قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريافي الثاني والعشرين من أكتوبر سنة 1909م ، ولد الابن السادس للشيخ محمد نعمان ، في قرية ذبحان في قضاء الحجرية في تعز المتربعة على ذروة جبل شامخ تلامس هامته السماء وتكلله سحب كثيفة بيضاء . في هذا القرية يتوقف عندها التاريخ لكونها سيخرج من معطفها أحد رواد الحرية ، والحركة الوطنية اليمنية أنه الأستاذ أحمد نعمان ، كان والده مثل أهل القرية مطالبه من الدنيا يسيرة ، ولكن هذا الرجل المتواضع ، كانت نفسه تمتلئ بالطموحات العريضة وهي أنّ يكون أبناؤه من العلماء ، حتى يشعر بالفخر أمام الآخرين من أبناء قريته . و طويت صفحات الأيام ، والشهور ، والسنين ، وتعاقب الليل والنهار ، وكبر الطفل احمد بن محمد نعمان وبلغ من العمر سبع سنوات . وفجأة ينتزع من عالمه الجميل الوردي إلى عالم الجد ، والتعب ، والنصب . فقد ادخله والده الكُتاب ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة ، وحفظ القرآن الكريم . وكان الصبي أحمد محمد نعمان ظهرت عليه النجابة وهو صبي فقد تمكن أنّ يتفوق على أقرانه في الكُتاب في حفظ سور القرآن الكريم . وكانت الأقدار تعده أنّ يكون فارس قرية ذبحان ، بل فارس اليمن دون منازع يصارع الاستبداد بمختلف صنوفه وألوانه ، كان سلاحه العلم والمعرفة ، . وتكونت في نفسه الصغيرة الغضة كرهه الشديد للظلم والظالمين . ولقد رأى ولمس ، عمال ، وجنود الإمام يحيى يسومون الناس العذاب الغليظ ، فيفرضون عليهم الإتاوات ، والجبايات المجحفة باسم الإمام ، ومن لم يقدر من أهالي القرية على سداد ما عليه من الضرائب ، فإنه يهلك هو وأهله ، ويكون التشرد من نصيبهم من القرية ، كل هذه الصور البائسة والمشاهد المؤلمة طبعت في وجدان الصبي الصغير وأخذت تنمو ، وتتضخم في نفسه الصغيرة ، وكانت معه في حله وترحاله ، وعندما شب أحمد نعمان عن الطوق ، وصار شابًا يافعًا حلق بجناحيه الرقيقين إلى سماء الحرية الصافية والنقية العريضة والواسعة ، وظل يحارب ، ويقاوم والظلم ، والجور ، والاستبداد ولم تنكسر له قناة لتبديده من سماء اليمن ، وإزاء هذا تعرض الأستاذ نعمان إلى غياهب سجون الإمام يحيى الموحشة ، وكان الموت قاب قوسين أو أدنى منه وذلك بعد القضاء على حركة أو ثورة 48م والذي كان أحد روادها هو ورفيق دربه رائد الحرية الشهيد محمد محمود الزبيري الذي قتل في ظروف غامضة في جبال برط .[c1]إخوانه[/c]ونقترب إلى دار بيت والد أحمد نعمان لنتعرف عن حياته ، أمتلئ البيت بعدد من الأخوان ، والأخوات ، وكان أحمد نعمان السادس من أخوانه في الترتيب ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ، ولكنه بات الأول على أخوانه في طلب الدراسة و العلم والمعرفة ، وبعد مراحل في التعليم الديني الطويل صار أحمد نعمان شيخ جليل ، وعالم كبير يشار إليه بالبنان في قرية ذبحان وما جاورها . ويذكر الأستاذ أحمد نعمان اسماء أخوانه وأخواته ، فيقول : « كان قبلي عبد الحميد ، علي ، عبد الله ، ونعمان ، أنا السادس من الأطفال الذكور، ومن و رائي أيضًا إناث أذكرهم بالأسماء زبيدة ، فاطمة ، وخديجة ، وزينب « . [c1]خطواته الأولى[/c]وكان الصبي أحمد نعمان ، يخطو خطواته الأولى في مشوار حياته يلهو ، ويلعب مع أترابه الذين في سنه والذين لم يتجاوزوا السابعة من العمر . وفي هذا الشأن ، يقول : « . . . قضيت سبع سنين ولم يكن هناك أي شيء أعمله . كنت ألعب في الطرقات في القرية مع الأطفال . . . وكان يحدث بيننا وبين أبناء القرى المجاورة تبادل الرجم بالأحجار ، يغلبوننا أو نغلبهم « . والحقيقة أنّ الحياة الخشنة ، والقاسية الذي كان يعيشها أبناء قرية ذبحان ، وأبناء قرى اليمن بصورة عامة في نفوسهم الصغيرة قوة الشخصية وعلى تحمل الشدائد ، والصبر على المكاره ، والجرأة على اختراق حواجز الصعاب ، . كل هذه الصفات الصلبة التي ذكرناها ، كان يتحلى بها أحمد نعمان النابعة من بيئته الوعرة . وكيفما كان الأمر ، فطبيعة حياة القرية هيئته وشكلته ليتصدى لكافة ألوان الظلم بكل صلابة ، وعزم وفضلاً عن ذلك كانت روحه تنزع إلى التململ , والتمرد ، والثورة وأخذت تترعرع وتكبر شيئاً فشيئاً في نفسه . وعندما اتسعت مداركه العلمية ، وتغيرت مفاهيمه للأعراف والعادات والتقاليد ، والأفكار الجامدة ، والخامدة والتي كانت سائدة في قريته بصفة خاصة واليمن بصفة عامة تكشفت أمام عينيه بأنّ بلاده التي كانت تسمى ( العربية السعيدة ) تعيش في دياجير الظلام الموحش ، وتحكم في ظل إمام مستبد عزلها عن شتى صور الحياة ، والتطور ، والتقدم وأنها صارت في ذيل ركب الحضارة بعد أنّ كانت في التاريخ البعيد تقود ركب الحضارة الإنسانية .[c1]نعمان بك[/c]والحقيقة أنه من المؤثرات المباشرة وغير المباشرة التي أثرت ، وكوّنت شخصية الأستاذ أحمد نعمان في مشوار حياته الأولى هو أنّ أسرته ، كانت لها مكانة مرموقة ، ومشهورة في قرية ذبحان . فقد كان جده نعمان الجد الأكبر للأسرة من الشيوخ المشهورين في قرية ذبحان في أثناء أواخر حكم العثمانيين لليمن . وتولى أعمام أحمد نعمان مناصب خطيرة وهامة في عهد السلطنة العثمانية في اليمن بمنطقة الحجرية , والتقى عمه أحمد نعمان (( بك )) السلطان العثماني محمد رشاد في الآستانة . وفي هذا الصدد ، يقول : « وقد كان هذا الجد ( يقصد نعمان ) يعتبر عمدة (( ذبحان ) ، ويسمى هناك الشيخ نعمان . وقد أنجب أولادًا هم أبي ، وأعمامي ، تولوا السلطة في هذه المنطقة كلها . وعرفت أسرة بيت نعمان بأنهم مشايخ قضاء الحجرية . وكان أبرزهم عمي أحمد نعمان (( بك )) لأنه اتصل بالأستانة ، وذهب مع مشايخ اليمن إلى السلطان محمد رشاد ومنح لقب (( بك )) « . ويذكر الأستاذ أحمد نعمان بأنه على الرغم من الشهرة العريضة التي اكتسبها جده ووالده وأعمامه في ذبحان ، وقضاء الحجرية ، كانت حياتهم يسيرة ، ومتواضعة كحياة أهل القرية البسطاء ولم يعيشوا في الترف والنعيم ، والبذخ ، كما قد يتصور الآخرين لكونهم كانوا قريبين من العثمانيين في اليمن . وفي هذا الشأن ، يقول : « . . . لكن الأسرة كانت تعيش في بساطة ، فلا تجدون فرقا بينها وبين الآخرين ، والعيشة عيشة شظف ، مثلاً نتناول في الصباح قطعة من العيش ( الخبز ) ، ونذهب إلى الكُتاب . . . « . والحقيقة أنّ تولي أعمامه مسؤولية السلطة في قضاء الحجرية في عهد العثمانيين ، جرت عليهم سخط ، وغضب الإمام يحيى بعد أنّ تولى مقاليد الحكم في اليمن بعد خروجهم منه سنة 1918م بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى من إنجلترا وفرنسا . وكيفما كان الأمر ، ومن المحتمل أنّ شخصية الأستاذ أحمد نعمان ولدت في نفسه الصغيرة الاعتزاز، والكرامة بالنفس لكون أعمامه كانوا من الشخصيات البارزة في قضاء الحجرية ـــ كما قلنا سابقاً ــــ بالإضافة إلى روحه المتمردة والقلقة بأنّ يكون الناطق الرسمي لطموحات وتطلعات الناس إلى أنوار فجر الحرية ، والعدالة ، والمساواة في اليمن .[c1]في الكُتاب[/c]والحقيقة أنّ الكُتاب في القرية أو القرى اليمنية كانت لها الفضل الكبير بأنّ خرج من معطفها الكثير من رواد حركة الأحرار اليمنيين ، فقد غرست البذور الأولى للعلوم والمعرفة في عقول ، ونفوسهم التواقة والمتعطشة لبزوغ فجر الحرية . وعلى أكتافهم تحملوا مسؤولية الدفاع عن حقوق المظلومين أمثال رائد الحركة الوطنية الأستاذ أحمد نعمان ، ورائد الحرية الشهيد الزبيري وغيرهما من رواد الحركة الوطنية اليمنية الذي أناروا طريق الحرية في أصعب ، وأعقد ، وأحلك الظروف في عهد الإمام يحيى . حقيقة لقد وصف الأستاذ أحمد نعمان حياة الكُتاب وصفاً قاتمًا . وكيف كان الكثير من الصبيان أو النشء يفرون من الكُتاب ليس تهربًا من العلم ولكن فرارًا من القمع الذي كان يسود الكُتاب على يد الفقيه والذي يظن الأخير أنّ الضرب والقسوة هما أفضل وسيلة لتعليمهم مثل السلطات الإمامية التي ترى أنّ أفضل وسيلة لتكميم أفواه الناس ، والخضوع المطلق للإمام وسلطاته المستبدة هو استخدام القوة المفرطة ، وإلقاء الناس في غياهب السجون المظلمة . [c1]من الصور الحزينة[/c]ومن الصور البائسة ، الحزينة الذي التقطها لنا الأستاذ أحمد نعمان عن الكُتاب . أنّ الصبيان كانوا يدرسون في الكُتاب طوال النهار , وبطونهم خاوية. وعندما يتعطف عليهم الفقيه ، يمنحهم نصف لقمة ( الخبز ) أو ( الكّدمة ) ـــ وهي نوع من أنواع الخبز ، كان مشهوراً في تلك الفترة في اليمن ـــ . فكانوا يلتهمونه بشراهة . ومن الصور الطريفة والحزينة في آن واحد . عندما روى الأستاذ نعمان كيف كان هو أو أخوانه يتضورون جوعًا أثناء تناول وجبة العشاء فيقول : « وبعد الانتهاء من صلاة العشاء ندخل في ليلِ ِ مظلم ننتظر العشاء . ويأتي العشاء وهو وجبات من الأطعمة ... يسمونها (( الفته )) وهي خبز بالمرق . نتحلق في حلقات ... فيأخذ كل واحد لقمتين أو ثلاث حسب شطارته . والمسكين يأكل لقمة واحدة ... ثم يذهب لينام على الطوى « . وما أكثر الصور البائسة والحزين والقاتمة الذي التقطها الأستاذ أحمد نعمان في مسيرة حياته .[c1]الرحيل إلى زبيد[/c]وبعد ثلاث سنوات في الكُتاب حفظ الصبي أحمد نعمان القرآن الكريم ، وانتقل بعدها إلى (( مكتب )) أفتتحه العثمانيين وهو أشبه بمدرسة ، مستواه التعليمي أعلا من الكتاتيب أو الكُتاب ، تعلم فيه القراءة والكتاب ، ومبادئ الحساب . ومثلما كان الفقيه في الكتاب غليظ القلب على التلاميذ ، كان أيضاً ( الخوجة ) أي مدرس المكتب العثماني خالِ ِ من الرحمة والأحاسيس والمشاعر . ومثلما أظهر الصبي أحمد نعمان في الكتاب تفوقه ، حقق أيضًا تفوقا كبيرًا في المكتب العثماني أو المدرسة العثماني بين أقرانه . ولم تتوقف طموحات الصبي أحمد نعمان عند الكتاب أو المكتب العثماني ، فقد كانت نفسه متشوقة ، ومتعطشة ، ومتلهفة إلى دراسة العلوم الشرعية وفروعها المختلفة في مدينة زبيد مدينة العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء . وكيفما كان الأمر، فقد فكر وقرر الأستاذ أحمد نعمان الرحيل إلى زبيد ليكون عالمًا من علماء اليمن أو على اقل تقدير عالمًا من علماء قرية ذبحان في الحجرية . ولم تمض سنوات قليلة حتى نال الأجازة العلمية من علماء مسجد وجامع الأشاعر في زبيد . وعندما أنهى دراسته العلمية هناك ، استقبل في قريته ذبحان بحفاوة بالغة ، وصار عالمًا من علماء قرية ذبحان يأتون أهلها إليه من كل حدب وصوب يطلبون الخير على يديه . وفي هذا الشأن ، يقول الأستاذ نعمان : « رجعت ( أي من مدينة زبيد ) عالمًا من العلماء لألبس العمامة ، والقميص المكمم ، والعصا بيدي . وأصبحت أعقد الحلقات « . ويذكر الأستاذ نعمان كيف أنّ الجهل ، كان مسيطرًا على عقول ونفوس أهل قريته ، فيقول : « وكان الناس يأتون إلى عقيدة ، وحسن ظن . منهم من يطلب الدعوة الصالحة ، ومنهم من يطلب النفحة . والمرأة الوالدة التي يصاب أبنها بحمى يأتون إلىّ لأكتب لأبنها تميمة « . [c1]الحرب اليمنية الإنجليزية[/c]وتمضي الأحداث السياسية سريعة ومتلاحقة في اليمن . فقد اندلعت الحرب بين السلطة الإمامية والسلطات الإنجليزية في عدن سنة 1927م ، وتمكن الإنجليز بسهولة من هزيمة الجيش ألإمامي المظفر ، والاستيلاء على الضالع . وكان من نتائج هزيمة الإمامة يحيى في هذه الحرب أنّ سقطت هيبته أمام رعيته اليمنيين ، وأظهرت مدى تخبطه وضعفه في مواجهة القوى الخارجية من جهة مما جعل الإمام يقوي من قبضته على الناس ، وخاصة الذي تحوم حوله الشبهات بأنه يتمرد على سلطاته . وكيفما كان الأمر ، فقد أماطت هزيمة الإمام وهو وجيشه المظفر اللثام الحقيقة المُرة للأستاذ نعمان وغيره من رواد الحركة الوطنية بأنّ اليمن غارق في مستنقع الجهل و والتخلف حتى أذنيه . ويروي الأستاذ نعمان بعضًاً من وقائع الحرب اليمنية الإنجليزية التي تدل بوضوح على مدى العجز والجهل الذي أصاب السلطات الإمامية. كان الإمام يأمر الناس عندما يرون الطائرات الإنجليزية المغيرة أنّ يتلو سورة ( الفيل ) في المساجد . ويذكر الأستاذ نعمان في معرض حديثه عن عدن ، بأنّ أخيه ، كان متفتحاً لكونه كان يعيش فيها . وكانت عدن نافذة اليمن على العالم . وكان اليمنيون من أبناء قرية ذبحان أو غيرها من قرى اليمن في عدن يقرءون الجرائد ، والمجلات المختلفة مما وسع مداركهم الثقافية ، وأدركوا البون الواسع والشاسع بين بلادهم التي تعيش في نفق مظلم . وكل تلك الأمور الذي عاصرها الأستاذ نعمان كونت في عقله نفسه ضرورة خروج اليمن من ضيق التخلف إلى سعة التقدم والازدهار .[c1]محمد أحمد حيدرة[/c]في يوم من الأيام ، قدم من عدن إلى قرية ذبحان بقضاء الحجرية مدرس شاب اسمه محمد أحمد حيدرة والذي سيكون له تأثير عميق على حياة الأستاذ نعمان . كان هذا المدرس شابًا يتحلى بثقافة متفتحة ، كان يُدرس التلاميذ الجغرافيا ، والتاريخ ، وأعطى لتلاميذه معلومات جديدة ومثيرة عن أمهم الأرض ، والشمس ، فكان ، يقول له أنّ الكرة كروية ، وأنّ الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور . وعندما عرف الأستاذ أحمد نعمان أنّ محمد حيدرة يعزف على العود أقام الدنيا ولم يقعدها . ويقول الأستاذ نعمان أنه شن حملة شعواء على الأستاذ حيدرة وكان من نتيجة ذلك أنّ « سفروه( سافر) إلى عدن ، ورجع الأولاد إلى المدرسة . وابتدأت النشاطات في المدرسة من رياضة ، وكشافة ، وأناشيد . حتى الحكومة كانت تقرر لهم الأناشيد. وكان الأستاذ حيدرة ، قد أتاهم بنشيد ، يقول فيها : الوطن ، الوطن ، يا شباب اليمن ، ما له من ثمن ، غير أرواحنا « . وعلى الرغم رحيل المعلم حيدرة عن قرية ذبحان إلاّ أنه وضع بصمات مشرقة زلزلت الكثير من المفاهيم التقليدية والجامدة التي كان يعتنقها ويؤمن بها الأستاذ نعمان مما يدفعه إلى إعادة المعلم حيدرة إلى القرية مرة أخرى ، ويشد من أزره .[c1]مؤثرات ثقافية [/c]ويروي الأستاذ أحمد نعمان بصراحة متناهية أنه بعد تفكير ، وتأمل عميقين ، شعر بينه وبين نفسه بأنه مسرورًا من الذي فعله الأستاذ حيدرة . والحقيقة أنّ الأستاذ نعمان هبت عليه رياح التغيير أو بعبارة أخرى مؤثرات ثقافية جديدة أثرت في رؤيته للحياة بصورة عامة ، والحياة السياسية بصورة خاصة . وفي هذا الصدد ، يقول الأستاذ نعمان : « أصبح المقصود عندي هو التطلع ومعرفة الجديد ، تعلم الجغرافية ، والتاريخ وغير ذلك . وحين بدأت ، وقع في يدي كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي ، وكتاب هدي الرسول لمحمد أبو زيد . وكنت قد انتقلت من كتب الفقه إلى مرحلة السُنة إلى الفكر الإسلامي الخالص . الدراسة الأولى كانت دراسة إسلامية ولكن محشوة بالخرافة . فانتقلنا إلى مرحلة الديانة الإسلامية المجردة من الخرافة « . ويمضي في حديثه : « وجاء كتاب طبائع الاستبداد ، وكتاب هدي الرسول ، وإذا بنا ننتقل إلى الحكم والسياسة إلى طبائع الاستبداد وطبائع المستبد . المستبد هو الذي يريد يضع قدمه على أفواه الملايين ... «. وعندما أدرك الأستاذ أحمد خطأه الفادح في حق الأستاذ حيدرة عمل على أعادته ، وأعد له منزلا لائقاً ، وحشد له التلاميذ ، « وأطلق لهم الحرية . وقام هو « بتدريس اللغة العربية بأسلوب حديث « .[c1]روحه المتمردة[/c]والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل رياح التغيير الثقافي أو التيارات الثقافية التي هبت على الأستاذ نعمان هي من العوامل الرئيسة التي غيرت من رؤيته للأوضاع والظروف السياسية في اليمن أمّ هناك أسباب أخرى ؟ . والحق يقال ، أنّ الأستاذ نعمان ، كانت روحه الوثابة والقلقة ، والمتمردة . كانت الأرض الخصبة الصالحية على استعداد كامل في تقبل بذور المعارضة الحقيقية و الوقوف في وجه الاستبداد أيًا كان شكله أو لونه . وعندما صافحت عينيه الحياة الثقافية الجديدة زادت من قوة وصلابة روحه ونفسه الصمود والتصدي للظلم والظالمين . وهذه الميزة في الأستاذ أحمد سنجدها دائمًا معه لا تفارقه ولذلك عندما ظهر له أنّ بعض الانتهازيين يريدون أنّ يستفيدوا من ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة لأغراضهم الخاصة تصدى لهم بكل صلابة وقوة . والحقيقة أنّ الأستاذ نعمان كان يرى أنّ مصلحة اليمن فوق أية اعتبار ولذلك نجده يدخل في خصام شديد مع القيادة السياسية في الجمهورية العربية المتحدة ( مصر ) حينذاك وعلى رأسهم الرئيس جمال عبد الناصر مما دفع الأخير أنّ يزج به في السجن الحربي بمصر بسبب صراحته وجرأته على تصرفات القيادة المصرية في أثناء حرب اليمن والذي كان يرى الأستاذ نعمان أنّ مصر عبد الناصر يجب ويتوجب أنّ تكون فوق الشبهات . وكان دائمًا مؤمنًا الأستاذ نعمان بأنّ حل المسألة اليمنية لن يحلها سوى أبناءها ولهذا السبب أو الأسباب دخل في خصومات حادة مع كبار المسئولين المصريين ومن بينهم الرئيس أنور السادات الذي كان المسئول على ملف اليمن , وكان وقتها رئيسًا لمجلس الأمة المصري والذي لم يكن يعرف عن عوامل اليمن الطبيعية والبشرية شيئاً . والحقيقة أنّ روح الأستاذ نعمان لم تكن روح متمردة من أجل التمرد ، وإنما كانت متمردة من أجل إرساء دعائم الحق ، والعدالة ، والحرية في تراب اليمن العزيز . [c1]مدرسة الحجرية[/c]في حدود سنة 1935م ، أسس الأستاذ نعمان مدرسة الحجرية ، وكانت هذه المدرسة شمعة مضيئة في ظلام ليل اليمن الدامس . فقد كانت تدرس المواد التعليمة الحديثة من جغرافية ،تاريخ ، و حساب ولم تمضِ شهور معدودات حتى اشتهرت المدرسة في قرية ذبحان والقرى المجاورة لها واقبل التلاميذ عليها من كل مكان . وترامت شهرتها أو قل إذا شئت خطورتها إلى مسامع سلطات الإمام يحيى الاستبدادية فحامت حوليها الشكوك من قِبل سلطات الإمام بأنها تخرب عقول الصغار ، وتدمر نفوسهم ، ولغرض القضاء على هذه المدرسة التي تدرس المواد العلمية على الطراز الحديث ، أرسلوا الأمير القاسم بن الإمام يحيى حميد الدين ليطلع على حقيقة أوضاع المنهج التعليمي للمدرسة الحجرية . وكانت من نتائج زيارة الأمير القاسم ، أنّ تم طرد الأستاذ حيدرة الذي تحدثنا عنه من قبل قليل والذي بذر بذور المنهج التعليمي الحديث في مدرسة الحجرية أو بعبارة أخرى فتح آفاق واسعة وجديدة في أذهان التلاميذ في قضاء الحجرية بتعز . وفي هذا الشأن ، يقول الأستاذ أحمد نعمان : « وذهب ( أي الأمير القاسم ) إلى الإمام الذي أمر بسحب الأستاذ حيدرة فأخرجوه حالاً ، وأتوا بمعلمين آخرين إلى المدرسة ، بعد هذا الحادث سحبت نفسي وقررت أنّ أذهب إلى الحج . وكانت بعثة مصرية ، قد جاءت إلى اليمن زارت بعض مناطق اليمن ، ووصلت إلى المدرسة ، وأعجبت بها وكتبت عنها . سمعوا التلاميذ يخطبون ويدردشون وأعجبوا بهم « . ونستخلص من ذلك أنّ الأستاذ نعمان وجد أنه أفضل وسيلة لمحاربة سلطات الأمام يحيى القمعية هو التعليم ، فهو أمضى سلاح وهو الذي سينقل اليمن من التخلف إلى التقدم في مختلف نواحِ الحياة . ولذلك ركز جهوده في تأسيس المدارس التي تفتح آفاق واسعة ورحبة للتلاميذ من خلال الدروس العلمية الحديثة وبذلك يصبح الجيل الجديد قادرًا على تحمل المسئولية في قيادة البلاد إلى بر الازدهار ، والرخاء ، والخير ، والتقدم ، وقبل هذا كله نشر أنوار فجر الحرية في سماء اليمن . [c1]في مصر[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد قرر الأستاذ أحمد نعمان بعد الحج أنّ يلقى عصا الترحال في مصر أم الدنيا لينهل من ثقافتها الرائعة ، و معارفها الكثيرة ، وعلومها الحديثة . فحاول الدخول في جامعة فؤاد الأول ( القاهرة حاليًا ) ولكنه رفض طلبه بسبب عدم وجود الشهادات العلمية التي تؤهله للقبول بها . وتوجه بعد ذلك إلى الأزهر الشريف للحصول على الشهادة العلمية منها , ويحكي الأستاذ نعمان كيف امتحن في الأزهر ، فيقول : « ذهبت إلى الأزهر . استقبلت هناك وامتحنوني . وكان الامتحان قراءة آيات من القرآن . أخذت أقرأ ، ولما قرأت دهشوا . وقالوا ما شاء الله بارك الله فيك . قالوا لي : هل تعرف اللغة العربية ، والنحو ! . قلت لهم : أعرف ولكن ليس مثلكم . فقالوا لي : يجب أنّ تنتسب حالاً ، وسجلوا أسمي ودخلت الأزهر « . [c1] مع جريدة << الشورى >> الفلسطينية[/c]وانطلق الأستاذ نعمان كالفرس في ميدان الصحافة ، وظهرت مواهب قلمه في صفحات جريدة « الشورى « لصاحبها ورئيس تحريرها الصحفي الفلسطيني الكبير أبو الحسن محمد علي الطاهر والذي أسسها في يافا بفلسطين سنة 1924م . وفي مكتب « الشورى « التقى بعدد غير قليل من الكتاب والأدباء الكبار مصريين وعرب ومنهم أمير البيان شكيب أرسلان الذي توثقت علاقته به لدرجة أنّ الأخير طلب من الأستاذ نعمان وهو في سويسرا أنّ يسافر إليه ليعلم أبناءه اللغة العربية ولكن حالت الظروف ذلك . وكيفما كان الأمر ، فقد كسب الأستاذ نعمان ثقة وتقدير الصحفي الفلسطيني الطاهر . وكتب الأستاذ نعمان على صفحات « الشورى « الأوضاع اليمنية الصعبة والقاسية التي تعيشها من جراء حكم سلطة الإمام الاستبدادية , ولكن لم يذيل مقالاته باسمه ، فقد ظنت سلطات الإمام أنّ الذي يكتب هذه المقالات عن اليمن هو الصحفي أبو الحسن الطاهر . ويروي الأستاذ أحمد نعمان قصته مع جريدة « الشورى « ، فيقول : « ومنذ ذلك الوقت بدأت أكتب القصص عن أوضاع اليمن ، فيقوم أبو الحسن بنشرها في جريدته . وعرف في اليمن بأنه هو الذي ينشر هذه القصص ، وفرحت أنا بذلك لأنه يجنبني وأسرتي عقاب الإمام ومسؤوليه في المنطقة « . ويذكر الأستاذ نعمان عن رسوبه في امتحان الأزهر بسبب اهتمامه الكبير في كتابته عن اليمن في صفحات جريدة « الشورى « وصار الأستاذ نعمان من المحررين الرئيسيين الذين يعتمد عليهم أبو الحسن الطاهر في الأشراف على مقالات ، وكتابة عناوين الجريدة. ولكن في الأخير استطاع الأستاذ نعمان أنّ ينال إجازة الأزهر الشريف .[c1]مع رفيق درب النضال[/c]وفي مصر جاء الشاعر رائد الحرية الشهيد محمد محمود الزبيري وهناك التقى الأستاذ نعمان واللذين رأيا أنّ الأوضاع والظروف السياسية في اليمن تتدهور يوماً بعد يوم . وأكبر الظن أنّ الأستاذ نعمان ، والشاعر الزبيري ، قد عزما أنّ يرسيا في اليمن مبادئ الحرية وإخراج اليمن من عزلتها الخانقة ، وأنّ تأخذ بأسباب الرقي والتقدم . وعلى الرغم من أهمية اللقاء بين الأستاذ نعمان ، والشاعر الشهيد محمود الزبيري في مصر إلاّ أنّ صفحات المذكرات تصمت عن الحديث عن تلك الفترة الهامة من تاريخهما أو بعبارة أخرى عن البدايات الأولى في نضالهما في الحركة الوطنية . ومن المحتمل ، أنّ لقاء الأستاذ نعمان والزبيري في مصر ، كانت القاعدة الأولى والصلبة التي انطلقا منهما لخروج اليمن من النفق المظلم إلى الآفاق الرحبة من التطور ، والتقدم . ومن اللافت للنظر ، أنّ الشاعر الزبيري لم يأتِ ذكره على صفحات جريدة « الشورى « أو بعبارة أخرى لم يذكر الأستاذ نعمان من قريب أو بعيد أنّ محمود الزبيري التقى بصاحبها ورئيس تحريرها أبو الحسن الطاهر ، وكتب في صفحاتها على الرغم أنّ الزبيري ، شاعرًا مجيدًا ، وكاتبًا كبيرًا ، وأديبًا بارعًا . وكيفما كان الأمر ، فإنه من الأرجح أنّ الأستاذ نعمان ، والزبيري ، قد قررا أنّ يوقظوا اليمن من سُباته العميق ، وينفضوا عنه غبار الجهل ، والكسل ، والخمول . وكان ( دون شك ) يدركان خطورة ما هما قادمان عليه ولكن كان الهدف مقدس وأسمى ، ولا بد من التضحيات من أجله بكل ما غالِ ونفيس . [c1]مخادعة إمامية[/c]في سنة 1938م ، تولى ولي العهد أحمد إمارة تعز الذي سيصير إمامًا في سنة 1948م ، بعد مقتل والده الإمام يحيى وفشل الحركة الدستورية ، وكان يتقرب من الأدباء ، والمثقفين والمفكرين الذين يجلسون في مجلسه . وهذا ما أكده الأستاذ نعمان ، قائلاً : « كان يغري الشباب ويستميلهم ويغري الكتاب ، والأدباء» . والحقيقة لقد أثبتت الأيام أنّ ولي العهد لم يكن في يوم من الأيام حفيًا بإدخال الإصلاحات في اليمن ، وكان يضيق صدره بالرأي الآخر . والحقيقة كان هناك تنافس شديد بينه وبين سيف الإسلام عبد الله بن يحيى على جذب الأدباء ، والكتاب ، والمثقفين إلى جانبهما . ولقد أكلت الغيرة قلب ولي العهد أحمد عندما أصدر السيف عبد الله جريدة « الحكمة اليمانية» سنة 1938م . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « ... ظل موقف السيف عبد الله من المجلة موقف المتبني لها ليظهر بالمظهر المتحرر أمام الأحرار والمثقفين ، وجرهم إلى صفه المنافس لأخيه سيف الإسلام أحمد ... « . وفي موضع آخر ، يقول سيد سالم : « ففي الوقت الذي تحمس فيه السيف عبد الله لإصدار (( الحكمة )) ، والتقرب من الشباب والمثقفين في صنعاء ، كان السيف أحمد يستقطب أيضاً في تعز الأدباء ، والشعراء ، والمثقفين ، الذين كانوا يجدون فيه ـــ أو يأملون فيه على الأقل حينذاك ـــ وجه المستقبل الأفضل , فقد حاول هناك أنّ يجعل من نفسه حارسًا ومشجعًا للأدباء ، والمفكرين ، فأوى إلى مقامه ( أي ديوانه ) الكثير من اللامعين مثل الموشكي ، والحضراني ، والفسيل ، والشامي ، والأستاذ نعمان ، والزبيري ، والمعلمي ، والعنسي وغيرهم ، ولذلك لم يعارض ظهور المجلة ، بل تمنى لو صدرت بتعز « . ولقد انتهت قصة التنافس الحاد بينهما بصورة مأساوية عندما حاول سيف الإسلام عبد الله الإطاحة بالإمام أحمد من سدة الحكم ، ولكن فشلت محاولته ، وقتل بيد سيف أخيه أحمد ، وعرفت تلك الحركة بحركة الثلايا سنة 1955م .[c1]من عدن اندلعت حركة 48م[/c]قلنا سابقاً : أنّ ولي العهد أحمد بن يحيى ـــ حينذاك ـــ لم يكن حفيًا ، وصادقا بإدخال إصلاحات جادة في اليمن لتكون في مصاف الدول العربية المتحضرة مثل مصر ، العراق ، وسوريا . وكان يخفي وراء حقيقته البشعة قناع من الزيف ، والأباطيل ، والدكتاتورية . وفي الوقت الذي كان الناس يشكون الأمرين من الفقر ، والفاقة بسبب شحة الأمطار ، وحصار السواحل اليمنية من جراء الحرب العالمية الثانية ، كانت الضرائب تلاحقهم وتثقل كاهلهم مما كانت تزيد من آلامهم . وفي هذا الصدد ، يقول : الأستاذ نعمان : « . . . كان بعض زملائي مثل الزبيري ، وزيد الموشكي وغيرهما يشكون نفس الشكوى لأنهم يشعرون مع الناس بكل هذا . فبدأ الإمام يرتاب على الرغم من أنه كان يوجد بينه وبيننا ود ومجاملات وإعجاب . ولكن حينما تأتي فكرة إصلاح ، كان ينفر منها نفورًا كبيرًا ، ينفر من أية فكرة إصلاحية أو من إبداء رأي . ويبدو أنّ الأستاذ نعمان ، والزبيري ، وزيد الموشكي وغيرهم رؤوا أنّ محاولة التغيير في اليمن على يد ولي العهد أحمد باتت غير مجدية ولذلك قرروا الفرار إلى عدن التي كانت نافذة اليمن على العالم . والمتوهجة بشتى التيارات الثقافية المختلفة . ومن هذه المدينة الساحرة الساحلية المتحكمة بمدخل جنوب البحر الأحمر ، رفع الأحرار اليمنيين الأستاذ نعمان ، والزبيري ، وغيرهما لواء التجديد والتغير والثورة على سلطات الإمام يحيى الاستبدادية . وشكل الأستاذ نعمان ، والزبيري « حزب الأحرار اليمنيين « وبعدها « الجمعية اليمنية الكبري» ، وأصدرا مجلة « صوت اليمن « . وكانت تلك الأمور من الأسباب الرئيسة في التمهيد للحركة الدستورية سنة 48م في اليمن . وما عرضناه عن قصة حياة الأستاذ نعمان رائد الحركة الوطنية قليل من كثير الذي ضحى بكل غالِ ِ ونفيس لتكون بلاده اليمن في مقدمة الأمم مثلما كانت في مقدمة الأمم في فجر أنوار الحضارة الإنسانية .[c1]الهوامش : [/c] مذكرات أحمد محمد نعمان ، مراجعة وتحرير : الدكتور علي محمد زيد ، الطبعة الأولى 2003م ، مكتبة مدبولي 6 ميدان طلعت حرب ـــ القاهرة ـــ . دكتور سيد مصطفى سالم ؛ مجلة « الحكمة « اليمانية 1938 ـــ 1941 : جمع المقالات : علي أحمد أبو الرجال ، الطبعة الأولى 1425 هـ / 2004م ، وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية .