اضواء
تعني بروز مفاهيم وقيم وعلاقات تتنافى مع مفهوم الدولة، كدولة وطنية يقوم الانتماء إليها على أساس من المعنى الجوهري للفردية والمواطنة. وذلك من حيث أن انتماء “الفرد” للكيانات الاجتماعية السابقة على الدولة لا يحصل بالنسبة له كفرد متميز، وإنما ككينونة أو عنصر يذوب في هذا الكيان: هويته، ومكانته، وذاته هي امتداد لذات ومكانة ذلك الكيان. قد تعبر تلك المفاهيم بهذا المعنى عن أيديولوجيا دينية أو قبلية أو عنصرية. هذا مع ملاحظة أن القبلية كثيراً ما تتضمن منحى عنصرياً مضمراً، وإن لم تتهيأ له الظروف للتعبير عن نفسه على هذا الأساس. وذلك بشكل أساسي بسبب الإطار الرسمي والثقافي للدولة. ومن هذه الزاوية تحديداً، تبدو العودة إلى مفردات العصبية القبلية الآن نوعا من الردة والتحدي لهذا الإطار. ينحصر معنى الردة عن الدولة هنا في بروز العصبية القبلية في المجتمع السعودي مؤخراً بشكل لافت. ما هي مظاهر هذه العصبية؟ كثيرون أشاروا إلى ظاهرة ما أصبح يعرف بـ”مزاين الإبل”. وهذه في الأساس بدأت كمهرجانات موسمية لاستعراض خصائص ومميزات الإبل. لكن يبدو أن مشكلة بروز العصبية في هذه الحالة بدأت عندما أخذت هذه المهرجانات تنحرف نحو حصر كل مهرجان بقبيلة بعينها دون غيرها. الأمر الذي عاد بالجميع إلى ثقافة تفاخر القبائل. وأحد مواضيع التفاخر هذه هي الإبل، باعتبارها بخصائصها التي تتميز بها تعبر عن القبيلة. هنا ينبغي ملاحظة أن الإبل ليست فقط حيوانا أليفا مرتبطا بحياة القبيلة وعيشها في البادية، بل تمثل جزءاً أساسياً من التراث الثقافي لحياة هذه القبيلة في الصحراء. الشعر الشعبي (النبطي) هو التعبير الفني عن هذا التراث. والإبل هي أحد الموضوعات المركزية في الشعر الشعبي للقبيلة، وبالتالي أحد رموز تراثها. من هنا أخذت مهرجانات مزاين الإبل في السعودية تتحول إلى منابر تستخدمها القبائل للعودة إلى إحياء خطابها التقليدي للتعبير عن ذاتها ككيانات متميزة عن بعضها، كما كانت عليه الحال في الماضي، وقبل قيام الدولة. المفارقة هنا، وكما أشرت في المقالة السابقة، أن هذه الظاهرة تحدث داخل دولة قامت في الأساس نتيجة لتصدع القبيلة، وعلى حساب البداوة بشكل خاص. مما يؤكد حقيقة التناقض بين القبيلة والدولة، وبالتالي فإن عودة العصبية في هذه الحالة تمثل شكلاً من أشكال مقاومة القبيلة أمام بنية الدولة وأيديولوجيتها. لكن هذه العودة تطرح السؤال من جديد: هل تصدعت القبيلة حقاً في السعودية؟ قد توحي عودة العصبية القبلية بأن الحديث عن تصدع القبيلة ليس صحيحاً، أو مبالغا فيه. والحقيقة عكس ذلك تماماً. فالقبيلة تعرضت بالفعل لعملية تصدع واضحة ومنذ زمن بعيد. أهم معالم التصدع أن القبيلة فقدت موقعها الجغرافي، أو الأرض التي أصبحت ملكيتها تعود إلى الدولة بشكل حصري. المعلم الثاني هو تحول القبيلة إلى عائلات متناثرة في أرجاء المملكة. المعلم الثالث أن متطلبات الحياة الأساسية للناس هنا تعتمد بشكل نهائي حالياً على خدمات السوق، الذي يخضع بدوره لتنظيم الدولة، وليس على القبيلة كما كان عليه الأمر في الماضي. ثم هناك فكرة الانتماء وهي حالياً تعود بشكل أساسي إلى الدولة. لكن عودة العصبية القبلية، من ناحية أخرى، تشير إلى أن مسألة الانتماء هنا قد لا تكون محسومة بعد، بالنسبة للبعض على الأقل، وبالتالي فهي ليست إلى الدولة بشكل نهائي، وبما يعبر عن قطع نهائي مع القبيلة.بهذا المعنى تكون القبيلة قد تصدعت بالفعل من الناحية البنيوية، لكنها لا تزال تحتفظ من الناحية الأيديولوجية برموزها وقيمها، وببعض من تراثها الثقافي. وعندما يتوفر لها منبر مثل مزاين الإبل، تعود هذه الرموز إلى الظهور بشكل لافت، ويعبر عن حنين مضمر إلى ذلك التراث، كما يعبر عنه الشعر الشعبي في مثل هذه المناسبات.المفارقة الأخرى لهذه الظاهرة هي قدرتها على التجاور مع الدين، باعتباره أحد المكونات الأساسية لأيديولوجيا الدولة، ومع الشريعة الإسلامية باعتبارها مكوناً أساسياً لقانون الدولة. ووجه المفارقة هو أن القبيلة، أوالعصبية هي من ناحية أيديولوجية مغلقة، وترتكز إلى العرف القبلي كمرجعية قانونية لها.في المقابل يمثل الدين أيديولوجية مفتوحة وليست مغلقة، أو هكذا يفترض انطلاقاً من عالمية الرسالة الإسلامية. إلى جانب ذلك، فالشريعة كقانون هي للإنسان بشكل عام، وليس لقبيلة أو لفئة أو طبقة بعينها، أو لعنصر دون غيره. هذا التجاور بين أيديولوجيا القبيلة كما يتمثل في عودة العصبية القبلية من ناحية، وبين الدولة بسوقها التي أصبحت سوقاً وطنية، وبمؤسساتها التي تتزايد بشكل شبه يومي، وبعلاقاتها التي تزداد وتتسع بشكل مستمر، من ناحية أخرى، يؤكد أحد أهم خصائص المجتمع السعودي التي تشكلت عبر العصور منذ ظهور الإسلام وحتى الآن. وهذه الخاصية هي أن هذا المجتمع في الأساس مجتمع محافظ اجتماعياً وثقافياً، لكن محافظته هذه دائماً ما تأخذ شكل الغطاء الديني. قد تفسر هذه الخاصية عودة العصبية القبلية هذه الأيام، لكن التفسير الذي تقدمه قد ينطوي أيضاً على مغالطات تحجب الصورة الكاملة بكل تعقيداتها عنا. والسبب المباشر لهذا القول إن خاصية المحافظة هنا لا تعني دائماً أنها مرادفة للقبلية أو للبداوة. ثانياً أن عودة العصبية القبلية لم تحصل بالدرجة الكبيرة التي عليها الآن إلا مؤخراً. طبعا لا يجب أن نغفل حقيقة أنه لولا قابلية ثقافة المجتمع لمثل هذه العودة، لما حصلت في الأساس. لكن من ناحية أخرى، يجب أن نذكر أيضاً بالطبيعة الحضرية القديمة لكثير من القرى والمدن في المجتمع السعودي، وأنه لولا هذه الطبيعة، والتي بسببها تصدعت القبيلة في الأساس، لما قامت الدولة السعودية، وهي دولة مركزية، منذ ما يقرب من ثلاثة قرون الآن. نحن إذن أمام ظاهرة مركبة، وليست ظاهرة بسيطة ومباشرة. ويبقى السؤال: لماذا عادت العصبية القبلية؟ هذا مع التأكيد على أن مظاهر هذه العودة لا تقتصر على ما ذكرناه حول مهرجانات مزاين الإبل. ذكرنا هذه كمثال فقط، وإلا فهي أكثر من ذلك. مثلاً انتشار مواقع على الإنترنت للكثير من القبائل، تستعرض فيها تاريخها وأمجادها، ورموزها وشعرائها، وفرسانها، وشيوخها. كل ذلك يرتكز إلى ماضي القبيلة، لكنه يحاول إعادة إنتاجه في الحاضر. ثم هناك القنوات الفضائية التي تمجد تراث البداوة، وتراث القبائل. وهنا نلاحظ محاولة تطويع التكنولوجيا الحديثة لإعادة إنتاج ثقافة تنتمي إلى ماض لم يعد في الواقع موجودا إلا على مستوى الأيديولوجيا، والحنين الأيديولوجي.نعود إلى السؤال عن السبب. ربما أن قدرة العصبية القبلية على العودة يعود إلى ضعف خطاب الدولة. وأقصد بالخطاب هنا عناصر ومفاهيم مثل الفرد مقابل الجماعة، والقانون مقابل العرف، والمواطنة كانتماء للدولة مقابل القبيلة، والعقلانية مقابل التقاليد، والعلم مقابل الخرافة والأسطورة، والمؤسسة السياسية مقابل مؤسسة العائلة والحمولة، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تشكل في مجموعها ودلالاتها أساس خطاب الدولة. لكن هناك مسؤولية المؤسسة الدينية، باعتبارها إحدى أهم مؤسسات الدولة. تتجاهل هذه المؤسسة ظاهرة القبلية والعصبية القبلية، ويخلو خطابها الوعظي من أية إشارة إلى هذه الظاهرة. بل في كثير من الأحيان ما يلجأ الخطاب الديني إلى التخفيف من النظرة السلبية للقبلية. مناهج التعليم التي تسيطر على تأليفها وتطويرها المؤسسة الدينية تخلو هي الأخرى من أية إشارة إلى ظاهرة العصبية القبلية. بعبارة أخرى، هناك تجاهل شبه كامل من قبل هذه المؤسسة لظاهرة تستشري داخل المجتمع، وتتناقض مع أساسيات الدين.بدلاً من ذلك تركز هذه المؤسسة في وعظها بشكل أساسي على الطقوس والعبادات. ولعل من أخطر مواقف هذه المؤسسة فيما يتعلق بهذا الموضوع هو تبنيها لمفهوم كفاءة النسب، وإجازتها منع الزواج، أو الفصل بين زوجين على أساس من هذا المعيار القبلي. وكفاءة النسب تعبر عن تراتبية اجتماعية على أساس قبلي، مما يؤكد تحيزاً قبلياً داخل هذه المؤسسة، وبالتالي تشريع المنحى القبلي لثقافة المجتمع. العامل الثالث هنا هو العملية الضخمة لاستقرار القبائل البدوية التي حدثت تقريباً مع بداية سبعينيات القرن الماضي. حدثت هذه كعملية توطين عفوي، واستجابة لظروف عدة، أهمها أن هذه الفترة شهدت بداية الطفرة النفطية، وبداية التخطيط التنموي المنتظم، أو ما يعرف بالخطط الخمسية للتنمية. والذي يبدو أنه عندما حدثت هذه الهجرة لم تكن البنية الحضرية للمجتمع السعودي، مهيأة لاستيعاب هذه الظاهرة، خاصة من ناحية خلو هذه البنية من مؤسسات المجتمع المدني. للحديث بقية.* عن / صحيفة “الاتحاد” الاماراتية