المضحك أنك ترى النار تحتل الأمكنة كلها وتطيل ألسنتها في وجه الجميع! ترى الدخان الأسود القبيح يلاحق نسيمات الهواء، ترى الخراب الأغبر يطوق الجهات الأربع، ترى كل ذلك، ثم تسمع ساسة ورجال شأن عام يكذبون عليك ويقولون: كل شيء حسن، انتم فقط الذين تلبسون نظارات سوداء!طالعوا العراق، فقد حذر المحذورن، من إضاعة النصر والحدث «الجميل» المتمثل بإسقاط النظام الديكتاتوري، وإمكانية أن ينجح العراقيون، في هذه السانحة التاريخية النادرة، التي تمثلت في وجود مصلحة أمريكية في إسقاط النظام، واستغلال هذه اللحظة في بناء عراق تعددي مهتم بالبناء والتنمية، وعدم تضييع هذه اللحظة بترك الغرائز الطائفية والإثنية تطفو على السطح، متسلحة بأنياب المذهب وأظفار الميليشيا، ولكن لم يصغ أحد، وأولهم الأمريكي، وكان الحصاد أن تمطت أفعى القاعدة الزرقاوية في العراق، وركبت على مركب التوتر السني، والتحفز البعثي، فكتبت فصلا داميا في تاريخ هذا البلد، وكانت تقتل على الهوية الطائفية.. ثم كان الحصاد أيضا أن أصبح رجل متعصب مغرق في وعيه الطائفي الفقير، مثل مقتدى الصدر، سيدا من سادات العراق، توجد له في البرلمان كتلة نيابية، وفي الشارع ميليشيا تذبح وتوزع الرعب متشحة بالسواد، وتجعل شخصا مسكونا بالتوتر المذهبي، مثل حارث الضاري لاعبا رئيسا في العراق. ما حصل في العراق، حصل، وقد بلغ من العري درجة جعلته يتغلب على محاولات التجميل السياسية، التي بذلها بعض الساسة في العراق، ومنهم مؤخرا عبد العزيز الحكيم، الذي قال في مقابلة تلفزيونية، إنه ليس صحيحا أنه توجد حرب طائفية في العراق، بل خلافات سياسية! الآن في لبنان، نرى نفس «الأكاذب»، فالكل يرفع علم لبنان، قوى 14 آذار، وقوى المعارضة بقيادة حزب الله، والكل يهتف: عاش لبنان، ويقول إنه ضد الشعارات الطائفية والمذهبية، الكل يقول إنه سيحاسب من يطلق مثل هذه الشعارات أو يتحدث بلغة طائفية، ولكن الكل لا يخبرنا من الذي يهتف: «يا نصر الله لا تهتم، معك شيعة بتشرب دم»، أو يطلق شعارات في أحياء السنة البيروتية ضد «الصفويين الشيعة»؟! الواقع أن الشارع مشحون، ولا يمكن شحنه بهذا القدر من السخونة إلا باستخدام مياه دفع قوية، تصل إلى أغوار الأغوار في نفس الكائن المتحرك في الشارع، هذه المياه الدافعة هي مياه الهوية: دينية كانت أم اثنية أم عشائرية... وهذا هو الذي يحصل حاليا في لبنان.سأورد فقط بعض الأمثلة، غير ما نسمع من قيادات الفريقين في كلامهم المنمق «الطاهر» من وضر الطائفية.. في فقرات مؤثرة، جاءت على لسان شابتين لبنانيتين، تنتمي كل منهما إلى فريق، ونشرت مؤخرا ً في صحيفة «الشرق الأوسط»، تقول الأولى «باتريسيا» وهي شابة مسيحية من أنصار قوى 14 آذار، وتسكن بيروت الشرقية، إنها باتت تتحاشى لقاء الناس، لكي لا تتخاصم معهم، خصوصا الأصدقاء من الفريق الآخر. وتضيف «أخاف أن اسمع كلاما استفزازيا وأرد عليه، لأنني لم اعد أستطيع أن الجم لساني. الناس محقونة. الشوارع محقونة. بت أرى وجه الحقد في بيروت». أما فاديا، وهي فتاة شيعية من أنصار حزب الله، فتقول إنها تخشى الذهاب للمناطق المختلطة مذهبيا «خاصة خلال الليل لأنني لا اعرف متى يقع الإشكال» بين مؤيدي حزب الله وأنصار الحكومة. في مستوى آخر، بدأت المشاعر الطائفية تظهر بسفور، أين منه سفور فاروق حسني! دعونا هنا نتحدث عن المشاعر الطائفية السنية، التي بدأت تكشف عن نفسها بكل فجاجة، وأقتصر عليها، لأن البعض من القراء يعتقد أن الكلام عن الطائفية هو موجه فقط ضد الطائفة الشيعية، لا! فمواجهة الثقافة الطائفية قضية مبدأ وموقف، لا علاقة لها بمعسكر هذه الطائفة، لكن وللأسف، ورغم أن كثيرين كتبوا ضد التعصب السني، وأنا شخصيا منهم، كتبت ضد التعصب السني في العراق، وضد الجماعات السنية الإرهابية مثل القاعدة، أو المستخدمة للدين كرافعة سياسية، مثل الإخوان وغيرهم، رغم هذا كله، وهو كثير ومتعدد ولم ينقطع، إلا أنه يذهب كله في غربال النسيان، لدى بعض محبي حزب الله أو إيران او الصدر او الحكيم، لمجرد أنك تحدثت ناقدا ورافضا للمشروع الطائفي، الذي تنفذه الأحزاب الشيعية الأصولية في العراق أو في لبنان أو البحرين، برعاية إيران.. فحين ننتقد هذه التيارات، نتهم فورا بالطائفية السنية! والتغاضي عن التعصب السني.. و«كأنك يا أبو زيد ماغزيت»! ربما عنى هذا، فيما عنى، هيمنة الوعي الطائفي المتخلف على الجميع، ومعناه أيضا، أن الجميع يكذب على الجميع حينما يثرثر عن الوطنية والأمة الواحدة... الخ على كل حال، ما يثير القلق والخوف الشديد الآن، هو انبعاث هذه الروائح الطائفية في أزمة لبنان الأخيرة، فهذا مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو يتحدث عن خطاب السيد نصر الله الأخير، وهو خطاب متشنج وسيئ بلا شك، إلا أن الشيخ الجوزو يرد بطريقة أسوأ! حينما يقول واصفا نصر الله، وبالنص، كما في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «أوهام وخيالات مريضة وعقد نفسية تاريخية وأحقاد مذهبية لم يستطع إخفاءها. وثقافة عريقة في التطاول على الكبار، الكبار في التاريخ الاسلامي». والإشارة واضحة طبعا إلى البعد الطائفي، والأدبيات الهجائية التقليدية المتبادلة بين السنة والشيعة على مدار التاريخ الإسلامي. وهذا هو رجل دين سني، لا أعرف وزنه في لبنان، لكن أعرف انه متابع لدى بعض المتعصبين ضد الشيعة في الخليج، وهو الشيخ عبد الرحمن دمشقية، يخصص موقعا كاملا على الانترنت لـ«الدفاع عن أهل السنة»، ويكتب مهاجما الشيخ فتحي يكن، الذي أم صلاة الجمعة بجمهور حزب الله، طبعا خطوة فتحي يكن سياسية، أو هي نوع من «الصلاة السياسية»، ولكن هذا الشيخ، اعني دمشقية، أراد أن «يكحلها فعماها»، فتحدث في بداية مقاله الملتهب الذي عنونه بـ«نداء للسنة في لبنان بالتعبئة العامة ونداء للخونة فتحي وغيره» ، مخاطبا جمهور السنة في لبنان وخارج لبنان على طريقة: «يا غيرة الدين»، التي يعرفها لبنان الطائفي جيدا! يقول: «لا أخصص النداء بتعبئة السلاح مع أن الأخذ بأسباب الحماية والدفاع عن الأنفس والأعراض مبرر حتى لا نذبح كالنعاج كما فعل أحفاد عبد الله بن سبأ بإخواننا في العراق»! التعجب من عندي طبعا.. هذا شيء مقلق، ويجب أن يقلق منه الساسة كثيرا، لأنه قد تنتهي المشكلة السياسية وتنجح جهود «أهل الخير»، لكن من يهدئ هذا الشارع الذي بعثت فيه أكثر الغرائز النفسية تدميرا؟! للأسف، أننا فعلا نعيش على «خزان بارود يوشك ان ينفجر»، كما قال الملك عبد الله بن عبد العزيز. أيها السادة: تذكروا كيف أن استغلال المشاعر الديني -ة في حرب «المجاهدين» في أفغانستان لأغراض سياسية بحتة، كيف انه تسبب للجميع بولادة الأفغان العرب، و«عقل» الأفغان العرب وهو الأخطر.. وكيف أن المواجهة مع إيران الخمينية طيلة الثمانينات، وما صاحبها من دعم وتشجيع الأدبيات الطائفية التي تتحدث عن «المجوس» و«الصفويين»، قد تسبب بشروخ عميقة في المجتمعات العربية التي يكون الشيعة جزءا من نسيجها... اللعب بالورقة الدينية خطير ومدمر، صحيح انك قد تكسب بها بطريقة سريعة وفعالة، كما نرى الآن في احتشاد السنة خلف السنيورة، وهو السلاح الأمضى للحكومة الآن، إن أردنا الحقيقة! وهو الذي ربما أربك حسابات السيد نصر الله وفريقه، ولكنه سلاح سريع الخروج من غمده، بطيء الرجوع إليه... إلا بعد أن يدمي ويجرح. نحن لسنا بحاجة إلى نار نوقدها تحت حطب الطائفية اليابس الجزل، فلدينا الكثير و: «كتر خير ألله»، كما يقول اللبنانيون.. وما انتخابات البحرين الأخيرة ذات النفس الطائفي عنا ببعيد، وأيضا بيانات الاسلاميين السلفيين في السعودية، التي تطالب بنصرة السنة في العراق ومحاربة «الرافضة»، وآخرها ما نشرته وكالات الأنباء أمس ووقع عليه شيوخ يحبون مثل هذه الأشياء، مثل ابن جبرين والبراك وناصر العمر، والأخير يبدو أنه يحب كثيرا تحريض السنة وتنبيههم طائفيا، فهو الذي اشتهر قبل فترة بكتابة «تقرير» عن الخطر الشيعي في السعودية.. لسنا بحاجة لكل هذا، بل الى شيء آخر غير هذا. المحزن أن هذه الأمثلة ليست سرا يطوى ولا ينشر، بل هي معروفة وذائعة... فهل من يد بيضاء تلقي ماء باردا على نار الجنون والتعصب في ديارنا، تلك النار التي لا تريد أن تخمد؟! كم نحن تواقون لهذا اليوم... ولهذه اليد. ـــــــــــــــ[c1]كاتب سعودي
|
فكر
نرفض «الطائفية» السنيّة أيضا
أخبار متعلقة