حسن بن سالمتابعت وسائل الإعلام وعلى مدى عدة أشهر قضية صغيرة عنيزة ذات الثمانية أعوام التي قام والدها بتزويجها غيابيا لرجل خمسيني مقابل قضاء دين عليه، وبعد مداولات وجلسات لدى قاضي محكمة عنيزة أصدر حكمه النهائي فيها برفض فسخ نكاح تلك الطفلة. إن قضية طفلة عنيزة ليست هي الأولى من نوعها في أروقة المحاكم السعودية بل هناك عشرات القضايا المشابهة فلقد سبقتها طفلة حائل وطفلة جازان, ومؤخرا نشرت صحيفة الحياة بتاريخ 13يناير 2009 عن رفض رئيس محكمة الجوف لفسخ نكاح قاصرتين لم يتجاوز عمرهما الرابعة عشر .لقد كان الكثيرون ينتظرون تجاه مثل هذه القضايا أن تصدر عقوبات مغلظة من قبل أولئك القضاة تجاه أولئك الآباء المنتهكين والمغتصبين لبراءة تلك الطفولة المسكينة, والذين يسعون لتحقيق رغباتهم الدنيئة وأطماعهم الشخصية من خلال قتلهم لمعاني الطفولة من أنفس تلك الصغيرات, ولكن الكثيرين قد تفاجأوا وصدموا بصدور أحكام قضائية ترفض فسخ مثل تلك الزيجات!!إن هذه الأحكام القضائية لا يمكن لنا النظر إليها بمعزل عن أهم الدعائم والروافد المؤيدة لها ألا وهي الفتاوى الشرعية التي تبيح وتسوغ لكثير من الآباء ارتكاب مثل هذه المآسي والانتهاكات، وليست هذه الفتاوى صادرة من بعض جهلة الخطباء والوعاظ أو كما قد يحلو للبعض أن يعبر عنها بأنها فتاوى شاذة لاعبرة بها وبقائليها, بل إن مثل هذه الفتاوى لم تصدر إلا من قبل أهل الفتوى لدينا وهم كبار العلماء, فلقد نقلت صحيفة الحياة قبل عدة أيام فتوى أثارت الكثير من الجدل بجواز زواج من تجاوز عمرها العشر سنوات وذلك على لسان المفتي العام الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ “أن من تجاوزت العاشرة فهي قابلة للزواج ... ومن يعتقد أنها صغيرة فهو مخطئ” ولقد أثارت هذه الفتوى جدلا كبيرا واستنكارا لدى الكثيرين من الحقوقيين والمختصين وكانت محط استغراب لديهم علما أن هذه الفتوى ليست هي الأولى من نوعها على صعيد المؤسسة الدينية الرسمية, فلقد سئلت اللجنة الدائمة للافتاء من قبل السؤال التالي:ما حكم من خطب بنتا عمرها من سنتين إلى عشر سنوات أو أقل وعقد الملكة، هل يصح زواجه أم لا؟ علما أنه ربما إذا كبرت أنها لا تريده، وما عمر البنت التي يجوز أن تخطب؟فأجابت بأنه يجوز العقد على الصغيرة من أبيها، خاصة إذا رأى المصلحة لها في ذلك؛ لقصة تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعائشة وهي دون التسع، وأما غير الأب فليس له تزويج من دون التسع مطلقا، ولا من بلغ تسعا فأكثر إلا بإذنها .(فتاوى اللجنة الدائمة18/124)بل وأعجب واغرب من ذلك ما أفتى به الشيخ صالح الفوزان في فتوى صوتية له بجواز نكاح الصغيرة حتى لو كانت رضيعة!! فقد قال الشيخ في إجابة له “إن من زوج بنته أو وليته ولو هي صغيرة, ولو هي ترضع يصح الزواج ,فتزويج الصغيرة صحيح”.مثل هذه الفتاوى الصادرة من كبار العلماء هي من أكثر الدواعي لتبرير ذلك الظلم العظيم الذي يقع على هؤلأ الصغيرات من قبل كثير من الآباء والتي هي بلا شك تتصادم مع المقاصد والقواعد العظيمة للشريعة, ولعل من عجائب الزمان أن يحكم قاضي عنيزة الآن بعدم فسخ نكاح تلك الطفلة المسكينة في الوقت الذي أفتى به قبل أكثر من عشر سنوات علامة عنيزة وإمامها الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله بعدم جواز نكاح الصغيرات مطلقا, فقد أسهب الشيخ في شرحه لكتاب النكاح من صحيح البخاري (الشريط 6) في الرد والإبطال لمن يقول بجواز نكاح الصغيرات حيث قال “إن الذي يظهر لي انه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر أن يمنع الأب من تزويج ابنته مطلقا, حتى تبلغ وتستأذن, فإن القول بجوازه يؤدي لمفاسد عديدة, فبعض الناس يبيع بناته بيعا فيقول للزوج: تعطيني كذا وتعطي أمها كذا!وتعطي أخاها كذا! وتعطي عمها كذا! وكم من امرأة (والكلام لا يزال للشيخ) زوجها أبوها بغير رضاها فلما عرفت وأتعبها زوجها قالت لأهلها: إما أن تفكوني من هذا الرجل وإلا أحرقت نفسي وهذا كثير مايقع, لأنهم لايراعون مصلحة البنت, وإنما يراعون مصلحة أنفسهم فقط “.وأما مايحتج به أصحاب القلوب المريضة من قصة زواج عائشة من النبي عليه الصلاة والسلام فقد رد عليهم الشيخ قائلا “أما أن يأتي إنسان طماع لا هم له إلا المال فيأتيه رجل ويقول زوجني بنتك وهي بنت أربع عشرة سنة لم تبلغ بعد ويعطيه مائة ألف ريال فيزوجه إياها ويقول الدليل على ذلك أن ابابكر رضي الله عنه زوج عائشه للنبي. فنقول إن هذا الاستدلال بعيد وضعيف, لأنه لو ما أعطاك المائة ألف ولا أعطاك كذا وكذا ما زوجته ومثل هذه الكلمات من الشيخ رحمه الله تبطل شرعا وعقلا حجج القائلين بجواز نكاح الصغيرات.وما أشبه الليلة بالبارحة كما يقال, فلقد وقف قبل أكثر من ألف سنة قاضي الكوفة وفقيهها ابن شبرمة في وجه علماء زمانه الذين كانوا يفتون الناس بصحة تلك الانكحة ورغم تواطئهم على ذلك الرأي إلا أن ذلك كله لم يمنعه من الصدع بالقول بعدم جواز نكاح الصغيرة حتى تبلغ وتستأذن وان قصة زواج النبي عليه السلام من عائشة إنما هي من خصائص النبي, فما أحوجنا فعلا ونحن في القرن الحادي والعشرين لقضاة ينصفون تلك الصغيرات من جور الآباء لهن وفق ميزان الشرع والعقل كما فعل قاضي الكوفة ابن شبرمة !! لقد شجبت جمعيات حقوق الإنسان لدينا تلك الزيجات باعتبارها انتهاكا لحقوق الطفل وطالبت بسن تشريعات للحد من تلك الظاهرة الخطيرة وظهرت العديد من التصريحات منهم، ولكني أظن أن مثل تلك التحركات لن تجدي نفعا كثيرا في ظل تجدد مثل تلك الفتاوى والاقضية من حين لآخر, مالم تصدر أنظمة واضحة وصارمة بتحديد سن قانونية للزواج ومعاقبة المخالفين من الآباء ومأذوني الانكحة, وقد أعلن مؤخرا المدير العام للإدارة العامة لمأذوني الأنكحة في وزارة العدل، الشيخ محمد البابطين لصحيفة (الحياة) أن الوزارة بدأت في درس عمر أدنى لزواج الفتيات وقال: “النظام الحالي لا يوجد فيه سن أدنى للزواج والموضوع محل دراسة في الوزارة “ فهل ياترى سنرى نتائج قريبة لتلك الدراسة أم أننا سنظل نسمع عن المزيد والمزيد من معاناة صغيراتنا!!
|
مقالات
صغيراتنا بين الفتوى والقضاء!!
أخبار متعلقة