحصل على الماجستير في العلوم الاقتصادية وبقينا ننتظر عودته.. ولكنه لم يعد يا بني، فقد أراد له والده أن يبقى حيث هو لمدة عام أو عامين آخرين يباشر خلالها تجارة والده هناك.. ويا ليته ما بقي!. فقد تلقينا في أحد الأيام رسالة من والدك عبر البريد الالكتروني يقول فيها أنه عثر على ضالته، وأنه قرر الزواج منها.. فتاة أجنبية هام بها حباً.كانت هذه الفتاة حي أملي يا بني.. وهي التي ترى صورتها معلقة على الحائط!. ومضت سنة كاملة قبل أن نتلقى النبأ المفجع.. النبأ الحزين الذي أدمى قلبي وحطم حياتي وحياة جدك. ففي صباح أحد الأيام حمل إلينا البريد الالكتروني رسالة مؤلمة كانت تحمل تفاصيل الكارثة.. لقد مات ابننا في حادث تصادم. كان يقود سيارته مسرعاً وبجانبه زوجته تحمل طفلها الرضيع الذي لم يتجاوز الشهر الثاني من عمره.. وفجأة اصطدمت سيارة أبيك بسيارة أخرى صدمة عنيفة، ومات والدك، ونجت أمك، ونجوت أنت أيضاً من الموت بمعجزة.وانقضت عدة أشهر، قبل أن تصل الزوجة، وذهبنا ننتظرها في المطار، كنا في شوق شديد للقاء هذا الطفل الذي تركه ابننا الوحيد ورحل عن الدنيا.. فقد كنت أنت العزاء الوحيد لنا في محنتنا وجاءت الأم.. نزلت من الطائرة تحملك بين ذراعيها، ورحبنا بها وفتحنا لها بيتنا وقلوبنا.. وعاشت بيننا معك ثلاث سنوات كاملة ثم توفاها الله.هل تعلم ماذا كانت وصيتها لنا؟!. لقد توسلت إلينا ألا نتركك تواجه المصير نفسه.. قالت وهي تبكي قبل أن تلقى ربها : لا أريد لأبني مصير أبيه، لا تتركوه يغيب عن أعينكم لحظة واحدة!”.واقترب الشاب من جدته، وانحنى يلثم بشفتيه كلتا يديها ثم قادها إلى خارج الغرفة إلى حيث كان يجلس جده العجوز ويستمع إلى قصة ولده الذي فقده.. وألقى الشاب برأسه بين ركبتيه وقال :” سامحني يا جدي فقد عدت مبكراً اليوم لأبحث عن أبي وأمي.. ووجدتهما.. وجدتهما فيك وفي جدتي الحنونة الطيبة”.